كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الحدود في العالم العربي.. المتغيِّر والثابت – عبدالعزيز بن صقر
حدود العالم العربيّ القائمة اليوم هي نتاج التطورات التي لازمت انتهاء الحرب العالمية الأولى، والظروف التي قادت إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية التي كانت تتحكّم في أجزاء أساسية من العالم العربيّ. فالخلافة العثمانية لم تتحكم في العالم العربيّ باسم الاستعمار الخارجيّ، إنما باسم الخلافة الإسلامية العثمانية التي ورثت إطار الدولة الإسلامية التي أسّست أصلًا في بداية ظهور الدعوة الإسلامية، واستمرّت في الوجود بصيغ وأسماء مختلفة. وعلى الرغم من أن تقسيم العالم العربيّ في حقبة الخلافة الإسلامية بجميع أنواعها، ومنها الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها، كان قائمًا على أُسُس الولايات، فإن هذه الولايات مثَّلت كيانات جغرافية وسياسية وحضارية مختلفة بعضها عن بعض؛ فالعراق والشام ومصر والحجاز وغيرها من ولايات الدولة الإسلامية المعروفة كانت تُمثِّل ولايات تطوَّرت لاحقًا إلى كيانات سياسية مستقلَّة مثلما نعرفها اليوم، وفي إطار جغرافية تقارب ما تطور لاحقًا.
بدأت قضايا الحدود في العالم العربيّ في 16 مايو 1917م، يوم توقيع القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية على اتفاقية سايكس بيكو Sykes–Picot Agreement (أو اتفاقية آسيا الصغرى (Asia Minor Agreement كما تُعرَف رسميًّا، ومثلت هذه الاتفاقية أول خطوة لتقسيم مناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية، وليس اتفاقية لرسم الحدود الجغرافية لكيانات سياسية ناشئة. وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن هذه الاتفاقية وضعت بذور ما تطور لاحقًا إلى كيانات سياسية متميزة من بعضها. وجاءت الاتفاقية الإنجليزية الفرنسية في 4 ديسمبر عام 1918م، بين رئيس الوزراء البريطانيّ لويد جورج ورئيس الوزراء الفرنسيّ جورج كليمنصو؛ لِتُنهِي إلى الأبد حُلم إنشاء دولة عربية موحَّدة خالية من الحدود الفاصلة. وتجاوزت هذه الاتفاقية الأخيرة جميع الوعود التي قطعت للعرب بإنشاء كيان سياسيّ عربيّ موحَّد في مراسلات سابقة، جَرَتْ بين قيادات عربية والقوى الكبرى، وبخاصة مراسلات الشريف حسين واللورد مكماهون بين عامَيْ ( (م1915 – 1916التي تضمّنت هذا الوعد.
منذ عام 1920م، بدأت الكيانات السياسية العربية المستقلة بالظهور والتبلور التدريجيّ، ومعها ظهرت الحدود الجغرافية لكل كيان عربيّ. كانت هذه الحدود لا تمثّل الواقع القائم على الأرض من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل تعكس بشكل أساسيّ حدود نفوذ القوى الكبرى المتصارعة في المنطقة. ومع مرور الزمن ترسَّخت خطوط هذه الحدود، وتحوَّلت من حدود رسمتها القوى الاستعمارية إلى حدود الأمر الواقع، ثم إلى حدود قانونية ترتكز على مبدأ السيادة والاستقلال.
تحدٍّ فِعليّ لحدود العالم العربيّ
كان أول تحدّ فعليّ لحدود وخارطة العالم العربيّ ما بعد الحرب العالمية الأولى، قد جاء من التغيرات التي شهدتها طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم العربيّ. فقيام أنظمة عربية تتبنّى الأيديولوجيات الثورية والانقلابية كان له انعكاسات مهمة على قضايا الحدود في العالم العربيّ. فقد جاء إعلان الوحدة الاندماجية المصرية السورية رسميًّا في 22 فبراير عام 1958م؛ ليزيل الحدود القائمة والمعترف بها لدولتي مصر وسوريا، ويعلن قيام كيان سياسيّ جديد تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، بحدود سياسية تضمّ أراضي الدولتيْنِ. وبالتزامن جرى إعلان قيام «الاتحاد العربيّ الهاشميّ»؛ ليضمّ أراضي دولتَي العراق والأردن، ويزيل خط الحدود الذي كان قائمًا بينهما. لكنَّ الكيانيْنِ الجديديْنِ لم يتمكَّنا من الاستمرار في الحياة. فقد انهارت الوَحْدة المصرية السورية في سبتمبر عام 1961م، وقبلها انهار كيان الاتحاد العربيّ العراقيّ الأردنيّ في يوليو 1958م، وعادت كل دولة إلى حدودها السابقة، وعاد خط الحدود السابق يمثل الأمر الواقع في العالم العربيّ.
في عام 1990م، جاءت أهم محاولة في تاريخ العالم العربيّ؛ لتغيير الخارطة السياسية باستخدام وسائل القوة. عندما قام العراق في الثاني من أغسطس عام 1990م، بغزو دولة الكويت المستقلة وضمّها إليه بالقوة. وهذه المحاولة لم تَدُمْ طويلًا؛ إذ جرى تحرير دولة الكويت في فبراير عام 1991م، وعودتها دولةً مستقلةً، بحدودها السابقة التي كانت قائمة قبل عملية الغزو والاحتلال والضمّ.
هنا يمكننا القول: إن جميع المحاولات التي هدفت إلى تغيير طبيعة الحدود الجغرافية القائمة بين الدول العربية من جانب بعض الدول أو القيادات العربية أخفقت، أو لم تعمر زمنًا طويلًا قبل أن تنهار، ويعود الأمر إلى ما كان عليه في الحقبة الاستعمارية. ومن الممكن القول: إن ما تطوَّر منذ اتفاقية سايكس بيكو استمر في العمل على أرض الواقع، ولم تشهد قضية الحدود بين الدول العربية إلا تغيرات وقتية، لم تتمكن من الصمود أمام واقع الحدود الاستعمارية الذي أمسى مبدأً راسخًا في الذهنية العربية والدولية.
اللاعبون من غير الدول
خلال العقود الزمنية القليلة الماضية حدث تطور خطير في مفهوم امتلاك القوة، واستخدام القوة في العالم العربيّ. فنتيجة لتطورات متعددة في البيئة الإقليمية والدولية برزت قوى جديدة، أَنْهَت احتكار الدولةِ التقليديةِ القوةَ، حين تبلورت ظاهرة التنظيمات والميليشيات السياسية والعَقَدية المسلحة التي بدأت تُنازِع الدولةَ والسلطة التقليدية السيطرةَ على الأرض والمواطنين والموارد. وهنا يمكن تسميتها ظاهرةَ بروز دور «اللاعبين من غير الدول»، ويشمل هذا المصطلح جميع الجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة الرسميّ، ومنها الجماعات الإرهابية، وجماعات المعارضة المسلحة، وجماعات المقاومة للاحتلال، والجماعات المدافعة عن حقوق الأقليات الدينية أو العرقية… وغيرها.
حرب على الحدود التقليدية
«اللاعبون من غير الدول» وجميع أصنافهم وانتماءاتهم يقودون اليوم الحرب على الحدود التقليدية في العالم العربيّ، وينجحون في مواضع متعددة في تغيير الحدود الدولية القائمة، بعد أن أَخْفقت «الدول الرسمية» في تحقيق الهدف بجميع الوسائل السياسية والعسكرية. والتغيير المُهم للحدود ضمن هذا المفهوم حدث مع انتصار حركة تحرير جنوب السودان، وعبر توظيف ميليشياتها المسلحة في تغيير حدود دولة السودان، والإعلان عن استقلال دولة جنوب السودان الكامل في 9 يوليو 2011م، والحصول على الاعتراف الدوليّ بأمر واقع جديد.
الحركة الكردية في شمال العراق تسير على نفس خُطَا حركة جنوب السودان، فالميليشيات الكردية المسلحة «البيشمركة» تمكَّنت من فرض أمر واقع جديد في العراق، يُجرّد الحكومة المركزية من أي سلطة على أراضيها في الشمال )كردستان العراق). والتطورات سائرة إلى تغيير خارطة العراق، وخط حدود الدولة الدوليّ.
في يوم 10 أغسطس 2014م، أعلنت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو تنظيم داعش كما يعرف اصطلاحًا، في شريط فيديو بُثَّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ عن سقوط اتفاقية سايكس بيكو إلى الأبد. جاء هذا الإعلان على إثر إزالةِ التنظيمِ الإرهابيّ حواجزَ الحدود الدولية الفاصلة بين دولتَيِ العراق وسوريا.
وقد أعلنت قيادة التنظيم الإرهابيّ في حينه أن أهم أهداف التنظيم هو إلغاء آثار ونتائج اتفاقية سايكس بيكو، وإلغاء الحدود الجغرافية الفاصلة بين أجزاء العالم العربيّ التي أقامتها الاتفاقية. قبل هذا وفي يوليو عام 2014م، كان زعيم داعش أبو بكر البغداديّ قد أعلن في خُطبته المشهورة في مسجد النور بمدينة الموصل أن «زحف الدولة الإسلامية لن يتوقف حتى يضع المسمار الأخير في نعش مؤامرة سايكس بيكو».
خلاصة الأمر أن قوة «اللاعبين من غير الدول» وقدراتهم ستكون المعوّل الذي يهدم الكيانات السياسية القائمة في عالمنا العربيّ، ويُغيِّر خارطة الحدود السياسية التي كانت قائمة منذ بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي. فهذه القوى تمتلك من الإمكانيات والقدرات ما يمكن أن يُهدّد «الأمر القائم» بالزوال السريع، ومنها الحدود السياسية لدول المنطقة بشكلها التقليديّ الذي اعتدناه.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق