كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سوسيولوجيا الخطاب الشعري الإحيائي.. ثالوث الذاكرة والتراث والهوية
عرف الشعر العربي في العصر الحديث مدارس وتيارات واتجاهات عدة، ظهرت بشكل متعاقب منذ بداية عصر النهضة في الفضاء العربي الإسلامي؛ لذلك، فإن عصر النهضة يمثل تاريخًا مفصليًّا في تاريخ الشعر العربي ككل، وعاملًا مهمًّا في انبثاق النهضة الأدبية في العصر الحديث، خصوصًا أنه بعد عصور ازدهار الشعر العربي التي تعود إلى الشعر الجاهلي وصولًا إلى الشعر العباسي، شهدت الحياة الأدبية العربية نوعًا من الخمول والضعف، أصاب اللغة العربية والكتابة الشعرية والنثرية، ومس كذلك اتجاهات الثقافة الشعبية التي كانت تجنح إلى الإنتاجات الهزلية والخرافية، الشيء الذي مثل بدوره سببًا أساسيًّا من أسباب ظهور النهضة الأدبية في القرن التاسع عشر، وأكد الحاجة إليها، إذ النهضة مدلوليًّا تشير إلى حالة من التعارض مع ما سبق، وإلى طموح تجاوز حالة الوهن الحضاري وملامحه الدالة عليه كافة.
وهكذا يتضح لنا أن كل مقاربة للشعر العربي في العصر الحديث، وبشكل خاص تلك التي تهتم بالمدارس الشعرية الأولى، وتحديدًا مدرسة الإحياء والبعث، إنما هي بالضرورة مقاربة تتنزل في جزء من تحليلها ومن استنتاجاتها في إطار عصر النهضة، على أساس أن عوامل النهضة الأدبية العربية، تساعدنا على فهم طبيعة الخطاب الشعري الإحيائي، وعلى تفسير مضامينه وخياراته الفنية الجمالية وتأويلها.
فشأن الشعر من منظور بنيوي وظيفي ماكرو-سوسيولوجي، كشأن سائر مجالات الإبداع كافة. فهو في أحد أهم وجوهه، نتاج ظروف تاريخية واجتماعية. وذلك من منطلق أن الشعر هو جزء من الفعل الاجتماعي، وأحد الحقول الاجتماعية المهمة، ويخضع في إنتاجه وتلقيه إلى عملية مركبة من التواصلية والتفاعلية. بمعنى آخر، لا ينبغي التعامل مع المنتوج الأدبي الإبداعي «كما لو كان منغلقًا على نفسه، متركزًا فيها، ولا يرتبط بأي شيء خارجه»(1). فهو – أي الخلق الثقافي الإبداعي – كما ذهب إلى ذلك لوسيان غولدمان (Lucien Goldmann) نتاج ذات جماعية، ويحمل في باطنه رسائل ومعاني كاشفة عن طبيعة ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) «نسق الإحالات المشتركة» للذات الجماعية.
إذن ظهرت في العصر الحديث مدارس شعرية عربية متعددة، افتتحتها مدرسة الإحياء والبعث، ثم جاءت جماعة الديوان، وتولدت المدرسة الرومنطيقية أو الابتداعية، وذلك في بداية القرن العشرين متأثرة برموز الرومنطيقية في الآداب الفرنسية والإنجليزية. وبعدها عرف الشعر العربي جماعة أبولو، وأيضًا ما سمي أدب المهجر وصولًا إلى مدرسة الواقعية في الأدب، ويليها ظهور حركة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة. ولعل هذا العدد من المدارس والاتجاهات الذي شهده الشعر العربي في العصر الحديث يكشف بدقة ووضوح عن حالة من الحراك الشعري، من أهم مظاهرها وعناوينها استعادة قوية لمكانة الشعر في الثقافة والحضارة العربيتين، واستنهاض لوظيفة الشعر عند العرب، وتلبية لحاجة اجتماعية وثقافية ملحّة للشعر، بوصفه مجالًا من مجالات النهضة، وأحد أبرز مضامينها ومسوغاتها.
وفي هذا الإطار، فإننا اخترنا التوقف عند مدرسة الإحياء والبعث التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهي كما أسلفنا الذكر أولى المدارس الشعرية العربية في العصر الحديث. ويبدو لنا أنه قبل التعرض إلى نشأة هذه المدرسة والتعرف إلى روادها وأهم خصائصها وسماتها ومرجعياتها ومبادئها، وأيضًا النقد الذي وجهته لها جماعة الديوان بزعامة محمود عباس العقاد، من المهم جدًّا الانطلاق من العوامل التي لم تسهم في ظهور مدرسة الإحياء والبعث ذات الخطاب الشعري الذي تغلب عليه ظاهرة محاكاة الشعر العربي القديم، وإنما أسهمت كذلك في ظهور النهضة الأدبية وانطلاقها من مصر ولبنان. ذلك أنه في التعرف إلى حيثيات عوامل النهضة العربية، تأصيل مهم لفهم الظاهر والباطن في الخطاب الشعري الإحيائي.
أولًا- الإطار التاريخي العام وظروف النشأة: عصر النهضة
يكاد يجمع مختلف الذين درسوا عصر النهضة العربية على الأهمية المركزية التي حظيت بها تاريخيًّا الحملة البونابرتية الفرنسية على مصر في سنة 1798م، بل إنهم يؤرخون لعصر النهضة انطلاقًا من تاريخ دخول نابليون إلى مصر وذلك لما مثلته تلك الحملة في جوانب منها من اتصال وتلاقح ثقافيين ما بين الشرق وأوربا. وأدى استمرار هذا الاحتكاك بين الشرق والغرب على إثر الحملة الفرنسية على مصر إلى «ظهور النهضة المادية»(2)، فكان دخول المطبعة إلى مصر من أكبر العوامل التي أسهمت في حدوث النهضة الثقافية، حيث كانت المطبعة آنذاك «وسيلة لنشر التراث»(3)، ومواجهة الصدمة الحضارية ومظاهر الاستلاب الثقافي التي عبرت عنها البعثات التبشيرية. فالمطبعة شكلت قاطرة النهضة الثقافية والأدبية على امتداد القرن التاسع عشر في البلاد العربية، وذلك لكونها مثلت الأداة المادية لتأمين حركة نشر واسعة، شملت بالخصوص التراث العربي فكرًا وشعرًا ونقدًا ونثرًا، فكانت العامل الرئيس لظهور النهضة الثقافية والأدبية في مصر وبلاد الشام، وانتقالها إلى عواصم عربية أخرى مشرقية ومغربية. ويبرر الدكتور علي شلق انطلاق حركة النهضة في مصر ولبنان بأنهما «كانتا أسبق بلاد العرب إلى مشارف التوعية وأغزرها عطاء أدبيًّا نظرًا إلى موقعها على شاطئ البحر المتوسط ملتقى حضارات الشرق والغرب، ولما لهما من مكانة علمية وينابيع للمعرفة يقبل عليها العطاش من مختلف بلاد العالم»(4).
وقد شهد المغرب العربي أيضًا في القرن التاسع عشر نهضة مهمة، تمثلت في تونس مثلًا في سياسة الإصلاحات التحديثية التي حصلت في عهد محمد الصادق باي الذي تولى الحكم في منتصف القرن التاسع عشر (من 1859 إلى 1882م)، فدخلت الطباعة إلى تونس، وأسست أول مطبعة حجرية سنة 1857م، وأنشئت مدرسة باردو الحربية في عهد أحمد باي (1837- 1855م) سنة 1840م. فضلًا عن إصدار دستور 1861م، وقبله وثيقة عهد الأمان سنة 1857م، وتأسيس الوزير خير الدين باشا التونسي (1822- 1890م) مدرسة الصادقية سنة 1875م. وكان من نتاج هذا الحراك الإصلاحي في مجالات التعليم والسياسة والفكر والثقافة، انبثاق حركة في القرن التاسع عشر عرفت باسم «الشعر العصري»، وكان من أعلامها المؤسسين محمد السنوسي (1851- 1900م) ومن أبرز شعرائها محمد الشاذلي خزندار (1881- 1954م). وبناء على هذه المعطيات مجتمعة، يمكننا الاستنتاج أن العواصم العربية، وإن كان بشكل متفاوت ومختلف، كانت قد اتصلت بمظاهر النهضة وعواملها وتفاعلت معها طبقًا للآليات والمضامين نفسها. وهنا نلحظ أن أهم ما ميز النهضة العربية إلى جانب عنصر الاتصال بالحضارة الغربية والاستفادة من بعض منجزاتها المادية، هو ظاهرة استعادة الارتباط الوثيق بالتراث العربي الثقافي في أزمنة ازدهاره وإشعاعه وقوته.
استدعاء التراث
ويبدو لنا فعل استدعاء التراث واعيًا وتوجيهيًّا، ويعبر عن اختيار عقلاني ذي أهداف وأبعاد متصلة بالذاتية الثقافية والحضارية العربية. وهو ما يعني أن ظاهرة العودة إلى التراث التي هيمنت على حركة الطباعة والنشر والإنتاج الفكري والأدبي، إنما هي في الأساس آلية دفاعية ضد ثقافة الآخر، وخوف حضاري من الذوبان والاضمحلال. فنحن أمام رد فعل ثقافي، يرمي إلى التمسك بالهوية الثقافية واستحضار الذاكرة الحضارية، كآليات دفاع وهجوم في الوقت نفسه ضد الغزو الثقافي والسياسي الأجنبي. وهو ما يفسر لنا، لماذا أخذت النهضة في نسختها العربية مسؤولية بعث مشاعر الهوية العربية، وتدارك الواقع الثقافي والاجتماعي المتقهقر بسبب سياسة التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية، والضعف الذي لازم اللغة العربية والأدب في العصر العثماني حيث «اختلف على حكم مصر حكام لا يحسنون العربية منذ الحكم العثماني بصورة خاصة مما حال دون وجود شاعر أو أديب يتمتع بموهبة متميزة لعدم توفر العوامل الضرورية لنشوء الفكر والثقافة والأدب»(5).
ولقد أدى ازدهار حركة الطباعة والنشر، وإنشاء دار الكتب المصرية وجمعية المعارف ومجمع اللغة العربية، فضلًا عن ظهور حركات الإصلاح الإسلامية والجمعيات والأحزاب السياسية، وبروز نخبة طلائعية ترنو إلى الإصلاح ومواجهة الثقافة الوافدة بسلاح التراث إلى اجتماع عوامل النهضة، التي انطوت على تصور مخصوص للإصلاح والنهضة، يهيمن فيه عنصر التراث وتمجيد رموز الماضي العربي المزدهر وإبداعاته في مجالات القول الشعري والنثري والفكري والديني، خصوصًا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع بداية الاحتلال الفرنسي والانتداب البريطاني للبلاد العربية الإسلامية، فتدعم بذلك الطابع الانكفائي للنهضة العربية خصوصًا في أطوارها الأولى، وبالتوازي مع النهضة الأدبية، تولدت النهضة الفكرية بزعامة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، حيث ظهر تيار الوعي الفكري الديني لإنقاذ العالم الإسلامي من الاستعمار. إذن كان القرن التاسع عشر عصر النهضة العربية بامتياز. ولعل الجانب الأدبي من هذه النهضة، كان ترجمانًا صادقًا وتعبيرًا متماهيًا إلى حد بعيد مع الظروف التاريخية والملابسات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أدت إلى انبثاق النهضة العربية.
يبدو لنا أن مدرسة الإحياء والبعث التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، أي بعد قيام دعائم النهضة الأساسية، وذلك كأولى المدارس الشعرية في العصر الحديث في علاقة تكاد تكون عضوية بظاهرة الانكباب على التراث تمجيدًا واقتفاء لآثاره التي استحوذت على شواغل حركة النشر في القرن التاسع عشر في مصر وبلاد الشام. لقد عمدنا إلى تخصيص حيز كبير من هذه المقدمة لتناول الإطار التاريخي العام الذي أنتج النهضة الأدبية العربية لاعتقادنا العميق بأن مدرسة الإحياء والبعث أو كما يسميها بعض الدارسين مدرسة النهضة الشعرية، هي نتاج عصر النهضة العربية وثمرة من ثمارها، ومرآة يمكن في ضوئها قراءة الواقع العربي في تلك الحقبة من جوانبه الاجتماعية والنفسية والثقافة كافة. ناهيك عن إدراك كيف كان ذلك الواقع متحكمًا في بروز هذه المدرسة الشعرية الإحيائية بالذات، وكيف أنها نقلت التصور السائد الذي يربط بين تحقق النهضة والعودة إلى التراث وإحيائه. فلا شك في أن لأحداث العصر أثرها في المعجم الرمزي الإحيائي، بوصفها محددة للسياق اللفظي الشعري بشكل من الأشكال. فضلًا عما يعبر عنه الباحث إبراهيم السعافين بالموقف النفسي للشاعر من الحياة الاجتماعية ومدى انغماسه في جانب من جوانبها، وذلك من منطلق أن هذا الوقف هو نتاج تفاعل مع أحداث العصر بغض النظر عن طبيعة هذا التفاعل(6). فكيف نعرف مدرسة الإحياء والبعث؟ ومن أهم رموزها؟ وما أهم المبادئ التي قامت عليها، والخصائص التي ميزت المدونة العامة لرواد ورموز المدرسة الإحيائية في قول الشعر؟
ثانيًا- الخطاب الشعري الإحيائي: الخصائص والمضامين
يعد الشعر الإحيائي مدرسة شعرية كلاسيكية جديدة، ظهرت في عصر النهضة الأدبية العربية في أواخر القرن التاسع عشر، وامتدت إلى الربع الأول من القرن العشرين. رائدها الأول الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839هـ/1904م) الذي أشاد عميد الأدب العربي طه حسين بموهبته قائلًا: «أصبح فذًّا من حيث إنه استطاع أن يرد إلى الشعر العربي من القوة وجزالة اللفظ ورصانة الأسلوب ودقة المعنى ما كان قد بعد به العهد وطالت عليه القرون»(7). لذلك، فإن هذه الحركة الشعرية مصرية المولد والنشأة، وهو ما يدعم ما ذهبنا إليه سابقًا من رصد للعلاقة بين بداية عصر النهضة العربية في مصر وبلاد الشام وظهور مدرسة الإحياء والبعث، بعد أن تحققت أسباب النهضة الأدبية في جوانبها المادية، وفي تراكم أسبابها السياسية والثقافية في مصر وباقي العواصم العربية في ذلك التاريخ. واللافت للانتباه أن الاتجاه الإحيائي الشعري قد عبرت عنه تسميات عدة، يصب جميعها في الدلالة ذاتها والتوصيف نفسه. فقد أطلق عليها الدارسون قرابة خمس تسميات وهي: مدرسة الإحياء والبعث، ومدرسة الإحياء والتراث، والمدرسة الاتباعية الإحيائية، والمدرسة الاتباعية في الشعر العربي، وأيضًا مدرسة النهضة.
ونلحظ من خلال هذه التسميات أن توصيف المدرسة ينحصر أساسًا في مفاهيم أربعة هي الإحياء، والبعث، والتراث، والاتباع. وكلها مفاهيم في تواصل دلالي، وتشير إلى سجل من الرموز والمعاني المتقاربة المترادفة؛ بل إن كل المفاهيم حركية (الإحياء-البعث–الاتباع) تجسد حركتها وفعلها في نحت علاقة تفاعلية إيجابية مع التراث الشعري العربي. ولا تفوتنا الإشارة في هذه الجزئية إلى أن اتصال مدرسة الشعر الإحيائي بالتراث ليس عامًّا، بل هو اتصال انتقائي، يوجه بوصلته تحديدًا في اتجاه التراث العربي الذي أُنتج في عهود ازدهار الشعر العربي وأوج قوته ونهضته الإبداعية.
وإذا كان جميع دارسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية يقرون بأن محمود سامي البارودي رائدها، فإننا في الوقت نفسه نعثر على إشارات صريحة تبين أن بدايات الاتجاه الإحيائي كانت مع الشعراء علي الليثي وعبدالله فكري وعائشة التيمورية. أما أبرز شعراء مدرسة النهضة الشعرية، فنذكر منهم أمير الشعراء أحمد شوقي (1869-1932م) ومحمد حافظ إبراهيم (1872- 1932م) من مصر وشكيب أرسلان (1869- 1946م) وخليل مطران (1872- 1949م) وعمر أبو ريشة (1910 –1990م) وسليم الزركلي (1905-1989م) ومحمد البزم (1887-1955م) وعدنان مردم بك (1917-1989م) من بلاد الشام، ومعروف الرصافي (1875-1945م) وأحمد الصافي النجفي (1897 -1977م) وجميل صدقي الزهاوي (1863 -1936م) من العراق، وأسماء أخرى ذات بصمة في شعر الإحياء من اليمن(8) ومحمد بن عثيمين (1854- 1944م) من السعودية ومحمد الشاذلي خزندار (1881- 1954م) ومحمد غريط (1880- 1949م) وأحمد رفيق المهدوي (1898-1960م) وأحمد علي الشارف ( 1872-1959م) من المغرب العربي(9).
لا شك في أن قائمة شعراء الإحياء أطول مما ذكرنا، وأن لها كشأن جميع المدارس الشعرية روادها المؤسسين ورموزها الأشهر والمنتسبين إليها تحت راية مبادئها الشعرية، والأقل شهرة من الرموز الكبار، لكن المهم حسب تقديرنا هو أن مدرسة الإحياء هي تصور مخصوص للعملية الشعرية وللشعر، نجد صداه حتى في الشعر العربي الراهن. بمعنى آخر، إن ظاهرة الإحياء بصفتها تمثيلًا لموقف ثقافي حضاري، ولعلاقة تقوم على تمجيد الماضي والحنين إليه، هي تعبير عن طبيعة الفكر المنتج لذلك النمط من الشعر، باعتبار أن الشعر هو تفاعل بين الفكر والمعرفة وللنظرة إلى العالم والأحاسيس معًا. ومما تتميز به مدرسة الإحياء والبعث اعتمادها المحاكاة، وهي خاصية تفيد التقليد الذي تواتر في القصيدة الإحيائية، وهي القصيدة التي سعت إلى محاكاة منوال أغراض الشعر العربي القديم ومضامينه والمحافظة على الوزن ونظام القافية الواحدة والتمسك باعتماد البحور الشعرية الخليلية المعروفة. وفي الحقيقة، فإن ظاهرة محاكاة عمود الشعر القديم، تبدو مهيمنة بقوة على مدونة الإحيائيين، وهي السمة البارزة لهذه المدرسة، وسبب محدوديتها في مجال الإضافة الشعرية الكبيرة في الوقت نفسه. ذلك أن المحاكاة في حد ذاتها، تنم عن تقليد واتباع لا عن إبداع، يجمع بين الوصل والتجاوز. فالطابع المحافظ لمدرسة الإحياء ومحاكاتها السلبية غالبًا للقدامى، جعلت سهام النقد تطول رموزها بشكل موضوعي أحيانًا ومبالغ فيه في أحايين أخرى.
ويتجلى التأثير القوي للشعر العربي القديم في أشعار المدرسة الإحيائية في مستويات عدة، تشمل المعجم والبلاغة والإيقاع وغيرها من القوالب التعبيرية الشعرية المتواترة في الشعر العربي القديم والمعبرة عن فضائه السوسيولوجي والسيميائي ولحظته التاريخية، حيث يطغى تقليد القصيدة القديمة ومجاراتها في نمط تعبيرها سواء في غرض الغزل أو في ظاهرة البكاء على الأطلال. فضلًا عن امتداد أثر الشعر العربي القديم في مستوى التجربة وموضوع القصيدة ومستوى مقروئيتها وتأثيرها في المتلقي. فعلى مستوى المعجم، يشير صلاح لبكي إلى وصف الطلول والإبل، وتواتر ظواهر الاستعارة والتشبيه والنزوع إلى الزخرف اللفظي(10). ومن جهته يذهب الدكتور إبراهيم السعافين إلى أن شعراء الإحياء كانوا يميلون إلى الأشعار القديمة ويؤثرون شعر الأمراء الفرسان، كما يميلون إلى شعر الفخر والبطولة والحكمة(11). بل يذهب هذا الناقد إلى القول: إنهم عاشوا «بمزاج القدماء ومثلهم العليا وكان الفرد «النمطي» النموذجي هو الذي يستولي على اهتماماتهم»(12).
الافتتان بمفهوم الفحولة الشعرية
إننا أمام مدرسة شعرية مفتونة بمفهوم الفحولة الشعرية، فكان أن عمد رموزها إلى تمثل تجارب الشعراء القدامى ومعايشة فروسيتهم واستدعاء ذواتهم الشعرية والتلبس بها من جديد، وذلك لما يرمزون إليه من قوة الحضارة العربية. ومن ثمة، تكون المحاكاة في حد ذاتها تلبية لحاجة نفسية لدى شعراء عصر النهضة عمومًا ومدرسة الإحياء والبعث تحديدًا. بل إنها محاكاة مفكر فيها ومستندة إلى معرفة وتكوين(13)، ذلك أن المحاكاة – كما حددها الفرنسي عالم النفس الاجتماعي غابريال تارد (Gabriel Tarde)- نوعان: محاكاة ساذجة أو سطحية، ومحاكاة عالمة، إن صح التعبير. والظاهر أن التقليد يمثل خاصية أساسية من خصائص القاموس الإحيائي اللفظي والفني، الشيء الذي جعل الدارسين للخطاب الإحيائي بشكل عام، يرون مثلًا في تعامله مع الصورة الفنية، بوصفها أساس الشعر والشعرية نوعًا من الضمور على مستوى الإبداع. وقد اختصر الناقد جابر عصفور هذا الضعف في أربع خصائص تميز طبيعة الصورة الفنية عند الإحيائيين وهي أولًا: التفكك والتناقض، وثانيًا الجمود والإشارية، وثالثًا المبالغة والافتعال، ورابعًا النمطية والتعميم(14).
ومن أهم ما اشتهر به أعلام هذه المدرسة هو إنتاجهم للمعارضات الشعرية، وهو في الحقيقة إنتاج يندرج بشكل عميق ضمن عملية بعث القصيدة القديمة وإحياء أبرز نماذج شعراء العصر العباسي. أي أن معارضة الشعراء القدامى في قصائدهم المشهورة، يمثل استدعاءً وبعثًا وإحياءً لتجاربهم الشعرية، ولزمنهم الحضاري الموسوم بالازدهار الحضاري والقوة الثقافية والسياسية. وكما هو موثق في الدراسات التاريخية الأدبية، فإن المعارضات الشعرية فن أدبي عريق في الأدب العربي، بدأت تاريخيًّا تقريبًا مع القصيدة التي سميت «البردة» والتي قالها كعب بن زهير بن أبي سلمى في مدح الرسول ﷺ، فلاقت هذه القصيدة من فرط إعجاب الشعراء بها معارضات شعرية كثيرة. كما تعد أيضًا قصيدة البردة(15) التي كتبها البوصيري في مدح الرسول ﷺ ومنها ذاع صيته الشعري، من أكثر القصائد التي عورضت في الشعر العربي. لقد ازدهر فن المعارضات الشعرية في العصرين الأموي والعباسي ولاقى رواجًا استثنائيًّا في الأشعار الأندلسية. لذلك، فقد مثلت المعارضات الشعرية فنًّا شعريًّا يثبت من خلاله الشاعر العربي تمكنه من فن الشعر وقدرته على التميز والمباراة الشعرية والتفوق وإثبات الفحولة الشعرية. وهو ما يعني أن إحياء فن المعارضات الشعرية جزء لا بد منه في عملية محاكاة أبهى عصور الشعر العربي القديم.
وكي يتسنى لنا فهم أهمية المعارضات الشعرية في مدرسة الإحياء والبعث، قد يكون من المهم تحديد مفهومها وشروطها. يحدد الباحثان في مجال نقد الشعر عبدالرؤوف زهدي وعمر الأسعد مفهوم المعارضة الشعرية بأنها تفيد «المقابلة والمباراة والمعاظمة والمشابهة والمحاكاة»(16). وتقتضي المعارضة الشعرية «أن ينظم قصيدة في موضوع معين على بحر من البحور وقافية من القوافي فيعجب بها شاعر آخر بسبب من الصياغة المتميزة أو الإيقاع اللافت أو المعاني الظاهرة أو الصورة المعبرة، فينظم على بحرها وقافيتها وموضوعها ملتزمًا التزاما تامًّا أو محدودًا حريصًا على أن يضاهي الشاعر المعارض إن لم يتفوق عليه»(17).
لقد شكلت المعارضات الشعرية خاصية أساسية من خصائص مدرسة الإحياء والبعث وسمة من سماتها الكبرى، فكان رموزها من أهم شعراء العصر الحديث إبداعًا في هذا الفن، حيث عارض رائد شعر الإحياء محمود سامي البارودي أبرز الشعراء القدامى مثل عنترة والنابغة وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس الحمداني. ويكاد يجمع المختصون في مدرسة الإحياء والبعث الشعرية، على أن أحمد شوقي من أهم رواد فن المعارضات الشعرية في مدرسة الإحياء والشعر العربي الحديث بشكل عام، حيث عارض ابن زيدون وأبا البقاء الرندي والبحتري وتحديدًا في سينيته، التي عارضها بقصيدة يقول في مطلعها: [ الخفيف]
اختلاف النـهار والليل ينسي
اذكـرا لـــي الصبا وأيام أنسي
وصفا لـــي ملاوةً من شباب
صــُـــوِّرت مــــن تصورات ومسِّ
عصفت كالصبا اللــــعوب ومـــرت
سنة حلوة ولذة خلس
وســلا مصر: هل سلا القلب عــــنها
أو أسا جرحه الـــزمان المؤسي
كلما مرت الليالـــي عليه
رق، والعهد فـي الليالي تقــــسي
مستطارٌ إذا البواخر رنت
أول الليل، أو عوت بــــعد جرسِ
راهبٌ في الضلوع للسفن فطن
كلما ثرن شاعهن بنقسِ
يا ابنة اليم، ما أبوك بـــخيل
ما له مولعًا بمنع وحبسِ؟
أحــرامٌ عــــلى بلابله الدو
ح، حــــلالٌ للطير من كل جـــنسِ؟
كل دار أحق بالأهــــل، إلا
في خبيث من المـــذاهب رجسِ
نفسي مرجلٌ، وقلبي شراع
بهما في الدموع سيري وأرســــي(18)
ولا مناص لنا في هذا المستوى من محاولة قراءة مدرسة النهضة الشعرية، من البحث موضوعيًّا عن الأسباب الأساسية التي اقتضت أن يحوم مشروع شعراء الإحياء حول بعث الشعر العربي القديم والسير على نهج شعرائه إيقاعًا ومعجمًا وبلاغة. بل حتى معارضة روائعه من القصائد؛ ذلك أنه من غير المنطقي أن تكون عملية إحياء التراث الشعرية، فقط من أجل الإحياء من دون أن يرتبط فعل البعث الشعري بأهداف محددة ومعلومة ومشروع واضح المقاصد. فإلى جانب تفسير الميل إلى شعر القدامى بما يرمز إليه هذا الشعر من مرحلة زمنية قديمة صاحبها مجد سياسي وحضاري(19)، فإن هناك واقعًا تاريخيًّا وثقافيًّا، أسهم إلى حد كبير في تحديد حجم ظاهرتي المحاكاة والمحافظة ومديهما.
ويمكن ضبط هذه الأسباب في النقاط التالية:
– لقد تلقى رواد مدرسة الإحياء والتراث تنشئة ثقافية شعرية أدبية، يهيمن عليها التراث الأدبي القديم، فكانت هذه التنشئة التقليدية محددًا رئيسًا من محددات إنتاجهم الشعري. بل إنه يمثل أهم عوامل ظهور مدرسة النهضة الشعرية ذاتها. فالقصيدة هي نتاج ثقافة شاعرها وتكوينه، وفي علاقة عضوية مع تنشئته الأدبية وقراءاته التي طبعت تكوينه الأدبي. وما يؤكد ما ذهبنا إليه هو العرض التوثيقي التحليلي الذي قام به الباحث إبراهيم السعافين للأعمال الشعرية المطبوعة في القرن التاسع عشر، حيث ركزت المطابع في ذلك التاريخ على نشر دواوين كبار الشعراء القدامى مثل دواوين امرئ القيس والنابغة الذبياني والخنساء وعروة بن الورد والمعلقات وأشعار أبي تمام وأبي نواس وابن المعتز والمتنبي وذلك من منطلق تصور هؤلاء الرموز بأن التراث الشعري في عصور الازدهار، يمثل «أنموذجًا ينبغي أن يستلهم ويحتذى»(20).
العامل الثاني المهم، يتمثل في محاولة معالجة الضعف الذي أصاب اللغة العربية ومواجهة التحديات المهددة لها، على رأسها سياسة التتريك التي تهدف إلى القضاء على اللغة العربية، أو بعض الدعوات التي نادت باعتماد اللهجات العامية. ومن هذا المنظور، نفهم بموضوعية أكبر، تعلق شعراء الإحياء بالمعجم اللغوي القديم ونقل ألفاظه المستعملة منها والمهملة، عندما نربطه بما كانت تعرفه اللغة العربية في العهد العثماني من تهميش مقصود. وهنا تتضح جيدًا دوافع الاحتفاء بـاللغة العربية كمكون تراثي عربي قديم ومقوم من مقومات الهوية والشعور القوميين. وهنا نشير إلى أن هناك شبه إجماع لدى علماء اللغة والباحثين في مجال الهوية والثقافة والحضارة على أهمية عنصر اللغة في تحديد البناء الرمزي للهوية الفردية والجماعية، وفي بناء الأفق الثقافي للمجتمع.
ولعل قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم المعروفة حول اللغة العربية المنشورة سنة 1903م التي تحمل عنوانًا معبرًا جدًّا «اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها»، تدعم ما ذهبنا إليه من تحليل لهذه النقطة الجوهرية في مشروع الإحياء حيث يقول في مقطعها الأخير: [الطويل]:
أرى كل يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقًا
مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناةِِ
وأسمَع للكتابِ في مِصرَ ضَجةً
فأعلَم أن الصائحِين نعاتي
أَيهجرنِي قومِي-عفا الله عنهم
إلى لغةٍ لمْ تتصلِ برواة
سَرَتْ لوثَة الإفْرَنجِ فيها كمَا سَرَى
لعاب الأفاعي في مَسيلِ فراتِ
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَم سبعين رقْعة
مشكلة َ الأَلوانِ مختلفاتِ
إلى مَعشَرِ الكتابِ والجَمع حافِلٌ
بَسَطْت رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإما حَياة ٌ تبعث المَيْتَ في البِلى
وتنبِت في تلك الرموسِ رفاتي
وإما مَماتٌ لا قيامَة َ بَعدَه
مماتٌ لَعَمْرِي لمْ يقَسْ بمماتِ(21)
فضلًا عن مسألة أخرى لا تقل أهمية عما سلف ذكره، تتمثل في ضعف الثقافة الشعبية السائدة آنذاك، وهو ما استوجب اعتماد معجم لغوي بلاغي يعيد إلى اللغة العربية قوتها، ولا سيما أن ازدهار الشعر يوازيه بالضرورة ازدهار اللغة المستخدمة، على أساس أن الإبداع الشعري إنتاج إبداعي يتم داخل اللغة. ومن ثمة، فإن الاستغراق في استعمال الزخرف اللفظي والمهمل من اللغة العربية ينطوي على وظيفة بيداغوجية غير معلنة، تهدف من جهة إلى رتق علاقة المجتمع المهترئة باللغة العربية وذلك عن طريق الاستقطاب الجماهيري لشعر الإحياء ومن جهة أخرى إلى بعث اللغة العربية في عمقها البلاغي الكلاسيكي، لتكون من أدوات النهضة الرئيسة ومن أهم مضامينها. وبناء عليه، يمكننا أن نستنتج أن التركيز المبالغ فيه على الصياغة والإكثار من المحسنات اللفظية والإفراط في تزويق لغة القصيدة واقتباس استعارات وصور شعرية قديمة، إنما يمثل في بعد رئيس من أبعاده رد فعل طبيعيًّا ضد ما بلغته اللغة العربية، بوصفها موردًا من موارد ازدهار الحضارة العربية من تقهقر قبل عصر النهضة العربية.
– هناك ارتباط وثيق بين مشروع مدرسة الإحياء والتراث الذي يهدف إلى إيقاظ الشعور القومي والتركيز على شحن هذا الشعور وتغذيته بما يسميه بيير بورديو الرأسمال الرمزي الثقافي؛ إذ إنه من مقومات الشعور القومي إعلاء شأن اللغة العربية كلغة قومية والاتصال بالتراث الثقافي العربي المرتبط بدوره باللغة التي كانت حاضنة له ومعبرة عنه.
ولكن هل تشير خصائص مدرسة الإحياء والبعث، متمثلة في ظواهر المحاكاة والتقليد والمحافظة وشبه الانغلاق على التراث الشعري القديم، إلى أن كتابات شعراء الإحياء، كانت نسخة مطابقة للشعر العربي القديم؟ وكيف يمكن إنصاف الشعر الإحيائي وتحديد إضافاته ومدى توافره على شرط معاصرته للحظة التاريخية التي أنتج فيها؟
ثالثًا- القصيدة الإحيائية والمعاصرة ومواطن التجديد: بين النفي والتأكيد
صحيح أن مدونة شعراء الإحياء والتراث أو مدرسة الكلاسيكية الجديدة تمثل اتجاهًا تقليديًّا محافظًا في قول الشعر، وأنها قد أعادت في نواح عدة إنتاج القصيدة العمودية القديمة وأرهقتها بالخطابة وغيرها، غير أن ذلك لا يجب أن يحجب عن أعيننا حقائق أخرى في ذكرها والتوقف عندها إنصاف لرواد مدرسة النهضة الشعرية وتعبير عن موقف موضوعي من منجزها الشعري وبعض الفتوحات التي تحسب في رصيد مشروعها، الذي وإن كان تقليديًّا، فإن ذلك التقليد لم يقف بها عائقًا أمام محاولات التجديد عند بعض أعلامها من أمثال أحمد شوقي ومحمد حافظ إبراهيم وخليل مطران خصوصًا في مستوى تجديد المضامين وتجاوز حدود الأغراض الشعرية القديمة كالمديح والفخر والرثاء والغزل والهجاء.
والحق أن واقع الاستعمار الأجنبي الذي عرفته البلدان منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، قد كان دافعًا للشعراء الإحيائيين نحو خوض مغامرة التجديد والبحث عن مجالات جديدة للقصيدة العربية، فظهر معهم الشعر القومي الوطني، أي أنهم ابتكروا غرضًا شعريًّا جديدًا لا علاقة للشعر العربي القديم به. وبدأت القصيدة الإحيائية، تقطع مسافات متقدمة نحو حاضرها متعاطية مع واقعها التاريخي وغير متعالية عليه بالانكفاء على الماضي، كما ساد ذلك في بدايات ظهورها.
إن نشأة النزعة الوطنية في أشعار رموز مدرسة الإحياء والبعث نقطة مهمة، تكشف عن تحول نوعي في التعامل مع الحاضر وقضايا الأمة العربية، وعن اضطلاع الشعر الإحيائي بوظيفة وطنية، تندرج في صلب النضال الوطني ضد الاستعمار، وهي وظيفة نهضت بها تجارب أحمد شوقي ومحمد حافظ إبراهيم وأحمد محرم وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهم؛ إذ كان لهؤلاء الشعراء الإحيائيين دور بارز في النضال الوطني وفي الدعوة إلى التحريض ضد المستعمر ومقاومته سواء باستنهاض همم الأمة وشحذها، أو في دفعها إلى تجاوز السلبية والرضوخ للواقع الاستعماري .
وفي هذا المعنى يقول معروف الرصافي بنبرة ساخرة ناقدة: [مجزوء الكامل]:
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم(22)
وفي الاتجاه نفسه من حث الأمة على المقاومة ورفض الخنوع للاستعمار يقول رائد مدرسة الإحياء والبعث محمود سامي البارودي: (الطويل)
فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة
وفي الدهر طرق جمة ومنافع
وكيف ترون الذل دار إقامة
وذلك فضل الله في الأرض واسع
وكذلك كان شأن الشاعر حافظ إبراهيم، الذي كثيرًا ما يوصف بشاعر الوطنية وصوت الشعب(23)، فقد كانت له بصمة خاصة في إثراء النزعة الوطنية في الشعر الإحيائي وفي جعل الوطنية، فكرة وشعورًا وموقفًا، مصدرَ قوة وتجديد ومعاصرة ومصداقية في القصيدة الإحيائية. ومن إبداعاته في مجال الشعر الوطني، نذكر القصيدة التي أنشدها في حفل أقيم بمدرسة البنات ببورسعيد في تاريخ 29 مايو 1910م وتغنى فيها بمصر قائلًا : [الكامل]:
كـم ذا يـكـابِد عاشِقٌ وَيلاقي
فـي حـبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العشـــاقِ
إِنـي لَأَحـمِـل في هَواكِ صَبابَةً
يـا مِصر قَد خَرَجَت عَنِ الأَطــواقِ
لَـهـفي عَلَيكِ مَتى أَراكِ طَليقَةً
يَـحمي كَريمَ حِماكِ شَعبٌ راقـــي
كَـلِـفٌ بِـمَحمودِ الخِلالِ متَيَّمٌ
بِـالـبَـذلِ بَينَ يَدَيكِ وَالإِنفــــاقِ
إِنـي لَـتـطرِبني الخِلال كَريمَةً
طَـرَبَ الـغَـريبِ بِأَوبَةٍ وتَلاقــي
وَتَـهـزني ذِكرى المروءَةِ وَالندى
بَـيـنَ الـشَمائِلِ هِزَّةَ المشـــتاقِ
مـا الـبـابِلِيَّة في صَفاءِ مِزاجِها
وَالـشرب بَـينَ تَنافسٍ وَسِبـــاقِ
وَالشمس تَبدو في الكؤوسِ وَتَختَفي
وَالـبَدر يشرِق مِن جَبينِ الساقـــي
بِـأَلَـذَّ مِـن خـلقٍ كَريمٍ طاهِرٍ
قَـد مـازَجَـته سَـــــلامَة الأَذواقِ
فَـإِذا رُزِقـتَ خَـليقَةً مَحمودَةً
فَـقَـدِ اصطَفاكَ مقَسِّـم الأَرزاق(24)
أما على المستوى المغاربي فنشير إلى إسهام الشاعر محمد الشاذلي خزندار وقد تزامن تاريخ مولده مع تاريخ بداية الاستعمار الفرنسي في تونس، وقد اختص بالشعر الوطني السياسي، وكرس قريحته الشعرية في الدفاع عن القضية التونسية. ويبدو لنا أن استحداث مدرسة الإحياء والبعث لغرض الشعر الوطني، قد مكن رموزها وشعراءها من تدارك مسألة جوهرية، تعد من شروط الإبداع الشعري وأهم عناصره ومقوماته، أي شرط التجربة ومعايشة الشاعر للحدث والحالة الشعريين. ذلك أن الشعر الوطني فسح المجال لذات الشاعر ولداخله بالبوح والتعبير عن أحاسيسه ورؤيته، وأيضًا إنتاج رسالة شعرية حاملة لصوته الشعري الخاص. لذلك، نجد أن الشعر الوطني هو مجال التجديد الأول في مدرسة الإحياء وفيه برهن أعلامها عن قدرتهم على التجديد، حتى إن اقتصر هذا التجديد على المضمون والغرض معتمدًا القالب الشعري التقليدي القديم الجاهز.
ففي ضوء ما حركه الاحتلال الأجنبي من مشاعر الغيرة على الوطن، اتخذ مشروع مدرسة الإحياء والبعث، القائم على مجابهة الغزو الثقافي الغربي المستهدف للغة العربية وللتراث العربي منحى أكثر حرارة وصدق ومعاصرة وإحساسًا بالمعنى وبمفهوم الرسالة الشعرية في سياقها المتفاعل ذي العلاقة التبادلية مع اللحظة الزمنية السياسية والاجتماعية والثقافية المنتجة للعمل الإبداعي. وهو ما ذهب إليه المختص في علم اجتماع الأدب جورج لوكاتش ( (George Luckcs) الذي يعد الأدب ممارسة مندرجة في عملية الإنتاج الاجتماعية، وفي ارتباط جد وثيق بالواقع الاجتماعي التاريخي(25).
وعند الانخراط في مثل هذه القراءة، نجد أنفسنا في عمق الباراديغم البنيوي ونسقه الفكري الذي ينطلق من مبدأ أن «كل تفكير في العلوم الإنسانية، إنما يتم من داخل المجتمع لا من خارجه، وبأنه جزء من الحياة الفكرية لهذا المجتمع، وبذلك فهو جزء من الحياة الاجتماعية»(26).
وفي إطار هذه التغيرات النسبية الطارئة على مراجعة تصور الشاعر الإحيائي لزمنية قصيدته وطبيعة اتصالها بالحاضر السياسي، ندرج ما عرفه المسار الشعري لأحمد شوقي مثلًا من تجاوز وتجديد وتطور نسبي أهله للفوز بلقب أمير الشعراء؛ إذ كانت تجربة المنفى التي عاشها الشاعر بعد الحرب العالمية الأولى، وخلع الخديو عباس عن عرش مصر، دافعًا إلى الاقتراب من الشعب والالتحام بثورته الوطنية، الشيء الذي أفاد قصيدته كثيرًا مضمونًا وصدقًا فنيًّا.
إن تركيزنا على استحداث مدرسة الإحياء والبعث للاتجاه الوطني في الشعر لا نقصد منه الغض من قيمة الإضافات الشعرية الأخرى، بقدر ما أردنا به أن نبين تأثير هذا الاستحداث في تحقيق نقلة مهمة في الخطاب الشعري الإحيائي، ودور الشعر الوطني نفسه في توعية الطليعة الإحيائية بمجالات شعرية أخرى كالشعر الاجتماعي الإصلاحي وشعر الأطفال وابتكار فن المسرحيات الشعرية، الأمر الذي أتاح لهم تجاوز النسق الشعري التقليدي ولو جزئيًّا، والتحرر نسبيًّا من أغراضه الجاهزة.
وفي هذا السياق، تتنزل دعوات أعلام الشعراء الإحيائيين إلى الإصلاح والمراهنة على قيم النهضة والتقدم والتحرر مثل العمل والعلم. ومن القصائد الداعية إلى العلم وطلب المعرفة، نذكر ما ورد في قصيدة لمعروف الرصافي يقول فيها: ( البسيط)
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا
حتى نطاول في بنيانها زحلا
لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم
بل علموا النشء علمًا ينتج العملا(27)
وفي إطار نهوض الشعر بوظيفته الاجتماعية، أدخل أعلام الشعر الإحيائي كذلك بعض التجديدات على موضوع المرأة في الشعر العربي، إذ لم يتعامل معها كموضوع شعري، يتناول في إطار غرض الغزل، بل حصل نوع من التجاوب مع مقاربة حركات الإصلاح الإسلامية ورواد النهضة العربية الفكرية لمسألة المرأة؛ لذلك نلحظ تبنيًا لأطروحاتهم الداعية إلى نبذ التقليد والتمايز المجحف بين أدوار الجنسين، يقول حافظ إبراهيم في خصوص الأهمية الاجتماعية لتربية المرأة كي تكون فاعلًا اجتماعيًّا يسهم في إبداع الفعل الاجتماعي: [الكامل]:
من لي بتربية النساء فإنها
في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق
الأم روضٌ إن تعهده الحيا
بالري أورق أيما إيراق(28)
إذن ساعد التواصل والارتباط بالإنتاج الفكري لرجالات النهضة العربية في التوسع وفتح أغراض شعرية جديدة، تتنزل تحت نمط الشعر الاجتماعي ذي النزعة الإصلاحية النقدية.
من ناحية أخرى، نسجل لأعلام الشعر الإحيائي المذكورين سابقًا دورهم الكبير في استعادة الشعر العربي جماهيريته ووظائفه؛ لأنهم أسهموا في مصالحة المتلقي العربي مع لغته القومية الحضارية ومع الشعر، بدليل ما وجدته قصائدهم ودواوينهم من رواج وانتشار ومقروئية، منحت بعضهم لقب إمارة الشعر. وها هي الظاهرة التي أصبحت مع مرور الزمن، محل استعارة عند أحباء الشعر العربي القديم ومظهرًا من مظاهر ازدهار فن الشعر، يعاد إنتاجها اليوم عبر وسائل الإعلام السمعية البصرية، ونقصد بذلك برنامج «أمير الشعراء» على قناة أبو ظبي الإماراتية، حيث يتبارى بعض الشعراء المعاصرين للفوز بلقب أمير الشعراء، ناسجين في هذه المباراة القديمة الجديدة على منوال الشعراء القدامى في كتابة القصيدة العمودية، وإثبات الانتساب إلى الفحولة الشعرية القديمة بإظهار التفوق من خلال النظم التقليدي للشعر، بل واستدعاء فن المعارضات الشعرية نفسه.
وإذا ما تأملنا الخريطة الشعرية الراهنة وتفرعاتها وتضاريسها الفنية الجمالية، نصل إلى الإقرار بأن الشعر الإحيائي، وإن ظهرت بعده اتجاهات ومدارس شعرية مثل الرومنطيقية والواقعية التي عملت على تجاوزه، فإنه لا يزال اتجاهًا شعريًّا قائم الذات يعبر عن تصور للشعر لا يخرج عن إطار عمود الشعر القديم، وذلك على الرغم مما عرفه الشعر العربي من حراك فني، زاوج بين التراث الشعري العربي والانفتاح على التجارب الشعرية الإنسانية الأخرى وفكر الحداثة ومقاربته للقيم والفرد والمؤسسات والحقول الاجتماعية.
رابعًا- المدونة الشعرية الإحيائية في ميزان نقد جماعة الديوان:
لم تمنع الجماهيرية العريضة التي حظي بها شعراء المدرسة الإحيائية، من التعرض لنقد لاذع وعنيف أحيانًا. من ذلك، ما تضمنه كتاب الغربال الشهير لميخائيل نعيمة (1889- 1988م)، من آراء نقدية شديدة ومباشرة، وردت بالخصوص في مقالتي الحباحب ونقيع الضفادع في الكتاب المشار إليه، وهو ما ذهب إليه الباحث محمد مندور الذي قال: إن هدف هذا الكتاب هو: «الهجوم العنيف على الأدب العربـي التقليـدي المتزمت وعلى التحجر اللغوي ثم على العروض التقليدي(29). إضافة إلى أنه ذكر بشكل صريح بعضًا من أعلام المدرسة الاتباعية. ويبدو لنا أن المقالات النقدية، التي ضمنها ميخائيل نعيمة كتابه، إنما هي معبرة عن رؤيته للأدب والنقد، وكاشفة عن طبيعة مشروعه الثائر على التقليد، والداعي إلى التجديد في الأدب شكلًا ومضمونًا وبناء ولغة، مع رفضه ما سماه «معرض الأزياء اللغوية والبهرجة العروضية»(30). وفي هذا السياق يشير نعيمة إلى الفرنسي موليير قائلًا: «نعم، فتشوا عن موليير ليضحكنا ويبكينـا ويجعلنا نخجل من ذواتنا في وقت واحد. إنما اذكروا أن موليير لا يولـد مـن درس المعاجم والعروض والقوافي وجوائزها من خبن وخبل وطـي ورقـص. مـوليير لا تحصره أبحر بين طويلها ووافرها ورجزها ورملها. لا تقف فـي وجهـه خرافـات وترهات وشرائع وأوهام»(31).
إلى جانب نقد ميخائيل نعيمة لمدرسة الاتباعية، فإن النقد الأكبر قدمته ما اصطلح على تسميتها «جماعة الديوان» وروادها عباس محمود العقاد (1888- 1964م) وعبدالرحمن شكري (1886- 1964م) وإبراهيم عبدالقادر المازني (1890 -1949م). وهي جماعة تقدم نفسها كصاحبة مذهب «إنساني، مصري، عربي»(32)، عرفت بامتلاكها لثقافة مزدوجة، تجمع بين التمكن من الثقافة العربية وآدابها والانفتاح على الثقافة الأجنبية. كما تتميز هذه الجماعة، بجمعها بين الإبداع الشعري والممارسة النقدية في الوقت نفسه.
ويتبين المطلع على الأطروحات والمواقف النقدية التي ضمنها العقاد والمازني في كتابهما «الديوان في الأدب والنقد» بسهولة أن مدرسة الإحياء والبعث قد مثلت الموضوع الأساس لنقد جماعة الديوان. بل إن التلميح الصريح بالانكباب على نقد مدرسة الإحياء الشعرية، يبرز منذ الأسطر الأولى من كتاب الديوان التي جاء فيها: «وأوجز ما نصف به عملنا – إن أفلحنا – أنه إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما»(33). ونفهم من هذا الموقف أن مشروع جماعة الديوان ليس فقط في اختلاف جزئي أو نسبي مع مشروع مدرسة الإحياء والبعث، إنما نحن أمام مشروع في تعارض جوهري مع المشروع الأول. مشروع أخذ أصحابه على عاتقهم وظيفة ضرب خصائص التصور الشعري الإحيائي، وإظهار سلبياته من دون مزاياه. لذلك فإن آراء جماعة الديوان الموجهة ضد مدرسة الإحياء والبعث ورموزها وعلى رأسهم أحمد شوقي، هي انتقاد خالص ورفض قوي، أفرغا الشعر الإحيائي من أي إبداع وتميز. أي أننا، أمام آراء راديكالية في رفضها لمدرسة الإحياء، وهجومية في نقدها خصوصا أن سهام الانتقاد اللاذعة، قد وجهت للشاعرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وهما من أكثر شعراء مدرسة الإحياء شهرة وتجديدًا للخطاب الشعري.
ويمكن تلخيص الأفكار النقدية التي جاءت بها جماعة الديوان في رفضها التواصل والتداخل بين الشعر العربي القديم وشعر العصر الحديث؛ لذلك فقد أعلن –العقاد والمازني- أن عملهما النقدي، يهدف إلى «إقامة حد بين عهدين»، وهذا الحد في الحقيقة ليس زمنيًّا فقط، بل هو حد بين تصورين للقول الشعري وأنموذجين لكيفية بناء العالم الشعري.
وتبدو لنا هذه الحلقة أساسية في الفكر النقدي لجماعة الديوان؛ إذ إنها تمهد طريق الفهم واسعة لوضع الآراء النقدية الفرعية في إطارها العام. ومن هذه الآراء انتقاد العقاد لاعتماد القصيدة العربية التقليدية قالبًا جاهزًا، يتم عبره تكرار الأغراض ذاتها وباللغة نفسها وفي بناء فني واحد متكرر. وفي هذا السياق، عبرت جماعة الديوان عن موقفها النقدي الرافض لنظام القصيدة الطويلة التي يتعرض فيها الشاعر لموضوعات عدة في الآن نفسه، داعية إلى تحرير القصيدة من قيود الوزن والقافية واعتماد التنويع في الوزن بدل التشتت الموضوعاتي والطول غير المبررين، وذلك من خلال إيثار مبدأ الوحدة العضوية للقصيدة شرطًا جماليًّا من شروط كتابة قصيدة قوية من ناحية البنية الإيقاعية والدلالية، فضلًا عن التحرر نسبيًّا من أسر هاجس الفحولة الشعرية.
وإلى جانب انتقاد هذه الجماعة لشعر المناسبات والقول بافتقاره للمعاصرة والصدق الفني والتجربة الذاتية للشاعر الإحيائي، فإن اللغة المستخدمة عند شعراء الإحياء قد أصابتها أيضًا سهام جماعة الديوان النقدية؛ إذ بدت لهم غير معاصرة في معجمها اللفظي، وأنها تقوم على الزخرف والمحسنات البديعية ومتكلفة في علاقتها بالمدلولات. وفي هذا الصدد نشير إلى انتقاد العقاد في كتابه الديوان لبعض صور التشبيه في شعر أحمد شوقي قائلًا: «إن الشاعر هو من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها وليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به. إن الناس جميعًا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس»(34).
وكما نلحظ، فإن هذا النقد الموجه لطبيعة اللغة المستخدمة في الخطاب الشعري الإحيائي تطغى عليه القراءة السيميولوجية التي تركز على فهم شبكة العلاقات الدلالية داخل النص، في حين أن ربط النظام اللغوي للقصيدة الإحيائية بالشروط الاجتماعية المساهمة في تحديده التي تفرض معجمية القصيدة، من شأنه أن يساعدنا على فهم منطلقات المشروع الإحيائي ووظائفه. لذلك فإنه يبدو لنا أنه لا غنى عن التحليل الاجتماعي للغة الشعر الإحيائي، وإلا سقطنا في التحليل السيميائي المنغلق على النص من دون خارجه. وهو في كل الحالات، تحليل وإن كان أساسًا في التحليل النقدي الأدبي، فإنه في المقابل لا يكترث بالبعد السوسيولوجي للغة ولا بكونها –من منظور بورديو(35)- مرتبطة بالواقع الاجتماعي ومتفاعلة معه. إن المعركة الأدبية التي شهدتها مصر بين عباس محمود العقاد وأحمد شوقي، لم تكن وحدها سببًا أساسًا ومباشرًا في تأليف العقاد كتاب الديوان في الأدب والنقد عام 1921م -حيث خصص فصلًا بعنوان «شوقي في الميزان»- فحسب، إنما هي أيضًا معركة رؤى مختلفة حول التصور الشعري، على الرغم مما شابها من منزع شخصي أو أيديولوجي. لذلك يمكننا أن نستنتج أن جماعة الديوان في الوقت الذي تنهال فيه نقدًا مبرحًا لمدرسة الإحياء وأهم رموزها، فإنها تستعرض مشروعها الشعري البديل. وإذا كان هذا النقد حادًّا وغير موضوعي في أحايين كثيرة، فإنه كان صائبًا في بعض الأحيان خصوصًا فيما يتصل بالجوانب الجمالية، إضافة إلى كونها -أي أفكار جماعة الديوان النقدية- قد نجحت في خلق حراك نقدي شعري، استفاد منه –وهذا هو الأهم- الشعر العربي في العصر الحديث، وربما يكون أسهم في ظهور المدرسة الرومنطيقية، وهو ما يفسر لنا مثلًا سبب عدول جماعة الديوان عن نقد الشاعر خليل مطران الذي وإن كان ينتمي إلى مدرسة الإحياء إلا أنه يعد في الوقت نفسه من رواد المدرسة الرومنطيقية في الشعر العربي، التي لم تتوان جماعة الديوان عن تطويرها وإثرائها.
وبشكل عام، نخلص مما تقدم ذكره إلى أن مدرسة الإحياء والبعث، هي نتاج مرحلة تاريخية عرفتها الأمة العربية الإسلامية، فكانت بحكم ترددها بين زمنين ثقافيين واجتماعيين، تراوِح في الكتابة الشعرية بين قوالب تقليدية فنية جاهزة ومضامين تتميز بدورها بتجاذب بين الماضي والحاضر. وفي هذا المنحى، بدا لنا أن قراءة الخطاب الشعري الإحيائي، تقتضي عدم الاقتصار على الجوانب الفنية الجمالية، بل وضع هذا الخطاب الشعري في سياقه التاريخي العام لفهمه أولًا وللتعرف إلى المبررات لخياراته الفنية خصوصًا أن المبررات التي عبرت عنها رموز مدرسة النهضة الشعرية، تكشف عن ظروف إنتاج القصيدة الإحيائية وعن أسباب إنتاجها على تلك الشاكلة. فمشروع مدرسة الإحياء والبعث مفكر فيه وينطوي على خطة ثقافية واضحة الأهداف والمنطلقات؛ بل إن التشبث بعمود الشعر القديم نفسه، يندرج فيما يبدو لنا في إطار هذه الخطة الثقافية. وإذ نركز على ظروف إنتاج القصيدة الإحيائية، فلأن حصرها قسريًّا في ميزان النقد الفني الجمالي الخالص، يمس موضوعية مقاربة هذه المدرسة وربما يبخسها حقها.
هوامش:
1) Macherey (Pierre), Pour une théorie de la production littéraire, Paris, François Maspero, 1966, p.66.
2) السعافين (إبراهيم)، مدرسة الإحياء والتراث: دراسة في أثر الشعر العربي القديم على مدرسة الإحياء في مصر، دار الأندلس، بيروت، ص40.
3) المرجع السابق، ص41.
4) شلق (علي)، النثر العربي في نماذجه وتطوره لعصر النهضة والحديث، دار القلم، بيروت 1974، ص46.
5) السعافين (إبراهيم)، مرجع مذكور، ص52.
6) يقول الباحث السعافين في هذا السياق: إن «القاموس اللفظي ذو دلالة اجتماعية حضارية، يقترن بالتطور وتفاعل الشاعر مع المجتمع ومع أحداث العصر المختلفة. وهو على هذا النحو يختلف من فئة إلى أخرى اختلافًا لا ندعي أنه حاسم بصورة قاطعة، وإنما يملك من الدلالات المميزة ما يبرز هذا الاختلاف بجلاء؛ فالقاموس اللفظي العام متصل بعصور ازدهار الشعر… كما أنه يتأثر بأحداث العصر وبخاصة في المرحلة المتأخرة من الإحياء». انظر: المرجع السابق، السعافين (إبراهيم)، ص52.
7) انظر: حسين (طه)، تقليد وتجديد، دار العلم للملايين، ص80 -83.
8) شعراء الإحياء في اليمن هم: ابن شهاب والسقاف وأحمد عبدالله السالمي والشاطري والزبيري والحامد والموشكي والشامي …انظر عبادي صالح (عبدالرزاق)، المعجم الشعري لشعراء الإحياء في اليمن، رسالة ماجستير، جامعة عدن، اليمن، 2008م.
9) لا يتسع مجال هذه المقدمة إلى ذكر جميع شعراء الاتجاه الإحيائي في الشعر العربي.
10) لبكي (صلاح)، الأعمال الكاملة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1982م، ص139-140.
11) السعافين (إبراهيم)، ص60.
12) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
13) Gabriel TARDE, Les lois de l’imitation, Réimpression, Paris , Éditions Kimé, 1993,p.28.
14) للأستاذ جابر عصفور رسالة ماجستير حول «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر « انظر: المرجع السابق، السعافين (إبراهيم)، ص52.
15) قصيدة البردة أو الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة، قصيدة مشهورة جدًّا في مدح النبي محمد ﷺ، نظمها الشاعر محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري الموافق القرن الحادي عشر الميلادي، وهناك إجماع بين النقاد على أن هذه القصيدة تعد من أجمل وأقوى أشعار المديح النبوي .
16) زهدي (عبدالرؤوف)، الأسعد (عمر )، المعارضات الشعرية وأثرها في إغناء التراث الأدبي، دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 36، الجامعة الأردنية، 2009م، ص904.
17) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
18) الشوقيات، المجلد الأول، دار العودة، بيروت 1986م، ص 45-46 .
19) السعافين (إبراهيم)، مرجع مذكور، ص61.
20) المرجع السابق، ص42.
21) انظر: ديوان حافظ إبراهيم، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، القاهرة 1987م، ص354-355.
22) انظر: ديوان الرصافي: الجزآن الأول والثاني، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة السادسة، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، 1959م، ص1448.
23) يقول الأستاذ أحمد أمين في مقدمة ديوان حافظ إبراهيم: «إن ميزة حافظ الكبرى أنه تبلورت في شعره آمال أمته أولًا وآمال الشعب العرب ثانيًا. كانت الأمة تشكو من فوضى الأخلاق، وتشكو من الاحتلال، وتشكو من تضييق الغرب على الشرق، وكان الخطباء يحاولون إيقاظه، وكان حافظ بما له من حس مرهف وعاطفة حساسة يجمع كل ذلك في نفسه، فلما ثار على الشعر القديم وحطمه بنى على أنقاضه شعره الجديد في الوطنيات والاجتماعيات والسياسيات، وكان في شعره يقف موقف الصحافة الوطنية والخطباء الوطنيين وقادة الرأي الاجتماعيين، يغشى مجالس كل هؤلاء ويتشرب من أرواحهم ويستمد من وحيهم ويغذي عواطفه من عواطفهم، ثم يخرج ذلك كله شعرًا قويًّا ملتهبًا يفعل في النفوس – وذلك شأن الشعر الحي – ما لا تفعله الخطب والمقالات، فكان حافظ – حقًّا – شاعر الوطنية وشاعر الشعب وشاعر السياسة والاجتماع، ولم يجاره أحد في ذلك من شعراء عصره». انظر: ديوان حافظ إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987م، ص42-43.
24) انظر: ديوان حافظ إبراهيم، المرجع المذكور، ص279-280.
25) Luckacs(George) ,La théorie du roman, Paris, Denel,1963,p.28.
26) عزام (محمد)، تحليل الخطاب الأدبي في ضوء المناهج النقدية الحداثية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003م، ص230.
27) انظر: ديوان الرصافي: الجزآن الأول والثاني، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة السادسة، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، 1959م، ص287.
28) انظر: ديوان حافظ إبراهيم، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة، القاهرة 1987م، ص382.
29) مندور (محمد)، النقد المنهجي عند العرب، دار النهضة المصرية، القاهرة، 1969م، ص29.
30) يقول ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال الجديد: «لقد كـان مـن ثورة (الرابطة القلمية) على التقليد أن خلفت أدبًا إنسانيًّا شاملًا، وخلقت شعرًا لا أثـر فيه للفخر والحماسة والهجاء، والتسكع في المدح، والتفجع الكاذب في الرثاء، أما الغزل فقد أقلعت فيه عن أساليب القدامى، وأما القوالب الشعرية فقد زاوجت فيهـا مـا بـين البحور الكاملة ومجازيئها». انظر: نعيمة (ميخائيل)، في الغربال الجديد، دار العلم للملايين، المجموعة الكاملة، المجلد السابع، بيروت، 1979م، ص438.
31) نعيمة (ميخائيل)، الغربال، مؤسسة نوفل، الطبعة 16، لبنان، 1998م، ص67.
32) العقاد (عباس محمود)، عبد القادر المازني (إبراهيم)، الديوان في الأدب والنقد، مكتبة الأسرة، سلسلة الروائع، 2000م، ص5.
33) المرجع السابق، ص4.
34) المرجع السابق.
35) قدم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أفكارًا مهمة تخص ما سماه الحقل الأدبي وعلم اجتماع اللغة والأدب. انظر:
Bourdieu(P),Ce que parler veut dire, Paris, Fayard,1982.
المنشورات ذات الصلة
الرواية السعودية في مهب التحولات الكبرى
منذ نحو قرن من الزمان، وبالتحديد في عام 1930م، صدرت الرواية السعودية الأولى «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري. وفي عام...
المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه...
بيروت في روايات ربيع جابر… الخروج من متاهات العنف إلى ذاكرة عادلة
في محبة بيروت كتب ربيع جابر خمس روايات بارزة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في بادئ الأمر ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»...
0 تعليق