المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

اسم في الليل

بواسطة | أغسطس 31, 2017 | سرد, نصوص

كان جالسًا في مضيفة الطابق الأول من بيته الريفي وقد أراح رأسه على المسند الخلفي بعد أن نام الأولاد وخيم الهدوء. تناهت إليه أصوات غريبة مدغومة كموجة من ظلمة. نهض. خرج بالجلباب إلى الشرفة المفتوحة على الحديقة. كانت السحب تغطي وجه القمر والليل شديد القتامة. مال برقبته يلقي نظرة على أرضه الممتدة خلف الحديقة. لا حركة ولا صوت. قبل أن يستدير عائدًا للداخل سمع الأصوات تقترب واضحة. دبيب أقدام مهرولة، ضجيج وصيحات، ثم شق الأجواء صوت يصيح بكلمة «غريب» كأنما تحذير أو استنفار. تنبهت حواسه كلها. لا معنى لكلمة «غريب» في ليل القرية سوى أن أحد الأشقياء سطا على زرع أو ماشية أو هجم على بيت يسرقه. فجأة تقصف سكون الليل من هزيز الرصاص. دوي متلاحق بومض من لهب برتقالي. انطلق إلى الداخل بسرعة. سحب بندقيته. اختطف تلفيعة صوفية من على مقعد ألقى بها على كتفيه وركض إلى الخارج. توقف عند بوابة البيت. زر عينيه في العتمة ليرى مصدر الصوت.

لمح على الطريق الضيق المحاذي للترعة كتلة بشرية تتحرك داخل شبورة. هرول فوق الجسر الخشبي وأدرك الرجال هناك. احتشدوا في حلقة بعضهم يحمل البنادق والبعض يمسك بشوم غليظ، يتبادلون المشورة بكلمات مقتضبة وهم يرسلون نظراتهم في كل ناحية بحثًا عن الطريق الذي يرجح أن يكون الغريب قد سلكه. لمح بين المحتشدين محمود ابن عمه حسن. اقترب منه وسأله وهو يلهث :«ماذا جرى؟». أجابه محمود بنبرة قاطعة من دون أن ينظر ناحيته: «غريب». استفسر بقلق: «وماذا فعل؟». قال مهمومًا: «لا أدري. أبو إسماعيل هو الذي لمحه عند الساقية». سأله: «أي ساقية؟». أجاب متبرمًا: «لا أعرف». قالها وغاب في قلب التجمهر يشق معه الطريق بين أعواد الزرع بغضب وتوتر. مشوا طويلًا، يرفعون فوهات البنادق، يرخونها، يدمدمون، يتلفتون حولهم إلى أن بلغوا أرض السلباوي التي هجرها أبناؤه في نزاع فأمست خربة ثعابين. لعنة الله على الغريب المجهول الذي جره في الليل ليستنشق الغبار الصاعد من بين الأقدام برئتيه المنهكتين من التدخين. من هو؟ ما الذي فعله؟ وأين هو في تلك الظلمة؟ توقف عبدالمولى والريح تهز أطراف جلبابه: «كأنه فص ملح وذاب»! هتف غنام بغل: «لا يمكن أن يذهب بعيدًا». زعق أبو إسماعيل وهو يؤرجح طرف بندقيته عاليًا: «ها هو. هناك يا رجال». لعلع الرصاص في الاتجاه الذي أشار إليه الرجل، ثم ساد صمت. اندفع ثلاثة منهم إلى الأمام يخبطون الأرض بأطراف أقدامهم يتلمسون جثة مصاب برصاصهم. سمعهم من بعيد يرددون «لا أحد».

عادوا من جديد، كتلة واحدة، تجتاح الليل وعيونها تلمع بالشرر. بدأ يشعر بالتعب، والانهاك يتسرب إلى قدميه، ونغزة في ذراعه اليسرى. تثاقلت خطوته إلى أن تخلف عن الموكب ووجد نفسه بمفرده تمامًا والريح تعوي حوله. التقط أنفاسه: «لو كنت قد استفسرت عما رآه أبو إسماعيل؟ عما حدث؟ أو أين جرى ما جرى؟». استراح قليلًا ومد بصره إلى جهة اليسار فرأى مبنى قديمًا مهجورًا يشبه مخزن غلال وأمامه شجرتان. لم يكن مسموعًا سوى نقيق الضفادع في ضوء قمر مختنق حين لمح فجأة طرف تلفيعة يرفرف في الهواء ويتوارى خلف إحدى الشجرتين. قال لنفسه: «إنه الغريب. عليك بالحذر». كتم أنفاسه وسار ببطء على مدق رفيع نحو المبنى وإصبعه على زناد البندقية. توقف مكانه. خايله ظل التلفيعة كأنما يثب من وراء الشجرة إلى كومة أحجار عالية يتوارى خلفها. وثب عدة وثبات فوق قنوات ماء مهجورة. شقت أغصان جافة جلبابه عند كتفه وانخلعت منه فردة من نعله وهو يخوض في الأرض. أحس بسن زجاجة ينغرز في باطن قدمه. توقف لاهثًا: «لعنة الله على الغريب المجهول». قطع عدة خطوات إلى اليمين وهو يعرج في مشيته، ثم حط على حجر في الأرض ووضع بندقيته إلى جواره. ضرب الهواء البارد وجهه. تفكر فيما جرى: «للقرية أسرارها، مثل كل القرى، ربما لا يكون لصًّا ولا مجرمًا بل مجرد عاشق طوف ببيت امرأة؟». تساءل: «هل أيقظ ضجيج المطاردة أولاده الصغار في البيت؟ أم أنهم ينعمون بنومهم؟». أحس بالدم ينزّ من قدمه. شملته رجفة رعب من الصمت المطبق كحد السكين، ومن ضوء القمر الفضي الميت، ومن رائحة التراب، ومن شعوره أنه وحيد بمفرده تمامًا.

استجمع همته وضرب بيده على فخذه ناهضًا: «لا بد من الرجوع إلى الجماعة». تحامل على قدمه النازفة وخطا مسترشدًا بأصداء الأصوات. أصبح صياح الرجال ودبيب خطوهم مسموعًا عن قرب. ملأ صدره بنفس الارتياح العميق. رفع بندقيته لأعلى ولوح لهم هاتفًا: «يا جماعة». قبل أن يتم نطق الكلمة وقبل أن يتبين أحد صوته انصب عليه الرصاص بلا توقف، وصرخ أحدهم: «وجدناه. من هنا. تعالوا». تجمد مذهولًا. صاح مرتعدًا من الغضب والانفعال: «أنا شفيق حمدان». لم يلحق بنطق الحرف الأول من اسمه إلا وكان الرصاص يتطاير ناحيته بقوة وكثافة شديدتين. بدأ يسمع دبيب خطوهم يرج الأرض والغبار يعلو في اتجاهه. أدرك أن أي همس يصدر عنه الآن سيؤدي إلى مصرعه. أحس بيأس أسود يغمر روحه كلها. ترجرج في عينيه بريق غريب ثم انطفأ. قال لنفسه: «يطاردونك ويفتحون النار بلا هوادة. لا يمنحونك لحظة تقول فيها من أنت؟ وتدفع ظنونهم؟ أي جنون! لم يعد إلا الفرار طريقا وحيدا أمامك».

جرى إلى الأمام يعرج تلاحقه غيمة أصوات تتشعب في الجو بتوتر وإصرار يئز بينها صياح صارخ: «لا تتركوه. إنه هناك». تقطعت أنفاسه وهو يعدو بقدمه النازفة إلى أن وجد نفسه قرب قبر مفتوح منبوش، وخيالات الرجال تطول وتتمايل في العتمة كالأشباح. لم يشعر بالرصاص الذي اخترق صدره وكتفه، فقط أحس بنصفه العلوي يميل ويهوي، ثم بوجهه ينكفئ على تراب القبر. لحظة أخيرة من الوعي، ثم طوته غيبوبة الأبد.

وبحلول الصيف بزغ في الأرض الخربة زهر مجهول يتوهج بقسوة، اشتدت أعواده في أكثر من مكان.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *