كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
التقسيم موجود في الذهنية الغربية – أيمن الحماد
لا يمكن الأخذ بكلام رجل الاستخبارات السابق الفرنسيّ برنارد باجوليه بالقطعية الحدّية، على الرغم من الباع الاستعماريّ الطويل لفرنسا في المنطقة، ولا ننسى الدبلوماسيّ فرانسوا بيكو الذي كان ونظيره مارك سايكس، هما من اختَطَّ الحدود الجديدة لعالَمنا العربيّ، وعدم الأخذ بالقطعية مآله إلى وجود لاعِبِينَ غير نِظامِيِّين في مَشْهَد الصراع، ونَعْني الجماعاتِ الإرهابيةَ، من ميليشيات وتنظيمات، التي لا يمكن التعاطي معها في إطار أيّ تسوية أو حتى مؤامرة، بل إن الحاصل اليوم أن هناك رغبة في تماسك الدول التي تَشهَد فوضى كبيرة؛ تخوفًا من صعود تلك الجماعات. وعلى أي حال فإن مشاريع التقسيم موجودة في الذهنية الغربية قبل ما سُمِّي بالربيع العربيّ، وإن إسقاط الأنظمة كان رغبة في نفوس المحافظين الجُدُد على الأقل في أثناء مُدَّتَيِ الرئاسة لجورج بوش الابن، وتُخبرنا بعضُ السّيَر الذاتية، ومنها ما يحكيه الوزير السابق أحمد أبو الغيط، وما ينقله عن انطباعات مبارك الرئيس المصريّ الأسبق، وشعوره برغبة أميركية في تغييره، أو تلك التي سَمِعها مباشرة من ستيف هادلي مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ السابق، بضرورة تغيير النظام في سوريا؛ تُوضِّح لنا مثلُ تلك الإشارات الرغبة الغربية في تغيير الأنظمة، لكن هل يرادف ذلك تغيرٌ جغرافيّ؟ في واقع الأمر إن الحدود في منطقة الشرق الأوسط تَظلُّ مسألة رخوة وحسَّاسة، ولم تُحسَم بين كثير من الدول التي تعايشت بفعل المصالح والظروف مع أزمات حدودية، لا تخرج إلى العَلن إلا في حال نشوب الأزمات، وفي غير ذلك تظلُّ حبيسة الأدراج والأرفف.
إن فرضية إعادة ترسيم الحدود في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون المسوغ لها استغلال «داعش» هشاشة دولتَيِ العراق وسوريا، واكتساح الحدود بينهما، فالتاريخ يقول: إن الجغرافيا ترسمها القوى الكبرى التي تتبنَّى اليوم شكلًا جديدًا في الاستعمار بوساطة تبنِّي أحزاب سياسية، أو تشييد قواعد عسكرية، يمكن أن تضمن حضور الدولة ذات النفوذ واستمرار مصالحها، وفي حالتنا هذه نَعْني أميركا وروسيا المعنية بشكل رئيس بسوريا، على حين الأُولَى حاضرة في العراق.
إن حجم تأثير تنظيم «داعش»، وقدرته على الإمساك بالأرض، وحجم الترهيب -لا شك- أسهم في إحداث هياج اجتماعيّ، وتغيير ديموغرافيّ لا يمكن إصلاحه، لقد بلغت تلك الحال أوربا، وبلغت عَنْوةً العواصمَ الأوربية، وأَلْقَت بظلالها على أشكال التعاطي السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ في أوربا على نحو يصل إلى القول بأن أوربا -أيضًا- لن تعود مثلما كانت، وليس الشرق الأوسط فحسب، فتأثير موجات الهجرة على التكوين الديموغرافيّ والإثني، وما قد يلحقه من تبعات، يُهدِّد في واقع الأمر معاهدة «شنغن»، وظهور الأسلاك الشائكة بين حدود أوربا التي ترمز حقيقةً إلى الخوف من موجات البشر الفارّين من جحيم الشرق الأوسط وأتون الفوضى.
إذًا لا شك أن التركيبة السكانية والتقسيمات الإثنية يعاد توزيعهما اليوم في سوريا والعراق، وهذا لا يَعْني الدول الكبرى في العالم بقدر ما يَعْني الدول الإقليمية؛ لذلك فترسيم الحدود وتغييرها نراه أمرًا مستحيلًا، أو غير وارد على المدى القريب. لا ننسى أن دولة مثل سوريا تختلف عن العراق من حيث غزارة المكونات وتنوعها، وتعدد المذاهب والأديان والثقافات.
إن النزاع الحاصل اليوم، والتدخل الدوليّ بين الناتو وروسيا، سيفضي لا محالةَ إلى صيغة يمكن بوساطتها تقاسم المصالح، لا تقسيم الأرض، والبحث في تفتيتها على الرغم من رواج مسألة تقسيم العالم العربيّ، لكن يجب أن نسأل: لماذا التقسيم؟ وهل التقسيم سيُضعف الشرق الأوسط أكثرَ من حالته الراهنة، أم قد يجلب في حال فوضويته مجموعاتٍ قد تُشكّل خطرًا حقيقيًّا للغرب وحضارته ومنجزه. إن قلنا: إن التناحر المذهبيّ أو الإثني يبلغ اليوم حالًا من الخطورة، لكن لا نعتقد أنه سيفضي إلى تقسيم الدول، فعلى المستوى الإقليميّ لن تقبل تركيا نشوء دولة كردية جنوب حدودها تحت أي مسوّغ، ولن تسمح إيران بميلاد دولة سُنية شَرْق العراق، ويمكن القياس على ذلك، ثم إن تقسيم الدول العربية الحديثة هو حصيلة الاستعمار، وليس نتيجة صراع أهليّ، ولو كانت تلك الدولة بصدد تقاسُم الأرض لَفَعَلَتْ بعد جلاء الاستعمار عنها مثلما حدث في الهند، لكنها ظلَّت متماسكةً، واستطاعت بناء دولة وطنية.
في كل الأحوال، إن الصراعات حتى الأهلية لا تتسبَّب في نشوء دول، مثل الحال الأفغانية التي لم تُسفر عن ميلاد أيّ دولة على الرغم من إخفاق دولة أفغانستان إن صح التعبير، لكنها مهمة في الصراع الجيوسياسيّ على المستوى الدوليّ؛ لذلك من المهم الحفاظ عليها، لكن لماذا يُقَسَّم السودان؟ عمليًّا لم يُقسَّم إنما حدث الانفصال نتيجة استفتاء، صحيح أن ذلك وقع بعد سنوات طويلة من الحرب التي بالتأكيد رسَّخت حالة عدم الولاء للدولة السودانية، إضافة إلى الدعم الغربيّ لا شكَّ في ذلك، والحالة يمكن أن تنطبق على أسكتلندا التي نظَّمت استفتاء على الانفصال عن بريطانيا، وصوَّت الأسكتلنديون برفض الانفصال.
إننا لا يمكن أن نُقلّل من الواقع اليوم في الخارطة العربية من حيث التأثيرات الواسعة النطاق والمتعددة المجالات، لكن أن نشهد ميلاد دول جديدة، فنشكّ في ذلك.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق