كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الدين والرؤية العلمانية للعالم في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى
الدين اليوم بمنزلة الإحاطة التي تُغلّف نظام التصوّرات والسلوكيات. يمكن القول بأنه «النموذج» أو «البرادايم» (paradigm) الذي تنصاع إليه هذه التصوّرات والسلوكيات. إنه لها بمنزلة الثقاف الوثيق الذي يشدّها إليه. أتكلم بطبيعة الحال عن برادايم الدين في السياق الجغرافي والتداولي للثقافة العربية الإسلامية؛ لأن الدين في الغرب توقّف عن كونه الدليل والمرشد، أي توقّف عن كونه برادايم الوعي الغربي بعد أن حل محله برادايم جديد في منعطف القرنين السابع عشر والثامن عشر بظهور الدولة الحديثة، ويمكن تسمية هذا البرادايم بالقالب السياسي الأخلاقي الذي قولب التصوّرات والسلوكيات في نظام جديد هو نظام العقل الذي حوَّل (conversion) المضامين الدينية إلى أشكال علمانية من القول والفعل.
لمحة تاريخية مختصرة تُبرز لنا طريقة هذا التحوّل وموقعنا نحن في خريطة هذا الانتقال التدريجي للوعي؛ لأن هذه اللمحة مفيدة وحاسمة في تبيان لماذا وبأي معنى لم تُفلح المشاريع العلمانية في الترسّخ في الثقافة العربية الإسلامية. أقول باختصار، وبالمقارنة مع التجربة الغربية التي هي لنا بمنزلة المرآة نرى ذواتنا فيها، أقول بأن هذه التجربة انتظمت وفق ثلاثة برادايمات تأسيسية وحاسمة:
أولًا- البرادايم الديني اللاهوتي الذي قولب الوعي الغربي طيلة 1700 سنة بهيمنة المسيحية منذ تبنيها من طرف الإمبراطورية الرومانية، وخصوصًا هيمنة المذهب الكاثوليكي عبر الكنيسة، لسان حال العقيدة وظل اليسوع في الأرض. غير أن اختلالات بنيوية حصلت في هذا البرادايم جعلته يصل إلى منتهى عطائه وأيضًا إلى ذروة قسوته مع محاكم التفتيش والحروب الدينية والنداء الملحّ في إصلاح المنظومة الدينية، فوقع الشرخ المعروف الذي انتهى بانشقاق الإصلاحيين لوثر وكالفن عن الكنيسة الكاثوليكية.
ثانيًا- وسط اهتزاز النواة الصلبة لهذا البرادايم وبروز شقوق وانهيارات بظهور مذاهب وطوائف وأفول المرجعية العامة التي كانت تضمن بالأمس كل هذه الوشائج، حصل أن تعززت الدولة نظريًّا عبر التأملات الفلسفية حول نظام الحكم (روسو، هوبس، مونتيسكيو) وعمليًّا بسقوط الملكية في أوربا (الثورة الفرنسية) وظهور الديمقراطية التشاركية في أميركا (الثورة الأميركية). بظهور مفهوم الدولة الحديثة الذي وجد اكتماله النظري مع الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل، فإن المساحة السياسية والاجتماعية لم تعُد من اختصاص المؤسسة الدينية، الراعية على الضمير الجمعي، إنما من قيام المؤسسة السياسية المنتخبة. لم نعد نتحدث عن الأخلاق الدينية بعد تراجع المرجعية العُليا وأفولها، إنما عن الأخلاق المدنية بعلمنة هذه المرجعية وتحويل المضامين الدينية إلى المحتويات الاجتماعية: مثلًا، لا نتحدث عن الزكاة أو الصدقة إنما عن الضرائب والتضامن الاجتماعي، إلخ.
انهيار مفهوم الدولة
ثالثًا- مثله مثل البرادايم الديني الأخلاقي، وصل البرادايم السياسي الأخلاقي، الذي دام قرابة 200 سنة، إلى منتهى عطائه وذروة تشدده، بعد أن ابتلع الحزب الواحد في عز الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية مفهوم الدولة نفسه، فأصبح هيكل هذه الدولة على الصعيد التنظيمي، والراعي على الأمة على المستوى الرمزي. بانهيار مفهوم الدولة المركزية ذات الحزب الواحد بعد الحرب العالمية الثانية، توجه الوعي الغربي نحو برادايم جديد، قائم على القيم الليبرالية والفردانية، ويواكب مفاهيم التقدم والتواصل والتنافس، فكان أن تعزز البرادايم الاقتصادي المالي بمنطق خاص، يقوم على المبادلات الحرة على المستوى التجاري والسيولة المالية والوفرة الإنتاجية. أصبحت المؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي، ومؤسسات المراقبة في ميزانيات الدول، إلخ) هي الحاكم والفيصل. يقع الغرب اليوم في هذا البرادايم الذي تُبنى عليه كل سياسة أو قرار. لا ندري ما البرادايم المقبل عندما يصل البرادايم الاقتصادي المالي إلى منتهى عطائه وذروة تشدده بنُدرة العمل وتسريح العمال، مع كل المخاطر الناتجة عن البطالة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وصعود الفقر والجريمة المنظمة.
السؤال المطروح الآن: ما موقعنا في هذه الخريطة؟ يمكن أن نلمس نوعًا من الشرخ في السياق العربي الإسلامي؛ لأن بقدر ما يحيا هذا السياق البرادايم نفسه كالذي يعيشه الغرب عبر أنظمة التواصل والاتصال والتحديث التقني والسيولة المالية ووسائل المواصلات المتطورة، بقدر ما يزال يقبع في روح البرادايم الديني اللاهوتي، الذي لم ينفك عن تنظيم الحياة الاجتماعية والأخلاقية للعرب والمسلمين. هل ندّعي أننا نراوح بين الديني اللاهوتي والاقتصادي المالي دون وسيط السياسي الأخلاقي؟
ليست الأمور بهذه السهولة المبتذلة. أولًا- نحيا بلا شك آثار أو مفاعيل البرادايم الاقتصادي المالي الليبرالي الذي يعيشه الغرب نفسه عبر الوحدات الكبرى مثل العولمة، والوحدات الصغرى مثل الأنظمة التجارية العابرة للقارات؛ لكن، ثانيًا- لا نزال نقبع تحت إمرة البرادايم الديني اللاهوتي الخاص بالإسلام. هل هذا عائق أم حتمية؟ إنه عائق بحكم عدم امتثالنا بعدُ إلى برادايم سياسي أخلاقي يُعبِّر عن نمط وجودنا في العالم. الممارسات السياسية الأخلاقية في السياق العربي الإسلامي مختوم عليها بخاتم الأمر والنهي. لم نصنع بعدُ لذواتنا نظامًا سياسيًّا وأخلاقيًّا يقول عفوية الفعل في ابتكاره للقواعد والصيغ السلوكية، وحرية المبادرة والمساهمة. لا نزال في مجال الامتثال إلى الأوامر والنواهي واتباع نظام ميكانيكي أو آلي هو مجرّد الاحتذاء والإذعان. في حين الفعل السياسي الأخلاقي هو فعل من وحي الزمن الحاضر وعفوية الأشكال السلوكية، وليس تطبيقًا لمخططات سالفة أو محاكاة لأفعال ماضية.
معركة الفعل
عندما نفقه هذه المسألة، أي عندما نُدرك أن الفعل الحر والعفوي والمشرّع لذاته من وحي اللحظة الراهنة، فإن تشكيل نظرية سياسية أمر ممكن، وعقلنة نظام الحكم وصناعة القرار شيء حاسم. لا بد من تخطي هذه العتبة ومجاوزة هذه العقبة، أقصد أن الثقافة العربية الإسلامية على عاتقها قيادة «معركة الفعل»، بعدما ظفرت «بمعركة القول». كان القول محظورًا في الفضاء العمومي بسبب التعسّف على المستوى السياسي. باندلاع بعض الانتفاضات العربية، ظفر المجتمع العربي الإسلامي بمعركة القول وساعدته في ذلك التكنولوجيات الحديثة مثل مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكن معركة الفعل لم يظفر بها؛ لأن الأفعال لا تزال في دائرة المحاكاة والتقليد باحتذاء نماذج خالية أو السير وفق نظام متشخّص من السلوك: اتباع داهية أو داعية أو صفوة أو نخبة. مع أن الفعل هو فعل متفرّد، فعل كل فرد (أنا، أنت، نحن) قابل للتشارُك من أجل التناغم الاجتماعي والعيش المشترك.
أعتقد أن فهم استقلالية الفعل من شأنه أن يساعد على بلورة رؤية علمانية للأشياء. هذه الرؤية متعثّرة اليوم في السياق العربي الإسلامي؛ لأن مجال الفعل ينتمي في معظمه إلى الفضاء الديني عبر مساحة التديّن (الآلي والميكانيكي الذي يخلو من الروح)، لأن الفعل في هذه المساحة هو محاكاة الأوائل، باحتذاء نظام تصوّرهم وسلوكهم. إذا كانت الرؤية العلمانية متعثّرة اليوم، فلأن نظام المحاكاة في الفعل يُشجّع المذهبية والطائفية، وقود كل حرب أهلية؛ لأن كل طائفة تعدّ نظام التصوّر والسلوك الذي تحتكم إليه بمنزلة اليقين الذي لا يشوبه شك أو ارتياب؛ وكل نظام مختلف عبارة عن نظام مخالف، وينخرط في شكل من أشكال الصراع والصدام. من شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل الفعل من دائرة التقليد وسجن المحاكاة، بأن تحرّره وتدفعه لأن يُشرّع لذاته من بادِهِ اللحظة التي تتولّد عنها أشكال من التصوّر وأنظمة من السلوك.
هذا لا يعني أن الأشكال الدينية ملفوظة، لكن كما تتبدّى اليوم في طبعة عريقة، تحمل أثقالها المهترئة، فهي العائق وليست اللائق لبادِهِ العصر. من شأن الرؤية العلمانية أن تعمل على عقلنة هذه الأشكال في طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة، بأن تقوم بتحويل هذه الأشكال الدينية إلى مضامين مدنية، إلى أخلاق فردية وجمعية تقول أصالة الفعل في انبثاقه الآني وسبقه الآتي، أي ما يُنتجه الآن من أشكال سياسية وأخلاقية، وما يترقبه من إمكانات في الزمن المقبل. الرؤية العلمانية نقطة حاضرة وخط نحو المستقبل؛ لذا تُعوّل على ابتكار الفعل في الحياة اليومية والراهنة وتتطلّع إلى الآتي، بعد أن تسعى إلى تحرير هذا الفعل من بداهة التقليد التي تسجنه في الماضي. هل العالم العربي الإسلامي على استعداد لخوض معركة الفعل من أجل بناء الحاضر والتطلّع إلى المستقبل؟ هذا ما ينبغي الانتباه له ومصاحبته بالبحث الحثيث والعمل الجاد.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق