كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
هل تتغير خريطة العالم العربي؟
كثيرة هي الشواهد التي تفرض إثارة السؤال عن احتمال تغير خريطة العالم العربيّ؛ نتيجة الصراعات العنيفة التي يبدو أنها تُمزق مجموعة من بلاده، وبخاصة سوريا والعراق وليبيا. ويحظى هذا السؤال باهتمام واسع كلما حدثت تطورات يبدو أنها تحمل في طياتها ملامح تغير في خريطة هذا البلد أو ذاك. ومن هذه التطورات في المدة الأخيرة كثافة المحاولات التي ترمي إلى تحقيق تغيير ديموغرافيّ، واقترانها بتحركات تهدف إلى عزل مناطق معينة في العراق. فقد ازدادت وتيرة العمليات التي تقوم بها ميليشيا «الحشد الشعبيّ»؛ لإفراغ المناطق التي تسيطر عليها في ديالى من قاطنيها السُّنَّة، ومَنْع عودة المهجّرين إليها. وتزامن ذلك مع شروع حكومة إقليم كردستان في حفر خندق يمتدّ من منطقة ربيعة إلى فضاء خانقين. وعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو حماية قوات «البيشمركة» الكردية من هجمات تنظيم «داعش»، فإن السؤال يظل مثارًا عن احتمال أن يكون غرضه الحقيقيّ هو الشروع في رسم حدود على الأرض في الوقت الذي كرَّر رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود بارزاني دعوته إلى إجراء استفتاء؛ لتقرير مصير هذا الإقليم.
إن المصاعب الهائلة التي تجعل السعي لحلّ سلميّ للصراع الذي تحوَّل حربًا أهلية في سوريا، والمشاكل المتعاقبة التي تواجه محاولات التوصُّل إلى مثل هذا الحلّ، وتؤدي إلى تعثُّره المرة تلو الأخرى في ليبيا؛ تجعل السؤال عن حدوث تغير في خرائط هذه البلاد، وفي خريطة العالم العربيّ، مطروحًا. غير أنه لا تتوافر دلائل كافية حتى الآن على أن هذه الشواهد وغيرها يمكن أن تكون بداية لتغير نهائيّ في الخريطة. والمقصود بالتغيّر النهائيّ هو ذلك الذي يجد قبولًا إقليميًّا ودوليًّا، ويحظى برضا قاطني المناطق التي ستُرسم فيها حدود جديدة.
ويصعب منهجيًّا توقُّع حدوث مثل هذا التغيُّر، في ظلّ حالة سيولة تتَّسم بها الصراعات التي قد تؤدِّي إليه. فلا يتيسَّر في ظل هذه السيولة الاحتفاظ بالمواقع التي ينتزعها هذا الطرف أو ذاك من غيره في سوريا طوال الوقت. ولا يُسلّم أيّ من هذه الأطراف بسيطرة غيره على منطقة من «مناطق التَّماسّ» التي تدور فيها معظم المعارك، حتى إذا استمرت هذه السيطرة مُدَّة. والنمط السائد في الصراع في سوريا، أو عليها، هو أن أغلبية المواقع التي يسيطر عليها طرف أو آخر في هذه المناطق يظلّ هدفًا يسعى غيره لانتزاعه منه، مع مراعاة اختلاف موازين القوى من وقت إلى آخر. وإذا كان المشهد في العراق يبدو مختلفًا؛ بسبب وجود تمركز مذهبيّ وعرقيّ واضح في مناطق محددة ومعروفة، فقد خلطت هجمة تنظيم «داعش» بعضَ الأوراق، وأدَّت إلى تداخل أوراق غيرها، إضافة إلى الصراعات المتفاوتة داخل كل من المكونات المذهبية والعرقية الثلاثة )الشيعية، والكردية، والسُّنية) التي تَقُوم أطروحةُ تغيير خريطة العراق عليها. فلا يوجد قدر معقول من الاتفاق، أو حتى التوافق العامّ، داخل أيّ من هذه المكونات المقسَّمة بدورها إلى أحزاب وحركات وجماعات وعشائر وغيرها. إضافة إلى أن تمدُّد قوات «البيشمركة» الكردية خارج إقليم كردستان منذ أن تصدَّت لهجمات «داعش» في صيف عام 2014م؛ يجعل انفصال إقليم كردستان أقلّ –وليس أكثر– احتمالًا؛ لأنه سيثير صراعًا أشدّ حِدَّة من أيّ وقت مضى.
هبوب ريح عاتية
وقُلْ مثلَ ذلك عن الوضع في ليبيا الذي يؤدِّي اختزاله في طرفين متصارعين إلى تبسيط مُخِلّ حتى إذا كانت مكونات كلّ منهما موحَّدة، فما بالنا حين تكون متنافسة. هكذا يبدو الطابع السائد في هذه الصراعات من النوع الذي يشبه هبوب ريح عاتية يبدو من قوتها وسرعتها أنها ستعصف بالمنطقة، وهي كذلك بالفعل، لكنها ليست مما يؤدّي إلى استمرار أيّ تغير يحدث على الأرض، واستقراره على نحو يسمح بتقنينه، وستظل على هذا النحو سنواتٍ قادمةً.
إذا افترضنا توافر مقومات داخلية حاسمة تؤدّي إلى تغيير في خرائط هذه الدول، سيظل صعبًا تصور حدوث توافق إقليميّ عليه.
فمن الصعب حتى اللحظة الراهنة أن نتخيل تغييرًا في هذه الخرائط يحقّق مصالح القوى الإقليمية الرئيسة بشكل متوازن، وبخاصة في ظل شهية إيران المفتوحة لمزيد من النفوذ؛ سعيًا للهيمنة على المنطقة. ولا يَعْني ذلك استبعاد احتمال حدوث تغير في خريطة العالم العربيّ في مدى زمنيّ بعيد.
لكن السيولة الشديدة في صراعات المنطقة تحول دون توقّع ما يمكن أن يحدث في مدى يتجاوز ما بين عامين وثلاثة أعوام حين نتمسك بمناهج البحث في العلاقات الدولية، ونبتعد من التكهّن والتخمين والتنجيم.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق