كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عصفور الزيبرا
رائع حقًّا! أهداني صديق زوجين من طيور الزيبرا. وضعهما بداخل قفص بسيط من أعواد البامبو المضفرة، بداخل القفص كانت توجد أيضًا لفافة من العشب الجاف، التي كانت بمنزلة عش دافئ ومريح لهما.
يقال: إن هذا نوع من الطيور يهاب البشر.
عَلقت القفص أمام النافذة، حيث كانت هناك أصيصة لنبات الغيلان الفرنسي مزدهرة بشكل غير عادي. قمت بتغطية القفص بأوراق نبات الغيلان الخضراء والطويلة الممتدة، فشعر العصفوران بأمان كأنهما توارا وسط غابة نائية هادئة، وباتا يطلقان من هناك تغريدات رقيقة رنانة أشبه بصوت المزمار، كما بدا عليهما أنهما في منتهى الارتياح وهدوء البال. كانت خيوط الشمس تتخلل النافذة، منسابة إلى الداخل؛ مما جعل أوراق الغيلان الصغيرة الكثيفة التي تشبه الأظافر منقسمة إلى جزأين: أحدهما مظلل والآخر مضيء، فغدت كحجر اليشم، مرقشة وخضارها يضفي حيوية ونضرة.
كان ظل العصفورين يظهر ويختفي كوميض داخل القفص. أما القفص، فأحيانًا كان يصعب رؤيته، لكن كان يمكن رؤية منقار العصفورين اللطيفين الصغيرين الزاهيين في حمرتهما ممدودين من بين الأوراق الخضراء. قلما كنت أزيح أوراق النبات المنبسطة لألقي نظرة عليهما -وهما أيضًا- أصبحا تدريجيًّا يجرؤان على أن يطلا برأسيهما الصغيرين وينظرا إليَّ، وبهذا الشكل أَلفَ كل منا الآخر إلى حد ما.
بعد مضي ثلاثة أشهر، انبعث من بين النبات الكثيف المتمادي في النمو والازدهار صوت تغريدة حادة، لكنها ناعمة ورقيقة. خمنت أنه قد صار لديهما مولود صغير. فماذا فعلت أنا حينذاك؟ بالتأكيد لم أزح الأوراق لألقي نظرة إلى الداخل، وظللت أفعل الشيء نفسه، حتى عندما كنت أضع لهما الطعام وأزودهما بالماء، لم أزعجهما بنظرات يملؤها الفضول. لم يمضِ وقت طويل، حتى ظهر بغتة رأس صغير من بين النبات. آه هذا عصفور أصغر، إنه المولود الصغير!
كان صغيرًا، وبوسعه أن يتسلل ويخرج من بين قضبان القفص بكل سهولة ويسر. انظر، كم يشبه أمه، له منقار وساقان حمراوان، وريش رمادي الزرقة، فقط لم تكن النقطة البيضاء المستديرة قد نمت بعد على ظهره، كباقي عصافير الزيبرا؛ كان بدينًا جدًّا، وجسده أشبه بكرة شعثاء. في البداية، كان يتحرك العصفور الصغير في إطار القفص فحسب، ولكنه بعد ذلك أصبح يضرب بجناحيه محلقًا في الغرفة رائحًا غاديًا، تارة يهبط أعلى الخزانة، وتارة يقف فوق المكتبة متألقًا متباهيًا بنفسه، وتارة ينقر أكعبة الكتب المنقوش عليها أسماء فطاحل الأدب، وأخرى يرتطم بسلك المصباح فيجعله يتأرجح ذهابًا وإيابًا، وفي الحال يقفز لينتقل إلى الوقوف على برواز اللوحة، لكنه سرعان ما كان يعود طائرًا في الحال إلى القفص، بمجرد أن يصدر العصفوران الكبيران تغريدات غاضبة.
تجاهلته. وظللت أفعل هكذا لوقت طويل؛ كنت أفتح النافذة، وكان أقصى ما يفعله هو أن يقف على إطارها لبعض الوقت، دون أن يطير مندفعًا صوب الخارج مهما حدث.
استجمع جسارته رويدًا رويدًا، وسرعان ما أصبح يهبط على مكتبي. كان في البداية يقف بعيدًا مني، وعندما توسم أنني لن ألحق به أذى، أخذ يدنو مني شيئًا فشيئَا، ثم بات يقفز فوق فنجاني، ويحني رأسه إلى أسفل ليحتسي الشاي، ثم يرفع رأسه مرة أخرى ليرى ردة فعلي. أما أنا فكنت أبتسم له ابتسامة خفيفة، وأواصل الكتابة كما كنت أفعل. لكنه سرعان ما أطلق لشجاعته العنان، أخذ يتقافز حتى وصل فوق الورقة، وغدا يدور متقافزًا حول سن قلمي هنا وهناك، كانت مخالبه الصغيرة الحمراء المحتكة بالورق تحدث صريرًا.
واصلت الكتابة من دون أن أحرك ساكنًا، وأخذت أستمتع بمودة الطائر الصغير في سكون. وبهذا الشكل، اطمأن قلبه تمامًا. وسرعان ما أصبح ينقر قلمي المتحرك بمنقاره الأحمر الصغير الذي يشبه شمعة مطلية. حسَّست بيدي على ريشه الأملس الرقيق، وهو أيضًا لم يخف، بل على العكس، نقر أصابعي مرتين برفق ورقة. كان يرافقنى كظلي كل الصباح، وعندما يصبغ الشفق السماء بلونه، كان يطير صوب القفص عائدًا، إثر تغريدات ثلاث متتالية من والديه، كان جسده المستدير الملتفّ، يزيح أوراق النبات الخضراء ويخترقها إلى أن يدخل القفض. ذات يوم، هبط على كتفي دون تمهيد، بينما كنت منكبًا على الكتابة، فأوقفت حركة القلم الذي كنت أمسك به بشكل لا إرادي؛ حتى لا أفزعه فيفرّ هاربًا. بقي لبرهة، وعندما استدرت لأراه، كان الصغير قد أمال رأسه إلى الأسفل وغط في نوم عميق على كتفي، كان وجهه الفضي يحجب عينيه، أما قدماه الحمراوان الصغيرتان فكان قد كساهما الريش الطويل الرفيع الذي يملأ صدره. رفعت كتفي بخفة، لكنه رغم ذلك لم يستفق، كان مستغرقًا في النوم ، إضافة إلى أنه كان يصدر صوتًا من فمه، أكان يحلم؟
أول ما تحرك سن قلمي، تدفقت منه المشاعر التي لمستني حينذاك: الثقة تخلق دائمًا عالمًا بهيجًا.
————————-
٭ فنغ تـچي تساي ولد عام (1942م) كاتب وروائي ورسام صيني معاصر، ويُعَدّ واحدًا من أكبر الكتاب الصينيين المعاصرين وأهمهم، ولد في مدينة تيان تچن، هو الآن عميد معهد فنغ تـچي تساي للأدب والفنون بجامعة تيان تچين. له اهتمامات أدبية؛ موسيقية وفنية كثيرة، له إنتاج كبير من الأعمال الأدبية التي تعكس حياة المثقفين الصينيين، وكذلك تروي قصصًا تاريخية متعلقة بالمدينة التي يعيش فيها.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق