كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
كيف نوقف تفكيك العالم العربيّ؟
لم يَعُدِ العالم العربيّ على حاله التي كانت قبل عقد واحد من الزمن، فعوامل التعرية السياسية والاجتماعية رانت على مكوّنات الدول الوطنية التي تشكله من الخليج إلى المحيط، بعضها بفعل خلل بنيويّ داخليّ، وبعضها من جراء تدخُّلات دولية وإقليمية، طامعة فيما لدى العرب من إمكانيات، وطامحة إلى حماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. لكن ما كان بوسع الخارج أن يعبث في الداخل العربيّ لولا أنه وجد قابليةً لهذا، وهشاشةً ظاهرةً، تُغريه بالتدخُّل، وتُصَوِّر له أن مهمته في أرض العرب ستكون يسيرةً.
إن الحديث عن «سايكس بيكو» جديدةٍ لم يَعُدْ ترفًا، ولا هو من قبيل الشعور المفرط بالمؤامرة، لكنه بات حقيقةً في ظلّ الظروف التي آلَتْ إليها أوضاعُ العالم العربيّ، الذي تآكلت أطرافه في البداية بعد احتلال العراق، وتفتّت الصومال، واضطراب الأحوال في موريتانيا، ثم انفجر قلبُه بفعل ثَوْرَات وانتفاضات، جَرَّتْ بعضَ البلدان إلى حرب أهلية؛ مثل: سوريا وليبيا، واستقطاب سياسيّ حادّ؛ مثل: مصر وتونس، وجعلت بعضه مطمعًا لإيران وتركيا؛ مثل: اليمن وسوريا والعراق. وتضغط هذه الأوضاع على بقية الدول بدرجات متفاوتة، بما قد يؤدّي إلى انقسامها وتفتُّتها، وبخاصة بعد توحُّش الجماعات المتطرّفة والإرهابية التي توظِّف القراءة المشوَّهة والمُغرضة للإسلام في تفكيك الأوطان.
وقف السيناريو البائس
كي يمكن وقف هذا السيناريو البائس لا بد من الشروع، الآن قبل الغد، في عملية تقود إلى إنجاز الانصهار أو الاندماج الوطنيّ، الذي غاب في أثناء مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، بعد عملية سياسية، تُوقِف النزاعات والصراعات المُسلّحة والفوضى المجتمعية، والاحتقانات النفسية. إلى أن تكتمل عملية الاندماج على خير وجه، وتؤدِّي دورها في رفع الجماعة ودفع المجتمع إلى الإمام؛ لا بد من توافر عدة شروط يمكن ذكرها على النحو الآتي:
أولًا- الطواعية: فالاندماجات التي تجري قسرًا لا يمكنها أن تعيش طويلًا… والمثال الناصع تاريخيًّا على هذا هو الإمبراطوريات التي تلاحقت على حُكم البشرية طوال القرون التي سبقت قيام «الدولة القومية»، ففي توسُّعها ضمَّت أجناسًا وأتباعَ أديانٍ ومذاهبَ ولغات وأعراقًا عديدة، ودمجتهم عَنْوةً، وظل هذا الدَّمْجُ القَسْريُّ قائمًا رَدَحًا من الزمن، من دون أن يتحوّل في أغلب الأحيان والمناطق إلى انصهار اجتماعيّ كامل؛ لهذا ما إنْ فَلَتَتْ قبضةُ السلطة المركزية في هذه الإمبراطوريات حتى تمرَّدَتْ عليها الجماعاتُ المُجبَرة على الانضواء تحت لواء الإمبراطور، وانفصلت تباعًا في كيانات مستقلَّة. أما المثال الناصع في العالم الحديث فهو الاتحاد السوفييتيّ السابق، الذي قام على ضمّ قوميات، وعرقيات، وأصحاب ثقافات وديانات بالقوة المسلَّحة ضمن هذا الكيان الإمبراطوريّ الكبير الذي ما إنْ تراخَتْ قوَّتُه، حتى تفكَّك إلى دُوَيْلات عِدَّة. وهناك -أيضًا- الاتحاد اليوغسلافيّ الذي راح يتفكَّك قبل أن تَطْوي الألفيةُ الثانيةُ سنواتِها.
ثانيًا- الخصائص البنيوية المشتركة: وهي تتوزَّع في مسارات متعددة، يؤدِّي جميعُها إلى تماسك «التيار الاجتماعيّ العريض»، ومنها ما يتعلّق بالقيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة التي إنْ تجدَّدتْ لا تُخلّ بهذا التماسك، ولا تهُزّه فجأةً، فتنتج تصدُّعات وتشققات تضرُّ به. ومنها ما يرتبط بالثقافة التي تحكم الأذهان والأفهام وتصقلها، وتحدِّد السلوك وتعيِّنه، فهذه الثقافة بما ينضوي تحتها من معارف وقيم وتوجُّهات يُمكنها أن توظف لبناء الوعي الذي يؤسّس للتعايش، وقَبُول الآخَر من حيثُ المنشأُ، ثم يفتح الطريق أمام البحث الدائم والدائب عن الانصهار الوطنيّ. ومنها كذلك ما يرتبط بالجوانب الاقتصادية، ومقتضيات السُّوق التي تبني شبكة من المصالح بين الفئات والشرائح والطوائف؛ تجعلها حريصةً على أن تُبقِي علاقاتٍ جيدةً مع الكُتَل الاجتماعية المختلفة.
ثالثًا- الإطار العادل: فالدستور الذي يحكم التصوُّرات والممارسات داخل الدولة يجب ألا يُفرّق بين المواطنين وَفْق أيّ من الاختلافات القائمة بينهم، إنما تُسوِّي نصوصُه بين الجميع في الحقوق والواجبات. ولو حمل دستور بلد أو قوانينه ما يميِّز بين مواطنيه على أيّ من أُسُس الاختلاف، فإن هذا أمر جدٌّ خطير، ويفتح الباب على مصراعيه أمام ظهور أفعال اضطهاد؛ سواء على مستوى الأفراد أم المؤسسات. ولا يجب الاكتفاء بالنصوص التي تقيم العلاقة بين المواطنين على أساس التساوي والتماثل، إنما من الضروريّ أن تنتقل هذه النصوص إلى عالم الواقع، فتتحوّل من محض سطور إلى سلوك وتدابير.
رابعًا- الرابطة العاطفية: من الضروريّ أن تكون هناك نقطة موحّدة، تنجذب إليها مشاعر الجماهير، وتكون أكثر سطوعًا من أيّ نقاط أخرى جاذبة، يمكن أن تُشتّت ولاءهم الجمعيّ. وهذه النقطة لا تخلقها الادّعاءات، ولا يصنعها الاكتفاء بالخطابات والكلمات الرنَّانة الطنانة التي تدغدغ المشاعر، إنما تتطلّب إجراءات ملموسة في الواقع تغذي الانتماء.
خامسًا- المشروع السياسيّ والحضاريّ المشترك: فغياب المشروع السياسيّ الذي يَتحلَّقُ حوله الجميعُ، ويعملون من أجل نجاحه، يؤدّي إلى عودة الناس إلى انتماءاتها الأَوَّلية وبخاصة الدينية. أما حضور هذا المشروع بشكل طوعيّ، واشتماله على القواسم المشتركة والمصالح المتبادلة بين طوائف المجتمع وطبقاته وشرائحه وفئاته المختلفة؛ يؤدّي بهؤلاء جميعًا إلى التوحُّد والانصهار.
إن تطبيق هذا التصور بات ضرورة الآن؛ كي نوقف تفكيك العالم العربيّ، وعلى السلطات الحاكمة والنُّخَب البارزة، والصفوات والطبقات الممكنة، والقوى الفاعلة، وأصحاب الفِكْر، وقادة الرأي؛ أن يتكاتفوا من أجل صناعة هذا المشروع قبل فوات الأوان.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق