كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
المشترك والمختلف بين الديانات الثلاث
لا تكاد الديانات السماوية الثلاث يختلف بعضها عن بعض في الأطر الأساسية لجميع المؤمنين بها، فجميعها تعامل مع أتباعه بالمنهج نفسه؛ أنهم خير الأمم، وأنها خير الرسالات، وهو ما منحهم نوعًا من التميز عن التابعين لأي من هذه الرسالات الأخرى، لكنه أيضًا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع الآخرين، كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج كما لو أن بعضهم تأثَّر ببعض في حركات الإحياء والعودة إلى الأصول، وفي مقدمتها الحركات السياسية التي قامت على مبادئ دينية.
هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن فرحات في كتابهما المهم «التأثير اليهودي على الحركات الإسلامية – الإخوان المسلمون والسلفية الجهادية نموذجان» الصادر حديثًا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة.
في هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات الإسلامية السياسية، مؤكدين أن التاريخ الإسلامي مليء بالعديد من الحركات السياسية التي قامت على أسس دينية، في مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج في العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة ظهرت الوهابية في الجزيرة العربية، والسنوسية في شمال إفريقيا، والمهدية في السودان، والدهلوية في الهند، لكن هذه الحركات لم تكن الأساس الذي قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات، فقد كان التعانق بين جماعة الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية أساس ظهور جماعات الخروج المتوالية في العصر الحديث، بداية من الجهاد والتكفير والهجرة وصولًا إلى القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت منها هذه الجماعات التكفيرية في سبعينيات القرن الماضي، وما زالت تؤتي أكلها حتى الآن في الجسد العربي الذي تحلل من كثرة الخروق فيه.
الجماعات الأكثر تشددًا
قسم الباحثان كتابيهما ثلاثة فصول: درسا في الفصل الأول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات «الدين» و«الأصولية» و«السلفية» و«الإصلاح»، مقارنين بينها من المنظورين العربي والغربي، ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إلى المتمسكين بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس، سواء لدى البروتستانت أو الكاثوليك، وهو المفهوم الذي تحول إلى مذهب باسم الأصولية المسيحية في بداية القرن العشرين، وأخذ على عاتقه معاداة المجتمعات العلمانية، فإن المنظور العربي لا يكاد يوجد في معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية، وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء في تفسير المصطلح؛ إذ ربط بعضهم دلالته بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي، لكنهم في العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه على الجماعات الأكثر تشددًا.
أما مصطلح السلف فقد قصروه على القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية، ومنه جاء مصطلح السلفية التي عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى منابعها الأولى)، ومن ثم فكل ما يعود إلى هذه القرون هو من قبيل السلف، لكن هذا المصطلح لم تظهر بوادره إلا في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص على التأويل والقياس والرأي، وكان أولهم الإمام أحمد بن حنبل الذي يُعَد حجر الأساس فيما عرف بالسلفية النصوصية، تلك التي تطورت مع ابن تيمية إلى السلفية العقلانية، ثم جاءت السلفية النجدية على يد محمد بن عبدالوهاب، التي رفضت البدع والخرافات التي طرأت على الإسلام، لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت نوعًا من الحذر الشديد من المدنية ومفرداتها.
في الفصل الثاني رصد الباحثان تطور فكر الإسلام السياسي وجماعاته، بداية من جمال الدين الأفغاني الذي سعى إلى إنجاز عمل سياسي عبر الإصلاح الديني، وقد تأثر به مفكرون كثر في مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بين عباءة الأزهر من جانب وعباءة الفكر الأوربي الذي عايشه مع أستاذه الأفغاني، فقدّم رؤية خرج منها من أراد التقدم على أساس الشك والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، كما خرج أيضًا المتشددون الذين رأوا في منهج السلف طريقهم القويم، في مقدمتهم الشيخ رشيد رضا الذي فتن به حسن البنا، فظهرت على يديه جماعة الإخوان المسلمين في ظل سقوط الخلافة في تركيا، فغازل البنا الملك فؤاد ومن بعده ابنه فاروق الأول بأن يكون خليفة المسلمين، لكن ثورة يوليو التي قامت على أكتاف الشيوعيين والإسلاميين معًا سرعان ما انقلبت على الجميع، فدخل الإخوان السجون وكتب سيد قطب كتابة «معالم في الطريق» الذي استقاه من أفكار أبي الأعلى المودودي في باكستان، هذا الكتاب الذي آمن بأفكاره الكثيرون، فظهرت في مصر جماعات الجهاد والتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والفنية العسكرية وغيرها من الجماعات التي رأت في السبعينيات ضرورة الخروج المسلّح على المجتمع، وانتهى الأمر بظهور جماعة القاعدة في الثمانينيات، ثم وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عقب ثورة 25 يناير، لكنهم سرعان ما فقدوه لأخطاء عديدة في التجربة وعدم التماسّ مع أرض الواقع.
في الفصل الثالث سعى المؤلفان إلى إيجاد تماسات بين الديانات الثلاث وأتباعها فيما يخص العمل السياسي القائم على أساس ديني، وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه الحركات، فقد نشأت في البدء كحركة علمانية تسعى إلى إقامة وطن لليهود، وهو الأمر الذي يناقض المعتقد اليهودي بأن الشتات سيستمر إلى أن يظهر المسيح اليهودي ويطهر الأرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأتي القيامة، لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات والمفكرين اليهود المرتبطين بما جاء في التوراة والتلمود، وساعدت الهولوكوست الصهاينة في التفوق على خصومهم الذين أضعفتهم المحرقة، فتحول المعارضون إلى موالين متشددين، ثم إلى حركات متشددة داخل الإطار الصهيوني، هكذا قامت الدولة الصهيونية، وهكذا تحول الجدل بين العلمانيين والدينيين إلى إقامة دولة تمزج ما بين العلمانية والدين المتشدد في إطار واحد.
الغرب ليس بعيدًا من الأصولية
لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية والأصولية، فقد نشأت البروتستانتية على أساس العودة إلى النص الإنجيلي فقط، ولا حاجة إلى تفسيرات وتأويلات البابوات والكهنة، وانتصر البروتستانت نظرًا لرغبة الأمراء والملوك في تقليص سلطات الكنيسة الكاثوليكية، لكن البروتستانت الثوريين تحولت رؤاهم فيما بعد إلى تكلس حرفي في شرح النصوص والتعامل معها، وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إلى التمسك الحرفي بالنص، وكان الطرح المشترك لدى المتشددين في الديانات الثلاث هو الإيمان بأنهم خير أمة، وأن فكرتهم هي الفكرة الجامعة المانعة، وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات، وأن ما سيأتي هو المهدي أو المسيح الذي سينتصر على الظلم ويقيم العدل، وأن النص ليس بحاجة إلى تأويل أو قياس.
هكذا تشابهت اليهودية مع المسيحية مع الإسلام في البنيات الأساسية المنتجة للمتشددين الراغبين في إحياء أصول الدين، والعودة إلى السلف الصالح، لإقامة دولة العدل القوية، وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد، والرغبة في بعث السلف الصالح من مرقدهم عبر تمثل أقوالهم وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة، لكن ذلك كله لا يقول بأن ثمة تأثيرًا واضحًا من اليهودية والمسيحية في حركات الإسلام السياسي، وإن كان ثمة تشابه في المقدمات والنتائج التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.
المنشورات ذات الصلة
«جوامع الكمد» للشاعر عيد الحجيلي… عوالم شعرية بسيطة
يثير ديوان «جوامع الكمد» (الدار العربية ناشرون) للشاعر السعودي عيد الحجيلي مجموعة من الأسئلة القصيرة المتعلقة بالذات...
«حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس التخييل المرجعي للذاكرة
تأخذ رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس -منشورات المتوسط- أذهاننا إلى زمن الحرب، إنها إحالة إلى الزمن، ولم...
السيد الجزايرلي في ديوانه الجديد بصير يتلمس عبر التصوف حنينه إلى الوطن
العلاقة بين التنبؤ والشعر قديمة ووطيدة منذ قصة وادي عبقر، والقول بأن لكل شاعر عفريتًا من الجن يلهمه أشعاره، مرورًا...
0 تعليق