كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
شياطين الثورة الرقمية.. ماذا فعلوا بسينما الكائن الإنساني المتفرد؟
من المؤكد أن عباقرة الفن السابع الكبار يتحسرون على الأيام التي مضت حين كانت الكاميرا الثقيلة وحدها سيدة المشهد، وسيدة الفكرة والصورة والمحتوى. اليوم لا يبدو أن الاحتلال الرقمي للسينما قد صنع المعجزات بخصوص اللغة السينمائية التي طورها هؤلاء الكبار من وراء كراسيهم، وصنعوا أمجاد النجوم والنجمات من خلالها. ليس سهلًا التسليم بهزيمة من أي نوع هنا. لكن السينما تتغير باسم «الأثر المزيف» للصورة التي يشتغل عليها شياطين الثورة الرقمية من دون أن يضطر أحد لمعرفة أسمائهم، وهذا قد ينطبق على صناع أفلام من مثل «ماتريكس» حين يقوم البطل (كيانو ريفز) بإعادة إنتاج نفسه متجاوزًا فكرة الموت نفسها. ويسود اعتقاد قوي أنه بعد فترة من الزمن قد لا نرغب حتى بمعرفة أي من هؤلاء الشياطين يقف وراء هذه «الملحمة البصرية» أو تلك.
جل ما سنعرفه، أو تعرفه الأجيال اللاحقة سيكون بمستوى الحلول الرقمية التي لا يدركها عقل حساس إلا من خلال اللعبة البصرية الفانتازية، وهذا هو أخطر ما في الانقلاب الذي شهدته السينما في العقود الأخيرة، حين انحرف بها سدنة مختلفون في أمزجتهم ورُؤاهم عن الطريق الذي شيده الكبار، وحرصوا دومًا على ملاقاة المشاهدين في منتصف الطريق: لغة خاصة لا تستنفد البعد الذهني للصورة التي تراكم في عقولهم ما يجب قوله واستنطاقه على الدوام.
الملاحم البصرية الحديثة التي استفادت من الانقلاب التقني الرقمي تغفل هذا البعد. أفلام مثل (آفاتار – سيد الخواتم) تقوم بأخطر عملية إعدام في تاريخ الفن السابع لما سبق وراكمه منظِّرو هذا الفن عبر أكثر من قرن. كل الكتابات التي تحرَّت نوع هذه الرؤية وقدَّمت مساهمات جليلة في إعادة إنتاج الطريق التي تعبر منها حلقات متماسكة نظريًّا وإبداعيًّا صارت في مرمى خطر، متقلب، يؤسس لما هو أبعد من انقلاب في نوع التقبل والتلقي الذي تُشَيَّد منه المحاكاة الرقمية لأبطال وبطلات بلا ملامح، وأبعاد نفسية وعاطفية كانت حتى عهد قريب أساس اللغة السينمائية والمعاشرة النظرية الفذة لمآلات لا يمكن الحكم عليها إلا من خلال الأبعاد النفسية والرمزية للصورة التي طالما ناصرها ودافع عنها مخرجون كبار، كانوا يدركون في نفس الوقت نوع المراهنة النظرية التي يستخلصون منها الدروس والعبر. قد لا تكتفي هذا المقدمة بتوضيح الأبعاد التاريخية والاجتماعية التي دفعت بهذا التطور التقني غير المسبوق إلى حشر اللغة السينمائية في مربعات رقمية لا نهايات أمامها، ولا نهايات لها، وكل ما تفعله، هو أنها تقدم منحنيات جديدة أمام هذه اللغة لا يعود ممكنًا معها التكهن بالمآلات التي تقود المشاهد إلى كل ما هو معاد لها.
إن إبداء القلق بخصوص الوضع الصحي للسينما إن جاز التعبير لا يعود كافيًا، فمحاكاة الألعاب الفيديوية تنتصر تدريجيًّا، وليس أدل على ذلك من فلم -على سبيل المثال أيضًا- (إنذار بورن النهائي) 2007م؛ إذ لا يبدو أنه بمستطاع أحد من «المنظِّرين الجدد» الذين لا نعرف أسماءهم في الواقع، شأنهم شأن شياطين الثورة الرقمية الذين قادوا هذا الانقلاب من وراء الشاشات، الادعاء بأن نظرية واحدة سوف تجمع كل ما يقدم رقميًّا من بوابة الفن الفسيحة حين تفقد السينما أهم مميزات اللغة التي سبق وانتمت إليها نظريات مجيدة لعبت دورًا كبيرًا بتطويرها من دون أن تفقد النضارة والأبعاد النفسية والفنية لكل ما هو جديد ومؤهل لأن يلعب دورًا كبيرًا في مجرى هذا الفن الكبير.
مآلات رقمية لا حدود لها
إن المنظومات الفنية الحديثة التي انتهت إلى مآلات رقمية لا حدود لها تمثل أكبر انتصار للعقل الإنساني حتى اللحظة بخصوص إعادة إنتاج المهارات التي تشكلت منها مسيرة الإنسان نفسه. ربما أدرك هذا المآل بحس إبداعي ملهم المخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا حين أطلق أول فلم موسيقي إلكتروني عام 1984م متنبئًا بحلول الفلم الرقمي مكان الفلم الذي نعرفه. بعد ذلك سوف يطلق جورج لوكاس أول فلم روائي طويل مصور بكاميرات رقمية بعنوان: «حرب النجوم» 2002م.
هذا الوضوح والتجلي الرقمي الذي يعد بمنزلة انتصار ساحق لجملة مفاهيم دافع عنها العلم المعاصر يغفل رغم انتصاراته غير المحدودة إمكان تعلم الحفاظ على مهارات النوع من التلاشي وراء نظريات علمية حديثة تقلل أيضًا من فرادة وتميز كل صاحب مشروع إبداعي على حدة حتى تبدو الطرق الصناعية في إنتاج كل قناة خاصة بهذا الفن السابع مثل منظومة الصوت – الدولبي، والأبعاد الثنائية والثلاثية في الصورة، وتقنيات حفر الغرافيكس، والنثر الرقمي الذي يهز شعرية السينما في مهدها، يخلق في الواقع أبعادًا خطرة على صعيد إنتاج الصورة السينمائية التي يجب أن تتجمع في نقطة واضحة طبيعية على الشاشة، حتى يمكن القول بثقة: إن هذه الأقنية الصاخبة المتفجرة تصبح خطرًا حقيقيًّا على نوع النظرية التي يجب أن ترافق هذا التطور حين تصبح هي مصدر إنتاجها، ومصدر إنتاج القلق الإنساني أن ما يحدث على هذه الشاشة يتعدى نوع الفن السابع الذي عرّفه الكبار في أعمالهم ونظرياتهم، وهذا قد يبرر في جانب صعود السينما الوثائقية على الصعيد العالمي على حساب السينما الروائية التي تحفل بالإبهار والتقلبات الفيزيائية في نوع الرؤية ومستواها وبياناتها المعهودة؛ ذلك أن السينما هنا بمفهومها الشائع تصبح السينما التي يصنعها الجميع، والتي سيعرفها الجميع، فلأن الانقلاب الرقمي قد صنع هذه الانعطافة على صعيد السينما الروائية التي يموت معها منظومة النجوم في نفس الوقت كما يعبر إدغار موران، فإنها عملت أيضًا على بعث هذا الحس في التجريب الوثائقي مع بشر عاديين يريدون أن يروا أنفسهم في النقطة – البؤرة الحقيقية للصورة، حين ينكمش النجوم على أنفسهم عبر تقنيات رقمية لا تكف عن نفث الإبهار إلى ما بعد اللياقات العقلية الإنسانية.
ما تفعله السينما الرقمية، مع تسجيل أكبر اعتراف بأنها تقود المشاهد إلى مثل ما بعد اللياقات العقلية الإنسانية قد تصبح في الوقت نفسه طاردة لمعظم ما قيل من نظريات في هذا المضمار، وبالتالي تصبح عرضة لخطر الانزلاق في تسميات وتوصيفات قد تكون خطرًا على الفن السابع نفسه حين لا يمكنه التماهي فيها، إنما الدوران المغلق حول «خوارزميات معقدة» دفع لها شياطين يقبعون في الظل حتى تصل بهذا الفن إلى هذا المستوى المعقد من التطور. هذا يعني في جانب منه أن نظريات الفن السابع الشائعة التي عرفناها من خلال أسماء كبيرة لامعة سوف تتنازل عن كرسيها أيضًا لحساب «تنظيرات» جديدة غير معهودة ترتبط بها تقنيًّا وتعزل جماليات هذا الفن التي لا يعود يتدخل بها الإنسان نفسه، كما كان يفعل في الصعيد ذاته حين كان ينتصر للغة السينمائية وجمالياتها التي تخص كل مبدع على حدة.
المبدع يخسر موقعه
يكاد المبدع هنا يخسر موقعه في كل «ملحمة» بصرية مبهرة. هذا قول خطير بطبيعة الحال ينال من مكانة هذا الفن، وربما ينال من مراكمات جمالية امتدت على أكثر من قرن، ويكاد يلغي المسافات بين تلك النظريات التي اعتدنا عليها في تصحيح نوع الرؤية وطرق التعود في تقبل الصورة السينمائية بأسلوبيات مختلفة دفعت بأساطين السينما إلى التفرد وتخصيص مساحات ملهمة لكل فلم جديد، فيما يبدو أن تناسخ الصور هنا يفعل فعله في استغباء المشاهدين، وربما في استعدائهم على المراكمة البصرية التي حدثت في الماضي وصنعت مُشاهِدًا متميِّزًا يعرف أين يكمن الطقس السينمائي، وما حدود الغفلة التي تنتابه حين يغادر الصالة بلا ضجيج وصخب غير طبيعيين. تبدو الحالة أيضًا مريعة حين تتقلص الإمكانات النظرية في مواجهة هذا الانقلاب الرقمي: كيف يمكن الإمساك بالبعد الذهني للصورة، وكيف يمكن التوقف عن مزاحمة البعد الجمالي بألوان وخلفيات غرافيكية لا تحتمل قول شيء في تعريفها، وهي تغير أيضًا من طريقة الكتابة السينمائية التي تنحو باتجاه أفعال مستمدة من هذا الانقلاب غير المسبوق في تعريف الأشياء بأسمائها، وهذا الكلام ليس قولًا ناشئًا في معاداة مفهوم التطور، ولكنه مجرد تحسب من تطور غير محسوب ينفي عن الإبداع تميزه وفرادته اللذين ميزا الفن السابع عبر العقود الماضية، فكل ابتعاد من البعد الذهني للصورة، أو تفريغ لمحتواه تحت أي اسم أو فعل تقني يقود نحو تكسير هذا الفن ومعاداة طقس المشاهدة الأثير الذي تكونت منه السينما.
الفن السابع إلى مجاهل غامضة
ليس ببعيد أن تعلن السينما الوثائقية –مثلًا– عن فتوحات خاصة بها في مواجهة هذا الانفلات الرقمي الذي يقود الفن السابع إلى مجاهل غامضة، ليس من باب أن المرء بطبعه عدو ما يجهل؛ ذلك أن ما يحدث في مسيرة الكائن البشري غير مسبوق، ولا يمكن التكهن به، وقد يترك وراءه نوعًا من الأسئلة الأخلاقية الملتبسة؛ لأن بعض أسلوبيات هذا الفن التي نعرفها هي شأن أخلاقي أيضًا، وليست شأنًا جماليًّا بحتًا كما قد يتخيل بعض، وعليه فإن الانتصار للسينما التي نعرفها، بما تحمله من احتفاء بالجمال والبساطة التي لا تعرف هذا البذخ الرقمي هي احتفاء بالكائن الإنساني المتفرد الذي يترك وراءه عنوانًا واسمًا لامعين في فضاء الإبداع، وما تعوزه السينما في هذا الظرف هو الانفتاح على مرتكزات هذا الفن ومدارسه، وليس التنكر له.
فمن المؤكد أن الملاحم البصرية الرقمية التي يجري إنتاجها من وراء الحواسيب، وتطرح أسئلة رقمية ليس هناك إجابات عليها؛ لأنها تفتقد كل ما من شأنه إعادة إنتاجه في قوالب لغوية تسمح بتأكيد الأبعاد التي نشأت عليها الصورة السينمائية بما تحمله من ابتكارات أسلوبية قللت من «التخابث» البصري الذي ينشأ أحيانًا لأسباب تجارية في معظم الأحيان، وشجعت عليه الثورة الإعلامية الرقمية في مختلف الصعد، وهي لا شك تدفع إلى ولادة مفاهيم جديدة سيتربى عليها إنسان القرن الـ21 وقد تدفع إلى حدوث انقلاب مضاد، وهذا متوقع كما أسلفنا على صعيد نمو السينما الوثائقية وتفتحها التي تعيد تعريف هذا الإنسان في مجاهل هذا القرن الرقمي، وهذا ما سيحتاجه مخرجو الموجات ما بعد الجديدة التي قد تتبلور كرد فعل على الانقلاب الرقمي الذي قاد الفن السابع نحو ملاحم بصرية غير مكتملة وإن بدا أنها وصلت في نوع من التطرف غير المسبوق إلى قول كل ما يمكن أن يقال حتى لو لم يرد الكائن البشري قوله في سياق فلم أو مشهد مما يتاح صنعه في مثل هذه الملاحم.
كل ما قيل آنفًا، هو محاولة في توصيف هذه الواحة البصرية غير النهائية، التي يقف الإنسان أمامها حائرًا وقد انزلقت بها الأشباح المرئية إلى أعماق لا يمكن التكهن بقرارها، أو هي من غير أعماق ولا يمكن معرفة حقيقة المشاعر التي تنبثق منها؛ إذ تبدو من غير مشاعر وتستغرق بقول كل ما لا يمكن أن نريد قوله، ولذا فإن محاولات توصيف هذه الملاحم البصرية يمكن أن تأخذ منحى أخلاقيًّا أيضًا، وهنا تكمن أهمية ما سيقال لاحقًا عنها في كتابات قد لا نعرف من يقف وراءها، وقد لا يمكن الجزم بنوع الصورة التي يبحث عنها هؤلاء، وقد أطلقوا العنان لمخيلات تبدو من دون حدود، ولكن مع شيء من التركيز في تلك النقطة الوحيدة الواضحة التي ينبثق منها الفلم السينمائي سيمكن القول: إن هذه المخيلات أسيرة واقع رقمي معقد لا يمكن التكهن بمعرفته، أو التنظير الجمالي للدوافع التي ينطلق منها في محاكاة هذا الفن العظيم.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق