كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)
على النقيض من تصريحات الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ونصوصه النظرية(1)، نفترض أنه في نصوصه التخييلية، والقصصية بالأخص، كان ينتصر للتحليل النفسي، وكان يتبنى السؤال الفرويدي «نسبة إلى سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي» بشكل من الأشكال، لكن من مرجعيات أخرى، أدبية وثقافية، فكرية وفلسفية، أوسع وأكبر ربما من تلك التي يستند إليها فرويد. وأقترح أن نعود في هذه المحاولة النقدية إلى بعض نصوصه القصصية الشهيرة.
أول هذه النصوص قصة قصيرة بعنوان: بورخيس وأنا(2)؛ وفي هذا النص القصير، يبدو واضحًا، من العنوان نفسه، أن المبدأ الذي تأسس عليه التحليل النفسي عند فرويد: «الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص»، هو المبدأ نفسه الذي تتأسس عليه هذه القصة القصيرة عند بورخيس: في الذات الواحدة، هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك بورخيس من جهة ثانية، والاثنان هما معًا يشكلان الذات، بشكل يصعب معه، في النهاية، أن نحدد بالضبط مَنْ كاتب هذا النص القصصي: «حتى إني لا أعرف الآن من منا كتب هذه السطور»(3).
بلا شك، هناك تمايزات بين الاثنين: فالأنا تحب أن تتمشى في بوينس آيريس، وقد تتوقف لتتأمل شيئًا أثار انتباهها؛ إنها تعيش وتترك نفسها لعيشها وحياتها؛ في حين أن بورخيس تحدث له أمور أخرى، فأخباره تصل عبر البريد والمؤلفات، وهو يمارس الأدب، ويظهر في قائمة الأكاديميين أو في بعض معاجم الأعلام، وهو معروف بطريقته السمجة التي تجعل الأشياء تبدو كأنها مجرد تمثيل وتصنع، كما أنه معروف بطريقته المضللة في تشويه الأشياء وتهويلها. لكن سيكون من المبالغة والمغالاة، كما يقول النص، أن نعد علاقتهما عدائية؛ لأن هناك أشياء مشتركة ومتداخلة بينهما: فهما معًا يحبان الساعات الرملية، والخرائط، والفن الطباعي للقرن الثامن عشر، وأصول الكلمات، وطعم القهوة، ونثر ستفنسون.. والأكثر من ذلك، فإن أدب الآخر، بورخيس، هو الذي يبرر وجود الأنا، وإن كان غير قادر على إنقاذها من ضياعها ومصيرها، فإن هناك بضع شذرات من الأنا لن تنجو إلا من خلال ذلك الرجل: بورخيس.. كأن الأديب هو آخر الأنا، وكأن الأدب هو موطن ذلك الآخر، آخر الأنا.. وهو لا يقول الأنا كاملة، ولا يمكنه أن يقول إلا شذرات منها، لكنه وحده يقول شيئًا عنها، وحده الأدب يتحدث عن الأنا، وعن آخر الأنا.
هناك «أنا» من جهة أولى، وهناك «بورخيس» من جهة ثانية، وهو ما يعني أن الذات هي الأنا ونقيضها، وأن الذات «هي نوع من التناشز والانفصام»، والآخر هو شيء يقع خارج الذات، ولذلك يسميه النص بــ «ذلك الرجل» في أكثر من مكان، فالحياة التي تعيشها الأنا في شوارع بوينيس آيريس غير الحياة التي يعيشها بورخيس على صفحات الجرائد وقوائم الأكاديميين ومعاجم الأعلام، ويبدو كأن لكل واحد منهما حياته الخاصة؛ لكن النص يقدم من الدلائل ما يكشف أن ما بينهما ليس عداء، بل إنه نوع من التماهي، والأنا، على الرغم من محاولاتها، فهي لم تستطع التحرر من ذلك الآخر: «أما أنا فسأبقى على الدوام في بورخيس، وليس في نفسي، إذا كنت في الحقيقة كائنًا ما»(4)، فالأنا تذهب إلى حد الشك في وجودها بوصفها كائنًا حقيقيًّا؛ ذلك لأن وجودها لا يكون إلا من خلال ذلك الآخر: فالأنا هي الآخر(5)، لأنه في النهاية، سيكون مصير الأنا هو النسيان، ووحده ذلك الآخر سيبقى: «لقد انتهت الأشياء جميعًا إلى خسارة، سقط كل شيء في النسيان أو في يد ذلك الرجل»(6)؛ ولهذا، فالكاتب لا يعرف، في النهاية، مَنْ كاتب هذا النص: أهو أنا أم بورخيس أم هما معًا؟ وهو ما يعني أن الأنا ليست بالوحيدة التي تكتب النص، بل ربما أنها ليست بكاتبته، فالآخر ربما هو الكاتب، لكنه الذي لا يمكنه ألا يقول شيئًا، ولو قليلًا، عن الأنا، لما بينهما من علاقات، فالأنا هي الآخر، بما يعني أن الآخر هو الأنا، ولو جزئيًّا. لكن الذي يبقى هو ذلك «الرجل الآخر» الذي ينتمي إلى نظام الكتابة والأدب، أما الأنا التي تنتسب إلى نظام الواقع والعالم فإنك تنتهي إلى الموت والنسيان. وإجمالًا، يبدو بورخيس، في هذا النص على الأقل، كأنه يعيد كتابة فرويد، كأنه يعيد أسئلة التحليل النفسي إلى مائدة النقاش: ماذا عن الأنا؟ أهي موحدة منسجمة وسيدة بيتها أم أنها منقسمة منفصلة منفصمة؟ كيف يتأسس هذا الانقسام بين الأنا والآخر؟ ما دور الآخر في تشكيل الهوية؟ ما دور الغيرية في بناء الذاتية؟ كيف يمكن أن أكون آخر بالنسبة إلى أناي؟ لكن بورخيس يدرج الأدب في إطار هذه المسألة: ما علاقة الأدب بالأنا؟ أبإمكانه أن يقول الأنا في كليتها وشموليتها، أم أنه لا يقولها إلا جزئيًّا من خلال بضع شذرات منها؟ أيقول الأنا أم يقول الآخر، آخر الأنا؟ أليس الآخر بالذي يبقى في النهاية بعد أن تؤول الأنا إلى النسيان؟ ألا يعني ذلك أن الأدب هو هذا الذي وحده يحتفظ ولو بقليل من الأنا، وهو لا يقولها في كليتها، لكنه يحتفظ ربما بكثير عن آخرها؟
هي أسئلة تزداد استشكالًا وبخاصة عندما نستحضر نصًّا آخر عند بورخيس، عنوانه: الآخر(7). من بداية النص، يخبرنا السارد أن الأمر يتعلق بحدث وقع صباح أحد أيام شباط 1969م، وهو حدث عاشه هو نفسه، لكنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه؛ في ذلك الوقت. وهذا يعني أن الحدث عاشه السارد الكاتب، أي بورخيس نفسه. وهو يوضح أنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه، لأنه كان يريد نسيان ما وقع، خوفًا على عقله؛ لكن بعد انقضاء سنوات، قام بتسجيله على الورق، أولًا من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، وثانيًا من أجل أن يتحول إلى مجرد قصة بالنسبة إليه أيضًا. وهذا يعني أن السارد الكاتب (بورخيس) يرى القصة (لنقل: الكتابة؟) شيئًا آخر غير الواقع، وإن كانت تبدو كأنها تنقل ما وقع، فالواقع عندما يروى، أي عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة، فإنه قد يتحول إلى شيء آخر؛ ولهذا، فالسارد الكاتب انتظر لسنوات قبل أن يروي ما حدث، من أجل أن يقرأه الآخرون على أنه قصة، ومن أجل أن يتحول إلى قصة بالنسبة إليه أيضًا. لكن، وبشكل مفارق، فالنص من بدايته يوضح أن ما حدث قد حدث فعلًا وحقيقة، والسارد الكاتب يريد من القارئ أن يقتنع بهذه الجزئية الأساس، بنقطة انطلاق ربما هي ضرورية إن أراد القارئ أن يتصور ما حدث، وأن يستوعب ما وقع، وأن يدرك أبعاد ما عاشه السارد الكاتب في ذلك الصباح من أيام شباط 1969م. لكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يعمل الكاتب على تدوين ما حدث وقت حدوثه؟ وماذا عن الحدث عندما ينتقل إلى نظام التدوين والكتابة؟
ما حدث هو شيء لا يتصوره العقل، ولهذا كان السارد الكاتب يريد أن ينسى ما عاشه خوفًا على عقله بالضبط، فالحدث كان، على حد تعبيره، «مرعبًا عندما وقع، وكان أكثر رعبًا في ليالي الأرق التي أعقبته»(8). وعلى الرغم من كل هذا الرعب، فالكاتب انتظر سنوات قبل أن يقرر نقل ما حدث رواية وكتابة. والأكثر من ذلك، فهو يوضح أن أثر ما وقع بالنسبة إليه لن يكون بالضرورة هو الأثر نفسه بالنسبة إلى مجرد قارئ لهذا الذي وقع: «لكن هذا لا يعني أن رواية ما حدث ستهز كل شخص آخر بالضرورة»(9). وذلك لأن الحدث كما عاشه الكاتب غيره عندما انتقل إلى نظام الرواية والتدوين، وأن أثره على من عاشه فعلًا وحقيقة غيره على من قرأه، وأن هناك فرقًا بين نظام الواقع والعالم ونظام الكتابة والقراءة.
ما حدث هو أن خورخي لويس بورخيس كان يجلس فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر «تشارلز»، وكانت الساعة نحو العاشرة صباحًا من أحد أيام فبراير 1969م، وكان هناك شخص جالس على الحافة الأخرى من المقعد نفسه، ولن يمر وقت كثير ليبدأ التعارف بينهما، وليكتشف خورخي لويس بورخيس أن هذا الشخص الجالس قريبًا منه اسمه خورخي لويس بورخيس أيضًا، لكن مع وجود فارق: فالأول يعيش بمبردج أواخر الستينيات، والثاني يعيش بجنيف في العقد الثاني من القرن العشرين، أي أن الأول أكبر سنًّا من الثاني، كأن بورخيس يلتقي الذي كانه في زمن مضى وانقضى، فبورخيس الأول يمثل المستقبل، في حين نجد الثاني يمثل الماضي. ودار حوار طويل بينهما، حول حقيقة ما يقع لهما وعلاقته بالحلم، حول الماضي والمستقبل، حول الكتب والكتابة. وهو الحوار الذي كشف عن عدد من الاختلافات بين الاثنين حول الناس والقراءات والأذواق، بحيث يبدو أنهما غير قادرين على التفاهم، على أن يفهم الواحد منهما الآخر، فقد كانا «متشابهين جدًّا ومختلفين جدًّا»(10). وقبل أن يفترقا، اتفقا على اللقاء في اليوم التالي «على المقعد نفسه الموجود في زمانين ومكانين مختلفين»(11)؛ لكن بورخيس الأول لم يحضر في اليوم التالي، ولا شك أن الآخر لم يحضر أيضًا.
هذا ملخص ما حدث بإيجاز شديد، وأفترض أنه يطرح، من منظور التحليل النفسي، ثلاث مسائل:
(أ) هل الأنا منقسمة متنافرة لا موحدة متجانسة؟
في أكثر من مكان في النص ما يؤكد أن انقسام الأنا أمر معروف ومسلّم به، فـ«ليس هناك من لا يجد نفسه مع نفسه في اليقظة»(12)، وهذا ما حدث لبورخيس في ذلك الصباح من أحد أيام فبراير 1969م، وجد نفسه مع نفسه، لكن ليس بمعنى أنه اختلى بنفسه، وليس بمعنى أنه يحدث نفسه في مونولوغ داخلي مثلًا. ذلك لأن هناك شيئًا مختلفًا في هذه الحالة، صاغه بورخيس بهذا الشكل الاستثنائي: «عدا أننا اثنان»(13): فالجديد هنا أننا أمام بورخيسين اثنين، هناك تشابه كبير بينهما، لكن هناك ما يفصل بينهما، ويجعل كل واحد منهما منفصلًا مختلفًا عن الآخر: هناك «الأنا» وهناك «الأنا الآخر»، وبينهما اختلافات كثيرة وعلى مستويات عديدة: فعلى المستوى العائلي، وبالنسبة إلى الأنا، فالأم حية ترزق، والأب ميت والجدة ميتة كذلك، لكنهم كلهم أحياء بالنسبة إلى الأنا الآخر؛ وعلى المستوى الشخصي: الأنا كاتب مشهور ومحاضر في كمبردج، أما الأنا الآخر فإنه لا يزال في بداياته، يقرأ رواية لدوستويفسكي التي لم تعد الأنا تتذكرها؛ وواضح أن بينهما اختلافات كبرى في تصور كل واحد منهما للقراءة والكتابة: فالأنا الآخر يتحدث عن كتاب يحتفل فيه بأخوة الإنسان وهو موجه إلى الجمهور الأعظم من المضطهدين والمنبوذين، في حين يوضح الأنا أن فكرة «الجمهور» تجريدية، إذ لا وجود في الواقع إلا للأفراد؛ والأنا الآخر يؤمن في الأدب بابتكار استعارات جديدة أو اكتشافها، فيما يؤمن الأنا بتلك الاستعارات التي تحمل شبهًا حميميًّا واضحًا، تلك الاستعارات التي ارتضاها خيالنا سلفًا (الشيخوخة والغروب، الأحلام والحياة، انسياب الزمن والمياه). والخلاصة أننا أمام اثنين مختلفين جدًّا: في واقعهما ومصيرهما، في أفكارهما وتصوراتهما، في قراءاتهما وكتاباتهما. وكان الحوار بينهما صعبًا: وإن كان بينهما كثير من التشابه، فإن كل واحد منهما يبدو كأنه «نسخة كاريكاتورية للآخر»(14)، كأنه لا يمكن لأي واحد منهما أن يكون صورة طبق الأصل من الآخر، لأن هناك وجه الشبه كما أن هناك وجه الاختلاف، وهو ما قد يعني أن هناك أنا تنقسم إلى أنوات مختلفة وإن كان هناك شبه بينها: أي أن الأنا ليست وحدة متطابقة ومنسجمة، موحدة ومتجانسة، بل إنها وحدة تنقسم وتنفصل، تتضاعف وتتعدد، تختلف وتتعارض. فما تفسير ذلك انطلاقًا من النص نفسه؟
(ب) هل الزمن هو الذي يقسم الأنا ويعددها ويغيرها؟
نفترض أن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها بورخيس من خلال هذه القصة هي ضرورة الانتباه إلى الدور الكبير الذي يؤديه الزمن في حياة الأنا ووجودها، في انقسامها وتعددها، في اختلافها وتنافرها. وهكذا، فالخلاصة الأساس التي انتهت إليها الأنا هي أنها في زمن مضى وانتهى غيرها في الوقت الحاضر أو في الزمن المستقبل؛ والعنصر الأساس في هذه التغيرات التي تصيب الأنا، فتجعلها منقسمة متعددة، هو الزمن، فهذا هو ما انتهت إليه الأنا بعد ذلك الذي حدث في فبراير 1969م لما التقت الأنا الآخر وهو يعيش زمنًا آخر يعود إلى بداية القرن العشرين: «وإنسان الأمس غير إنسان اليوم» كما قال أحد الإغريق، وربما كنا نحن الجالسين على هذا المقعد في جنيف أو كمبردج دليلًا على ذلك(15). وليس من دون دلالة أن يكون ما فكرت فيه الأنا قبل أن يحدث ما حدث هو التفكير بالزمن من خلال صورة النهر عند هيراقليطس: «كنت جالسًا فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر تشارلز.. كانت المياه الرمادية تدفع الطوف الجليدي. وقد دفعني ذلك إلى التفكير بالزمن صورة هيراقليطس قبل ألف عام»(16). وهذه الفكرة التي يصوغها بورخيس تخييليًّا هي نفسها الفكرة التي يوضحها في نصوصه النظرية، ففي مقالته حول الزمن، نجده يقول:
«يشبه الزمن دائمًا نهر هيراقليطس، فنحن دائمًا نرجع إلى هذا المجاز القديم… فنحن دائمًا هيراقليطس يتأمل ظلّه في مياه النهر، وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو إياه؛ لأن المياه فيه قد تغيرت، ويفكر أيضًا في أنه ليس هيراقليطس نفسه؛ لأنه كان شخصًا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة وبين اللحظة الراهنة»(17).
في المقعد نفسه، في اللحظة نفسها، يلتقي بورخيس الذي نيف على السبعين وبورخيس الشاب الذي لم يبلغ العشرين، أي يلتقي الماضي والمستقبل، فالأنا هي مستقبل الأنا الآخر، وهذا الأخير هو ماضي الأنا، وبورخيس في اللحظة الراهنة هو الاثنان معًا. وبالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وإدراكاتنا، فإنه من غير الممكن أن نقبل بإمكانية أن يلتقي أحدكم بذلك الشخص الذي كانه في الزمن الماضي: أن يلتقي في اللحظة نفسها شخصك في الألفية الجديدة وشخصك في عقد من زمن الألفية المنصرمة؛ لأن عقولنا سلمت بأن ما مضى قد انتهى ومات، والواقع أن ليس هناك من دلائل على موته ونهايته، لأن الأمر لا يتعلق إلا بتصور للزمن سلمنا بأنه وحده الصحيح، ولهذا سيكتب بورخيس مقالة نظرية بعنوان شديد الدلالة: «دحض جديد للزمن»(18)، وفيها يوضح مفهومه للأنا وللزمن فيقول:
«الزمن نهر يجرفني لكنني أنا الزمن، إنه نمر يفترسني لكنني أنا النمر، إنه النار التي تلتهمني لكنني النار… فأنا بورخيس»(19). ما يمكن أن ننتهي إليه هو أن مفهوم الأنا لا يمكن تصوره من دون أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم الزمن، وأن تلك العلاقة الجدلية بينهما هي التي يمكن أن تفسر لنا لماذا ينبغي لنا أن نجدد من مفهوماتنا: لماذا يكون من الضروري أن ننظر إلى الأنا على أنها ليست وحدة موحدة متطابقة منسجمة متجانسة، بل إنها على عكس ذلك وحدة منقسمة متنافرة لا تعرف الانسجام والتجانس؟ ولماذا يكون من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار أن الأمس غير اليوم، وأن الماضي غير المستقبل، لكن الحاضر قد يكون هو ذلك كله، أي أن اللحظة الراهنة هي الماضي والمستقبل معًا، كما قد لا يكون هذا الحاضر أي شيء، كأنه غير موجود، ما يوجد هو الماضي أو المستقبل. وفي الأحوال كلها، فإن مفهومنا للزمن وللأنا يحتاج إلى التغيير: فالأنا يغيرها الزمن باستمرار، لكنها هي الزمن نفسه؟
(ج) هل الحلم هو المفتاح؟
فكرت الأنا كثيرًا في هذا اللقاء الذي لم تروه لأحد، واعتقدت في النهاية أنها وجدت المفتاح: «كان اللقاء حقيقيًّا. أما الآخر فكان يحلم عندما تحاور معي»(20). وهذا يعني أن الحدث، حدث اللقاء، قد كان حقيقيًّا بالنسبة إلى الأنا: بورخيس في اللحظة الراهنة، وهو يشرف على السبعين سنة بإمكانه أن يتعرف إلى نفسه لما كان شابًّا لم يبلغ العشرين بعد، فهو يعرفه جيدًا، لأنه عاشه فعليًّا؛ لكن الأنا الآخر، أي ذلك الـ«بورخيس» الشاب لم يعش بعد بورخيس السبعين سنة، ولذلك لا يمكن للقاء أن يكون حقيقيًّا بالنسبة إليه، لا يمكنه أن يكون إلا حلمًا، ولهذا تقول الأنا: «لقد حلم بي الآخر، ولكنه لم يحلم بي تمامًا»(21). ومعنى هذا أن ما حدث لا يمكن تفسيره إلا بهذا المفتاح: الحلم، والحلم عند فرويد هو الطريق الملكي إلى اللاوعي(22)، والذي يحلم في أثناء الحلم ليس هو الأنا (الوعي؟)، بل إنه الأنا الآخر، فهل نقول مع التحليل النفسي: إن الآخر هو اللاوعي؟(23) لكن المسألة عند بورخيس وإن كان لها هذا البعد النفسي، فإن لها أبعادًا أخرى، ومنها بالأساس البعد الزمني: فالآخر هو بورخيس الشاب الذي يحلم بمستقبله، أي ببورخيس الشيخ، أي أن الآخر هو الماضي الذي يحلم بالمستقبل؛ وربما أن هذه الفكرة تعاكس فكرة فرويد التي تقول: إن الحلم يحكي رغبة مكبوتة منسية، أي أن اللاوعي يستعيد حدثًا من الماضي لم تنجزه الأنا فعليًّا، وحصل إنجازه حلميًّا في زمن لاحق؛ ذلك لأن بورخيس يقلب الأدوار: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس العكس، الماضي هو الذي يحلم كأنه يريد أن يعرف مصيره ومنتهاه ومستقبله. وربما قد يتعلق الأمر بشيء آخر، كأن تكون تلك الفكرة عند فرويد بأن اللاوعي لا يعرف الزمن هي التي يحاول بورخيس بلورتها وتطويرها؟ يبقى أن بورخيس يترك النافذة مفتوحة أمام أسئلة مقلقة وغريبة دارت بين الأنا والأنا الآخر: من الحالم ومن المحلوم به: الأنا أم الأنا الآخر؟ ما الفرق بين الحلم والعالم؟ ماذا لو استمر الحلم ولم يتوقف؟ وهي أسئلة تمنح المسألة بعدًا وجوديًّا، أي أن الحلم، مثل الواقع، هو مستوى آخر من الحياة والوجود، ولا بد، يقول نص بورخيس: «أن نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم وبأننا نولد ونرى ونتنفس»(24).
قلب فرضيات فرويد رأسًا على عقب
هل أفترض أن بورخيس قد قرأ فرويد، وأنه قد أعاد كتابته بشكل من الأشكال، بمعنى أنه يسائله ويقوّمه ويطوره، فهو وإن كان ينطلق من الفرضية الأساس في التحليل النفسي الفرويدي بأن الأنا ليست بسيدة بيتها الخاص، أي أنها ليست وحدة متطابقة، وأنها تنقسم إلى أنوات متعددة وغير متجانسة كل التجانس، فإنه يلفت الانتباه إلى أبعاد أخرى للمسألة النفسانية، ويبدو كأنه يقلب بعض فرضيات فرويد رأسًا على عقب: الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس المستقبل بحالم بالماضي؛ الحلم ليس بمجرد استعادة لما عاشته الأنا في الماضي، ذلك لأن الحلم هو عالم آخر، هو مستوى آخر من الحياة والوجود. وبورخيس بذلك كله، يبدو كأنه يرفض تطبيق التحليل النفسي على الأدب، لكنه يفضل تطبيق الأدب على التحليل النفسي، بالمعنى الذي بلوره أحد قراء بورخيس الناقد والمحلل النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار(25)، ذلك لأن الأدب هو الأقدر دومًا على تجديد الأسئلة والمفهومات والتصورات النفسانية للإنسان ولغته وأدبه.
لكن إعادة قراءة فرويد، وإعادة كتابته، بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن ليكون ممكنًا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد للكتابة الأدبية. لأنه لا بد من تصور جديد للأدب يكون قادرًا على مقاربة جديدة لتلك الأسئلة النفسانية والفلسفية. وقد رأينا أعلاه، وبخاصة مع النص الثاني، كيف يتحدث بورخيس عن كتابة، وإن كانت تنطلق من الواقع اليومي المعيش، إلا أنها سرعان ما تحلق عاليًا نحو فضاءات الخيال والرمز والغرابة وغير المعقول. فالتفصيلات اليومية مادة أساس في الكتابة، لكن هذه الأخيرة لا تكتفي بالنسخ والتسجيل، وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى لاقتناص ذلك الغريب في واقعنا ووجودنا، ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا الذهنيّ والاجتماعيّ والتاريخي. وتتقدم الرؤية التي تنسجها نصوص بورخيس استشباحية (فانطاسماغورية) للأنا والزمن، للوجود والحياة. فمن الصعب في قصة بورخيس أن نعرف أيتعلق الأمر بحكاية واقعية حقيقية، أم أنها مجرد حلم أو استيهام، أيتعلق الأمر بواقعة حدثت فعلًا في الزمن والمكان، أم أن الأمر كله مجرد تهيؤات وتخيلات وأحلام؟ وكأن الأمر يتعلق بلغز يحاول النص التخييلي فك أسراره والوصول إلى حقيقته، لكنه بقي مفتوحًا على كل الاحتمالات من دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها الحقيقة، وتبقى الأسئلة مطروحة دون جواب: هل حدث اللقاء فعلًا بين بورخيس الشيخ وبورخيس الشاب؟ هل من الممكن أن يلتقي الشاب والشيخ، بوصفهما كائنين منفصلين وإن كانا متشابهين، في المقعد نفسه، لكن كل واحد منهما يوجد في تلك اللحظة بزمان ومكان مختلفين؟ هل الأمر واقع أو حلم؟ من الحالم ومن المحلوم به؟ ما الفرق بين الحلم والواقع؟ أليس الحلم شكلًا آخر من الحياة والوجود؟
يبدو أن ذلك كله قد يقود إلى المزيد من الأسئلة والشكوك، إلى حد أن أنطونيو تابوكي قد ذهب بعيدًا بالتفكير البورخيسي عندما تساءل: هل وجد بورخيس فعلًا؟ أو أنه مجرد اختراع من كتاب ومثقفين من الأرجنتين، وأن حياته مجرد كتابة: «من المسموح لنا أن نقول: إن خورخي لويس بورخيس هو شخصية من ابتداع شخص يحمل اسمه، لم يكن له وجود باعتباره هو»(26).
هوامش:
(1) تلحظ الناقدة وأستاذة الأدب الإسبانيّ مرسيديس بلانكو أنه من غير الممكن أن نميّز ما كان يعرفه بورخيس عن فرويد، فلا تصريحاته ولا أعماله النظرية تساعدنا على ذلك؛ لكن الشيء اليقين هو أن تلك الإحالات القليلة على التحليل النفسي في كتاباته تأتي مختزلة وسطحية ومتهكمة؛ ولمزيد من التفصيل، نحيل على دراستها:
Mercedes Blanco : «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», Savoirs et clinique, 2005 / 1,N : 6
(2) بورخيس، خورخي لويس: «بورخيس وأنا»، ضمن مؤلف: سداسيات بابل، مختارات نقلها إلى العربية حسن ناصر، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013م.
(3) نفسه، ص 156.
(4) نفسه، ص 156.
(5) «الأنا هي آخر» هي أيضًا قولة مشهورة للشاعر أرتور رامبو في إحدى رسائله التي تعود إلى 15 مايو 1871م؛ وهي عنوان كتاب لأحد أكبر المنظرين للأتوبيوغرافيا في العصر الراهن: فليب لوجون في كتابه: الأنا هي آخر، الصادر عن دار سوي بباريس سنة 1980م.
(6) بورخيس: نفسه، ص 156.
(7) خورخي لويس بورخيس: «الآخر»، ضمن: كتاب الرمل، ترجمة سعيد الغانمي، الإصدار الثاني، أزمنة للنشر والتوزيع، الأردن، 1999م.
(8) نفسه، ص 14.
(9) نفسه.
(10) بورخيس: نفسه، ص 19.
(11) نفسه.
(12) نفسه، ص 16.
(13) نفسه.
(14) نفسه، ص 19.
(15) نفسه، ص 18.
(16) نفسه، ص 14.
(17) بورخيس: الزمن، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، ترجمة وتقديم محمد آيت لعميم، المركز الثقافي العربي، البيضاء، بيروت، 2016م، ص 83.
(18) مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألبرتو مانغويل، مترجم ومنشور ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، المذكور أعلاه.
(19) نفسه، ص 131، 132.
(20) بورخيس: الآخر، ص 20.
(21) نفسه.
(22) جان بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997م، وبخاصة الفصل الثاني، وعنوانه: قراءة في اللاوعي.
(23) Roland Chemama : Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse, Paris, 1993, p28.
(24) بورخيس: الآخر، ص 15.
(25) Pierre Bayard : Peut-on appliqué la littérature à la psychanalyse, ed. Minuit, Paris, 2004.
(26) أنطونيو تابوكي: هل وجد بورخيس فعلًا؟، ضمن مؤلف: بورخيس صانع المتاهات، سبق ذكره، ص251.
المنشورات ذات الصلة
الرواية السعودية في مهب التحولات الكبرى
منذ نحو قرن من الزمان، وبالتحديد في عام 1930م، صدرت الرواية السعودية الأولى «التوأمان» لعبدالقدوس الأنصاري. وفي عام...
المرجع في الكتابة الروائية السعودية المعاصرة روايات أحمد الدويحي أنموذجًا
التعبير الإنساني في عمومه يعتمد على فعل (الانتقاء)؛ فمن نسيج العالم المحيط بالذات المعبرة والمحتضن لها في الوقت نفسه...
بيروت في روايات ربيع جابر… الخروج من متاهات العنف إلى ذاكرة عادلة
في محبة بيروت كتب ربيع جابر خمس روايات بارزة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في بادئ الأمر ثلاثيته «بيروت مدينة العالم»...
0 تعليق