لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...
المقالات الأخيرة
أحمد الجنايني: مهمتنا ألا يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي
لا تكاد تشعر به، لكن أثره موجود في كل مكان، تراه في مقدمة صفوف الفنانين التشكيليين، حيث يشغل منصب رئيس مجلس إدار أتيليه القاهرة للفنانين والأدباء، هذا المكان الذي أسسه المصور المصري الكبير محمد ناجي عام 1953م، ليصبح منارة ثقافية تدافع عن التشكيل والأدب معًا، إنه الفنان المصري أحمد الجنايني (1954م) الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير حامد عويس عام 1978 – 1979م، وبعدها درس الفن في ألمانيا في المدة 1980 : 1981م، وكتب الشعر والرواية، وصمَّم أغلفة العديد من سلاسل الكتب، وأنشأ دار نشر، ورأس تحرير مجلة «الخيال» المعنيَّة بالفنون البصرية، وهو القائل: إن تاريخ مصر التشكيلي في خطر. «الفيصل» حاورته حول تجربته إضافة إلى قضايا أخرى.
مارسْتَ الفن التشكيلي والشعر والكتابة الروائية؛ فما رؤيتك الأساسية للفن؟
كنتُ واضحًا منذ البداية مع نفسي في أنه لا يوجد غرف مغلقة للصنوف الإبداعية، لكن كل الإبداعات تشكيلية أو موسيقية أو شعرية أو مسرحية،… جميعها يشتبك معًا، كان هذا عمود أستند إليه في رؤيتي لمشروعي الإبداعي، كما أن مثلث الإبداع لا بد أن يكون موهبة – خبرة – ثقافة، وأنه لا يمكن حذف أو إلغاء أي من العناصر الثلاثة، ولا يمكن أن يقدَّم عمل إبداعي بضلعين من دون الثالث.
لا تنتمي اللوحة لديك إلى سياق مدرسة فنية بعينها، وربما تكون مزيجًا من مدارس مختلفة، فما المؤثرات التي تدفعك لذلك؟
ممارسة العمل الإبداعي تشكيليًّا تعتمد على ماهية اللغة البطل، وماهية لغة التشكيل هي اللون – الخط – الكتلة – الفراغ – المساحة. أي جميع العناصر المرئية بصريًّا، لذا سيكون البطل دائمًا بصرِيًّا، رغم إمكانية اشتباكه مع الموسيقا أو الشعر. وبالنسبة لي فإنني أعتمد الجسد الإنساني، أو بمعنى أدق، الإنسانَ بطلًا للغتي التشكيلية، أحمله بكل المضامين التشكيلية سواء أكانت لونًا أو خطًّا أو مسافةً أو كتلةً أو فراغًا، لكن الهم الإنساني يكون حافزًا لطاقتي التشكيلية، وأنا ممن يؤمنون بموسيقا اللون، وبالتالي فإن لغة اللون عندي تعتمد كلية على فهمي الواعي للعلاقات اللونية سواء أكانت التضاد أو الهارموني أو غيرهما، المهم عندي أن أرى الموسيقا من خلال اللون، وهذا يمنح العمل جاذبية للتلقي، ويأخذ المشاهد إلى أبعاد أخرى ترتبط جميعها رغم مضامينها المختلفة بجماليات المشهد، ولكي أحقق هذا كان لا بد لي أن أمارس التشكيل بعيدًا من صناديق المدارس التشكيلية الجاهزة، فأنا أومن بحرية التعبير وحرية استخدام الفنان للغته الخاصة؛ إذ ليس من الضروري أن يكون واقفًا داخل صندوق مدرسة معينة، ويغلق على نفسه هذا الصندوق، من هنا كانت تجاربي مزجًا بين مدارس تشكيلية مختلفة، فالتجريد امتزج بسوريالية اللون، والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد، وهكذا.
كيف تشكلت الذاكرة البصرية لدى أحمد الجنايني؟
أنا ابن قرية تنام في حضن النيل، حيث فرع دمياط؛ لذا فمنذ طفولتي كنت أشكل الطمي وأتعامل مع مفردات النهر ومفردات الطبيعة بوصفها المخزون الوجداني والثقافي والبصري، ورغمًا عني مارست ذلك من دون أن أفهم ذلك بوعي، ابن القرية الذي رسم بالطبشور على جدران المنزل وأبواب الغرف، وتعامل في «حصة» التربية الفنية في المرحلة الإعدادية مع الطبيعة، حيث كان يطلب منا مدرس الرسم على السبورة أمام الزملاء، وهذا ما شجعني على ممارسة التشكيل.
هناك جانب آخر مهم وهو مكتبة أخي الأكبر التي كانت تضم كتبًا مهمة منها كتاب التشريح للفنانين -مؤلفه يوجن وولف- الذي استفدت منه كثيرًا في المراحل الأولى من تكويني، فإذا أضفنا ذلك إلى حكايات القرية وألعاب الأولاد والبنات الشعبية التي كنا نمارسها بحب وفرح رغم ظلمة الشوارع التي لم تكن تعتمد إلا على المصابيح النفطية في ذلك الوقت، كل هذا شكَّل جزءًا كبيرًا من ذاكرتي البصرية.
مارستَ فن تصميم الأغلفة لعدد من سلاسل الكتب، فإلى أي مدى أسهم الكمبيوتر وما أتاحه من خيال جديد وبرامج عديدة في تشكيلك اللوحة وعالمها؟
لا تربطني أي علاقة بما نسميه فن الكمبيوتر أو العمل الفني من خلال الكمبيوتر، أنا أمارس الفن التشكيلي بأطراف أصابعي معتمدًا اللون بمختلف خاماته، سواء أكانت زيتية أو أكريلِك أو ألوانًا مائية، وأنا من الفنانين الذين لا يؤمنون بتحضير اللوحة من خلال رسم إسكتشات ثم بعد ذلك نقل الإسكتش ليكون لوحة، أنا أومن منذ بداياتي بأن الشخصية الأولى هي اللوحة؛ لذلك تكون علاقتي مباشرة مع سطح اللوحة، من دون الاتكاء على عمل إسكتشات، ضربة الفرشة الأولى في اللوحة هي بمنزلة الطلقة الأولى التي تفتح لي سردابًا لا أعرف ما الذي يسكنه، لكنني أعرف تمامًا أنني لا بد أن أعبُر من هذا السرداب، هذه هي علاقتي الحقيقية بالعمل التشكيلي.
كيف ترى واقع الحركة التشكيلية في مصر الآن؟
الحركة التشكيلية يشوبها الكثير من العلاقات التي غيَّبت المفهوم الحقيقي للإبداع، وأقصد بها علاقة وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام بمفهوم التشكيل والثقافة البصرية وأهميتهما، لقد اختلطت هذه المفاهيم عند القنوات الثلاث، فغابت المفاهيم الحقيقية في المراحل التعليمية، وهمشت في الثقافة، وتكاد تكون ألغيت في الإعلام، وبالتالي فهذه الجزر المنعزلة والمنوط بها رفع مستوى الثقافة البصرية لا تقدم شيئًا حقيقيًّا لتنمية الثقافة البصرية، ولم يعد بالإمكان القبض على مفاهيم جمالية تقدم على أرضية حقيقية للمواطن العادي، ومن ثم انفصل المجتمع بكليته عما يسمى الفن التشكيلي، وبالتالي فالفنان التشكيلي الحقيقي لا يستطيع في المجتمع المصري بل العربي ككل أن يمارس حياته بصفته فنانًا، ممارسة الفن لن تكون داعمة له لممارسة حياته بشكل طبيعي، من ناحية أخرى، وهي الأهم، إنه لكي تُقدِّم عملًا إبداعيًّا من خلال كونك فنانًا لا بد أن تمتلك رؤية لهذا العمل، وهذا ما نفتقده في كثير من الأحوال، نحن في حاجة ماسّة إلى الثقافة الإبداعية سواء أكانت إبداعًا أو ممارسة.
قلتَ في مقال: إن تاريخ التشكيل المصري في خطر؛ فكيف ذلك؟
التاريخ المصري يضع مصر رغمًا عن أي شيء في مقدمة الدول التي تمتلك تاريخًا إبداعيًّا حقيقيًّا، لكن ما يحدث الآن ربما يؤثر بشكل كبير في هذا التاريخ، حيث إن هناك «لوبي» -وأعني بها معناها الحقيقي- يعمل ضد الفن بتبنِّيه أعمالًا لا قيمة لها؛ كي تكون في سوق المزادات رهانًا على تشويه وتشويش الإبداع. ويتواصل مع ذلك الترويج للأعمال الفنية المزيفة التي شاع التسويق لها، مما أفقد المتاحف الفنية الكثير من هيبتها، فأعمال مزيفة لرموز فنية كبيرة من رواد الفن في مصر منهم: محمود سعيد، وسيف وانلي، والجزار، وحامد ندا وغيرهم، يفقد الفن التشكيلي في مصر مصداقيته وجلاله، وهذه مشكلة كبيرة طرحت وفاحت رائحتها في معرض السورياليين الذي أقيم في قصر الفنون بدار الأوبرا بالتعاون بين وزارة الثقافة وجهات خاصة أتت بكم هائل من اللوحات المزيفة، وحشرتها داخل المعرض فقط لتأخذ مشروعيتها في المزادات التي يقوم بها هذا اللوبي.
بوصفك رئيس أتيليه القاهرة، ما حقيقة الصراع الدائر على المقرّ منذ سنوات؟
بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة الأتيليه الأسبق عام 2008م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة، وهم ورثة ليندا كوهينكا اليهودية، وذلك بعدم دفعهم إيجار المقرّ مدة أربع أو خمس سنوات، على أن يقاضي الورثة مجلس الإدارة ويُستَصدَر قرار من المحكمة بطرد جمعية الأتيليه، وتسليم العقار للورثة، كان هذا أساس المشكلة، وأُوقِفت هذه الإجراءات وعُزل هذا المجلس بقرار من وزارة التضامن الاجتماعي، ثم فصلهم من الأتيليه بقرار من الجمعية العمومية، لكن بعد خمس سنوات تغيرت الخريطة، وفوجئ مجلس الإدارة الحالي بخطابات تَرِدُ إليه من مدير التضامن الاجتماعي تُطالِب المجلس بإعادة الأعضاء المفصولين بوصفهم لم يفصلوا، وبدا المشهد مأساويًّا حين تَكشَّفت خيوط التعاون بين إدارة التضامن وعناصر من المجلس المفصول، لنكتشف أن كل ما تسعى له وزارة التضامن هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه، بحيث يتمكَّن المجلس المعزول من تسليم المقرّ إلى الورثة، وهذا ما وقفنا ضده، وقاضينا وزيرة التضامن ومحافظ القاهرة السابق، ونحن في انتظار حكم القضاء، ولا يهمّنا إلا أن نحافظ على كيان أتيليه القاهرة من أيدي العابثين الذين يسعون لتحويله إلى مركز ثقافي إسرائيلي، أو على أقل تقدير إطفاء شعلته الثقافية التي أسسها المصوِّر المصري الكبير محمد ناجي في مارس 1953م، ولا يؤسفني في نضالنا هذا إلا تخاذل الكثير من المثقفين عن الدفاع عن هذا الصرح وتاريخه، وعلى رأسهم وزير الثقافة الذي لم يحرِّك ساكنًا رغم أنني وضعت الملف كاملًا على مكتبه، لكنه آثر الصمت البليغ.
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق