كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الكاتبات الإيرانيات يعِشن في جحيم مفتوح..متعب القرني
حين كان الرئيس الإيراني حسن روحاني (1948م-) يتسلّى بنشر تغريداته عبر تويتر، باغته مؤسس تويتر جاك دورسي بسؤال على غير المتوقع: «هل يا سعادة الرئيس يستطيع الشعب الإيراني قراءة تغريداتك الآن؟»، في إشارة مُلجمة إلى الحظر الذي فرضته الحكومة الإيرانية على وسائل التواصل الاجتماعي منذ عام 2009م. كان هذا الرد كفيلًا لأن يفتح علبة من القضايا الساخنة التي لا تزال عالقة في كهوف الغيب عن مأساة النشر والتعبير بإيران، ذلك البلد الذي استحال بعد الثورة الإسلامية إلى شبكة من الاعتقالات والاغتيالات، كانت سببًا في تهجير الأدمغة المفكرة ودفعها لحالة دياسبورا مريرة ونوستالجيا تائهة بين خيارات المهاجر والأوطان.
كان لهذا التنكيل بالشخصيات الناقدة تداعياته السلبية على البلاد، إذ تسبب في إخلاء الجامعات الإيرانية من علمائها وأضعف النهضة العلمية من مواصلة تطلعاتها، حتى صارت إيران تستجدي تلك الشخصيات للعودة والمشاركة في التنمية والنهوض. يذكر الكاتب أوس الشمّسان بأنه على هامش مؤتمر علمي بجامعة طهران، سأل أحد الصحفيين أستاذ الصيدلة بجامعة ألبرتا الكندية البروفيسور الكندي (الإيراني الأصل) فخر الدين جمالي (1950م-) عن الوقت المناسب لمغادرة كندا والعودة إلى إيران، فكانت إجابته: «عندما أبول واقفًا في حمام جامعة طهران!» مشيرًا إلى محنة زميله الذي اعتقل من الجامعة بحجة البول واقفًا، وذلك في السنوات الأولى من انتصار الثورة. كانت الجامعة حينها تتربص بذلك الأستاذ وتحاول انتهاز الفرص للإطاحة به، فأسرّوا إلى جماعة الباسيج بأنه يبول واقفًا، فرُفعت العرائض مطالبةً بفصله لكونه يسيء للأمة الإيرانية ومبادئ الثورة الإسلامية. استدعته الجامعة وأقامت مجلسًا تأديبيًّا فطالبته بالحلف المغلّظ بعدم البول واقفًا، فحلف أمام لجنة حزبية مؤكدًا أن الثورة كسرت كل المباول الواقفة في الحمامات لتطهير مظاهر حكم الشاه الدكتاتوري. فقامت اللجنة بعد ذلك بالتشكيك في حلفه، فلم يكد ينجو من التهمة حتى أدلى ثلاثة شهود عدول بشهادتهم مؤكدين أنهم لاحقوا الأستاذ أثناء خلوته ولم يسمعوا شخشخة بوله، ما يؤكد عدم بوله واقفًا.
لم يكن هذا التهجير وَقْفًا على الرجال، فقد لاقت المرأة الإيرانية مضايقات واعتقالات دفعتها للهجرة وترك البلاد. هنا نسلط الضوء على ملامح من هذا النضال النسوي، وقصص اضطهادها وحصارها، بالعرض الروائي الاستعراضي، بدءًا بمطاردات آذار نفيسي على حلقاتها السرية في قراءة رواية «لوليتا»، واعتقالات الروائية بارسيبور على البروشورات والطابعات، وصولًا إلى تهديدات الكاتبة المسيحية نيمار نيمات وزواجها الإكراهي من السجّان، وانتهاءً بضحايا جُدد لا تزال إلى اليوم تقضي فتراتها في السجون بلا تُهم!
آذار نفيسي.. قراءة لوليتا في طهران
لم يعش الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977م) طويلًا كي يسمع بأن روايته «لوليتا، 1955» قد حُظرت في إيران بعد الثورة الإسلامية، ولا ليسمع بالمعاناة القاسية التي لاقتها الطالبات الإيرانيات في سبيل قراءتها، ولا ليرى اسم روايته وهو يتمحور كعنوان في مذكرات أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة جونز هوبكنز الأميركية آذار نفيسي (1948م) حيث أوردت قصة حلقاتها في مذكراتها الواقعية «قراءة لوليتا في طهران، 2003» بأسلوبٍ مدهش تركها على قائمة أفضل مبيعات النيويورك تايمز لسنتين متتابعتين، حتى تُرجمت لما يجاوز الثلاثين لغة. «إن أحداث ومعطيات هذه القصة حقيقية إلى أقصى مدى تستطيع أن تحمله ذاكرتي من صدق، بيد أنّي بذلتُ قصارى جهدي لئلا أسيء لأحد من أصدقائي وطلبتي، فرُحْتُ أعمِّدهم بأسماء جديدة وأقنعهم بأقنعة عديدة؛ كي تكون أسرارهم في أمان».
تستعيد نفيسي ذاكرتها حين عودتها إلى طهران بعد 17 عامًا من العيش الحر المتقطع بين سهول أميركا وجبال سويسرا. تعود لتجد والدها المثقف سجينًا بتهمة المعارضة بعد أن كان العمدة لمدينة طهران، فتتزوج برجل سُوقي لا يقرأ ولا يقيم وزنًا للقراءة، «كان لا يشبهنا، لم يكن يُعير أي اهتمام للكتب، وكان يقول: مشكلتك أنت وأهلك أنكم تعيشون في الكتب أكثر مما تعيشون في الواقع!». تضطر نفيسي بعد عام أن تسافر رِفقةَ زوجها لأوكلاهوما حيث درست الأدب الإنجليزي فزادت مرارة اضطهادات زوجها عليها حتى أعلنت انفصالها وطلاقها منه بعد سماعها خبر الإفراج عن والدها.
عادت نفيسي بعد إنهاء دراستها إلى جامعة طهران، حيث كانت موئلًا للأنشطة السياسية الساخنة. هنالك بدأت تعد الخطة الدراسية لمواد الأدب، فتُطعّمها بعدة روايات مثيرة، من أهمها رواية «غاتسبي العظيم» للروائي الأميركي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد (1896-1940م)، التي أثارت جدلًا في القسم وبين الطلاب. تذكر نفيسي أن هذه الرواية وغيرها كان كثيرًا ما يخترق فصولها شظايا من أخبار الاعتقالات والإعدامات التي تنفّذها الدولة ضد النشطاء، على رأس ذلك خبر إعدام الطالب البريء عميد غريب بعد أن حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التغربن وإبداء النزعات اليسارية المضادة لتوجهات الدولة، فلم يكمل السنتين في سجنه حتى أُعلن خبر إعدامه عام 1983م في ظروف غامضة. ظلت نفيسي في جامعة طهران مناضلة ضد توجهات الدولة الاستبدادية في فرض الحجاب الإجباري على النساء، وشاركت في عدة مظاهرات ضد تشريعاتها الجديدة؛ كتخفيض سن الزواج من 18 عامًا إلى 9 أعوام، أو تشريع قانون الرجم بصفته عقوبة للزنى، حتى طُردت مع بعض زميلاتها من الجامعة.
انتقلت نفيسي للتدريس بجامعة العلامة الطباطبائي، حيث تُردد مقولة الحرس الثوري المتذمرة «إيران استحالت سويسرا»، فإذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس، عاقبوها على الهرولة؛ وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك في الممرات، وإذا ما ضُبطت وهي تتحدث مع الجنس الآخر عاقبوها بتهمة الاختلاط. «ذات يوم، اقتحمت طالبتي ساناز قاعة الدرس قبل نهاية المحاضرة بقليل وهي تبكي، تأخرتْ لأن حارسات البوابة عثرنَ على أحمر الخدود في حقيبتها عند التفتيش، وكنَّ قد حاولنَ إعادتها إلى البيت مع خطاب توبيخ!».
كانت مهمة الجامعة التضييق على كل الأساتذة ممن يبدي نزعات تقدمية، بحجة وقوفها ضد مبادئ الثورة. «كانوا يراقبونني ويزيدون من مضايقتي ويقيدون حركتي بشتى الوسائل: بالتجسس عليَّ وعلى زوّاري، أو بتحديد نشاطاتي، أو بالمماطلة لسنوات في منحي استحقاقي بالتثبيت كأستاذة. وحين قدمت استقالتي عمدوا إلى إغاظتي بادعاء التمسك بي ورفض الاستقالة… كيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب حينما يكون أقصى اهتمام لمسؤولي الجامعة مُنصَبًّا على لون شفاهنا، وعلى القابلية التدميرية لخصلة شعر يتيمة قد تطيش من تحت الإيشارب، وليس على كفاءتنا في أداء واجباتنا العلمية؟!»
في خريف 1995م، نالت نفيسي أخيرًا حريتها باستقالتها، فقامت بتكوين فصل دراسي خاص يُعقَد كل خميس، التقت فيه سبعًا من طالباتها النجيبات بالإضافة إلى طالبٍ أبدى مثابرةً ورغبةً للانضمام. «انتقيتُ طالباتي ولم أمعن النظر في خلفياتهن الأيديولوجية والدينية… كثيرٌ من طالباتي كنَّ أكثر مثابرة ومواظبة في الحضور من طالباتي النظاميات اللائي يحضرن لأجل الشهادة». كان هذا الفصل متنفسًا للحرية، كان «صفًّا يمنحني الحرية التي حُرمت من ممارستها في الفصول الدراسية التي قمتُ بتدريسها في الجمهورية».
ورغم ذلك، كان الوصول إلى الكتب من أشق المهمات، لا سيما وقد أُغلقت معظم المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية بعد الثورة، وكان الاعتماد على مخزون كتب بعض الأصدقاء هو الحل الوافر. «أما كتاب لوليتا فقد كان العثور عليه صعبًا جدًّا، خصوصًا الطبعة المزدانة بالهوامش، التي كانت ترغب فيها بناتي. وقد صورنا الرواية كاملة بصفحاتها الثلاث مئة لكل من لم تستطع إيجاد تلك الطبعة. إن ما يبعث على اليأس في قصة لوليتا ليس اغتصاب فتاة في ربيعها الثاني عشر على يد عجوز قذر فحسب، وإنما أن يصادر شخص حياة شخص آخر. فهي رواية متفائلة من حيث إنها دفاع عن الجمال والحياة، بكل المتع اليومية الطبيعية التي حرمت منها لوليتا وحرمت منها طالبتي ياسي؛ كنَّا جميعًا مثل لوليتا نحاول أن ننأى بأنفسنا بحثا عن جيوب صغيرة للحرية، ومثل لوليتا أيضًا لم نكن ندخر جهدًا للتمايل طربًا بتمردنا! كنا نظهر شيئًا من خصلات شعرنا من تحت الإيشارب، أو ندس قليلًا من اللون في ذلك التشابه الممل القائم في مظهرها أو نطيل أظافرنا أو نستمع لموسيقا ممنوعة، أو نُحب!»
ظلت هذه الحلقة الدراسية عن رواية لوليتا وغاياتها وجمالياتها تتم في أجواء سرية للغاية، مع تحفظات وتحرّزات من أن تُكشف أسرار الأطراف المنضمين إليها فيخضعن جميعًا للعقوبة بالسجن أو الإعدام. ولم تكن حلقةً دراسيةً فحسب، بل مجلسًا علميًّا يجمع البروفيسورة وطالباتها المعجبات، يتبادلن فيه قضايا الحب والأدب، والحلم والأمل، وطرائق الهروب من تلك المعيشة الخانقة. «أتذكر إحدى طالباتي وهي تقول: لن أتزوج أبدًا أبدًا، لأنني لم أجد فتى أحلامي إلا في الكتب». كان هذا الفصل عند السلطة أشبه ما يكون بالخلية السرية الخطرة، بينما كان عند الطالبات «محاولة للهرب من تفرّسِ عينيْ رقيبٍ أعمى، ولو لسويعات يتيمات كل أسبوع». ظلت هذه الحلقة تنعقد أسبوعيًّا لعامين متواصلين حتى تبرمت نفيسي من مراقبات السلطة ومن توعّداتها لها بالاعتقال بتهمة خرق القانون، فأعلنت هجرتها الأبدية من إيران عام 1997م.
شهرنوش بارسيبور.. قُبلاتٌ على السيف
مدّت الاستخبارات الإيرانية يدها الطولى لتصادر الطابعات والمطبوعات، وفرض العقوبات الشديدة على كل من أخفاها أو امتلكها. يتجلى ذلك في قصة ابنة أحد المحامين الشيرازيين، الروائية الإيرانية شهرنوش بارسيبور (1946م-) التي نالت قسطًا وافرًا من الاعتقالات في مرحلتي ما قبل الثورة وما بعدها. ففي عام 1974م، قدّمت الشابة بارسيبور (28 عامًا) استقالتها من العمل في التلفزيون الإيراني، معلنةً إيقاف برنامجها الإسبوعي «النساء البدويات» احتجاجًا على التعذيب الشنيع والإعدامات اللامسؤولة التي قادها الشاه محمد رضا بهلوي (1919- 1980م) ضد الشعراء النشطاء على يد منظمة السافاك (منظمة الاستخبارات والأمن الوطنية). وعلى هذا الاحتجاج، أُودِعت السجن بلا تهمة. أُفرج عن بارسيبور بعد شهرين كاملين لتتزوج من رجل عامّي أضفى على حياتها ضغوطات تعليمية متجددة؛ إذ كانت تدرس السوسيولوجيا بجامعة طهران بسريّة مع عدد قليل من الطالبات آنذاك.
تخرجت بارسيبور من الجامعة، فأعلنت تخفيف هذا التوتر الأسري والسياسي بإعلان انفصالها عن زوجها متجهةً لإكمال دراساتها العليا بجامعة السوربون بفرنسا، حيث درست الفلسفة الصينية في الفترة من عام 1976م إلى عام 1980م. «سافرتُ إلى فرنسا، فأرهقتني الالتزامات المادية وحاصرتني الوحدة أنا وطفلي، فاضطررتُ لإرساله إلى أبيه ليكمل دراسته بإيران… ظللتُ أقاوم وحيدةً في عجزٍ اقتصاديٍّ كليٍّ حتى عام 1980م. فمع مخاض الفوضى الثورية، وجدتُ نفسي غير قادرة على الصمود والاستمرار، فقررتُ العودة وما كنتُ أعلم ما يخفيه الوطن لي من مأساة».
عادت بارسيبور مع انفجار الحرب بين إيران والعراق (1980- 1988م)، لتجد نفسها مباشرةً في السجن على غير المتوقع، إذ قامت الثورة الإسلامية بتصفية الأحزاب سريعًا وتكويم الأعداد بسجن إفين سيئ السمعة الذي شيَّده الشاه عام 1972م، وهو ذات المعتقل الذي عُذبت فيه المصورة زهرة كاظمي (1948- 2003م) حتى ماتت متأثرة بجراحها عام 2003م.
سُجنت بارسيبور شهرين بعهد الشاه بتهمة الاستقالة، لكنها لم تتوقع أبدًا أن تَزُجَّ بها الثورة الإسلامية مع شعاراتها التحريرية في السجن برفقة والدتها وأخيها لنحو خمس سنوات كاملة، فقط بسبب بروشورات وُجدت بالخطأ في خزانة سيارتهم. كان السجن يكتظ بالنساء من كل جانب «كان هناك عدد من السجناء لا يستطيعون المشي، كانت أقدامهم متورمة بحجم البرتقال، وكان من الصعب عليهم استخدام حمامات القرفصاء الصينية». في السجن «تمت إعدامات كثيرة، أعداد كبيرة من الناس تم إعدامهم، ربما ستة أو سبعة آلاف شخص، فضلًا عن الإعدامات التي حدثت عام ١٩٨٨م، كانت هذه السنون بحق مرعبة بما فيها من تعذيبات وتحقيقات. كدمات سوداء وزرقاء متفرقة على أجساد السجناء، حتى أصبحت السجينة تضطر لأن توقف عذاباتها بإقامة علاقات حميمة مع السجان. لا أزال أتذكر صديقتي اليسارية ذات البشرة الزيتونية شهين التي اعتقلت لأجل طابعة! كانت قد تنبأتْ بإعدامها الوشيك؛ إذ بدأ المحقق يتلمس نهديها في ليلة ما قبل الإعدام. كان من المعروف أن السجّانين يتزوجون قسرًا بالسجينات في لياليهن الأخيرة حتى لا يُدفنَّ أبكارًا. يقولون بأن الفتاة إذا قُبرت بِكرًا فإنها تفتن شابًّا وتغريه إلى قبرها. توقعتْ شهين ذلك المصير، فتم إعدامها في اليوم التالي!».
متأثرةً بمجموعة الروائي الأميركي إرنست هيمنغوي (1899- 1961م) «رجال بلا نساء، 1927م»، خرجت بارسيبور من المعتقل لتكتب مجموعتها القصصية «نساء بلا رجال» التي احتفظت بتفاصيلها إلى حين نشرها عام 1990م قبل أن تتحول إلى فلم للمخرجة الإيرانية شيرين نيشات (1957م-). تهاجم بارسيبور في مجموعتها تداعيات النظام المؤسساتي للدولة الذكورية، وتحكي آلام المرأة الإيرانية وما رافقها من اضطهاد جنسي عبر التاريخ لأجل رقعة بكارة. «كانت والدتي تخبرني بأن البكارة ستارة، فلتحذر الفتاة، ربما إن قفزت من علوٍّ تمزّق بكارتها. إنها ستارة سهلة التمزق!». أحدث هذا الكتاب ضجةً إعلاميةً، ما تسبب في حظره من التداول بإيران، وإيداع بارسيبور مجددًا في السجن بتهمة الخوض في موضوعات حساسة. «لقد سُجنتُ ثلاثَ مرات، كلُّها بلا تُهمة ولا جريمة، فيما عدا الثالثة؛ كانت بتهمة مُلفَّقة لم يطل سكوت المحكمة حتى اعترفت بزيفها».
أُفرج عن بارسيبور لتتلقى مزيدًا من الضربات والملاحقات مع سعيٍ حثيثٍ لتوريطها في قضايا جديدة، ما دفعها أخيرًا لإعلان هجرتها الأبدية من إيران. ظلت بارسيبور في شتات المنفى بين أميركا وإنجلترا وألمانيا، حتى حطّت رحالها بكاليفورنيا حيث نالت زمالة الكتاب العالمية بجامعة براون. هنالك سطرت تفاصيل معاناتها في السجون في مذكراتها الأخيرة «تقبيل السيف: مذكرات السجن، 2013» وحكت فيها أحوال السجناء بدقة، واصفةً تداعيات غربتها على حياتها وما رافقها من تردي صحي وعجز اقتصادي واضطهاد نفسي. «خلال سنين السجن لم آخذ ملاحظات، ربما نسيت بعض أسماء المساجين المظلومين، فقد كان المحقق يقوم بتقطيع كل ما أكتب، ولكني كنتُ دقيقةً بقدر ما تسعفني الذاكرة في تبيان تلك الأهوال».
مارينا نيمات.. سجينة طهران
لم يكن الهجوم الثوري يستهدف المسلمات فحسب، بل تعدى طوقه ليخنق المسيحيات من أمثال الكاتبة الروسية مارينا نيمات (1965م-) المولودة في طهران التي بسطت معالم تجربتها المريرة في مذكراتها «سجينة طهران: 2006» و«ما بعد طهران: استعادة الحياة، 2013» حيث تُرجم الأول لما يفوق 13 لغة بعد أن نال صدًى إعلاميًّا واسعًا. «أغلب المسيحيات هاجرنَ إلى إيران بسبب اقترانِهنَّ بأزواجهنَّ الإيرانيين الذين كانوا يعملون بروسيا. وبعد الثورة الشيوعية عام 1917م، اضطروا للهجرة لإيران لكونهم معارضين للشيوعية وليسوا بروسيين، ففرَّ معهم جدّاتي المسيحيات المعارضات للشيوعية».
كان من نصيب الطالبة نيمات (17 عامًا) أن اعتُقلت في الخامس عشر من يناير لعام 1982م، وأُودِعت سجن إفين مع زميلاتها لسنتين كاملتين بعد أن عارضت إدخال قضايا السياسة في حصص الرياضيات، وقادت على إثر ذلك إضرابًا واحتجاجًا جماعيًّا؛ كما شاركت في مظاهرات ضد السياسات القمعية التي أطلقتها الحكومة الثورية، وكتبت عدةَ مقالاتٍ مناهضة للثورة في مجلة المدرسة. «سألوني ما إذا كنتُ أعمل مع مجموعات شيوعية فقلتُ: لم أفعل. كانوا قد سمعوا بالإضراب الذي بدأتُهُ ضد المدرسة، وكانوا يرون من الاستحالة لفردٍ بلا علاقات مع أحزاب سياسية غير قانونية أن ينظّم إضرابًا! أخبرتهم بأنني لم أنظّم شيئًا، وهي الحقيقة. فقط سألتُ مدرسة الرياضيات أن تدرّس الرياضيات بدلًا من السياسة، فطردتني من الفصل؛ فخرجتُ وخرجتْ زميلاتي خلفي، فرفض الجميع العودة للمدرسة. لم يكن المحقق يصدّق ذلك؛ إذْ يدّعي ورود معلومات بأن لي علاقة بمجموعات شيوعية».
حُكم على نيمات بالإعدام بتهمة الشيوعية، فلاقت في السجن صنوف الأذى والعذاب. «كانت هناك صيحات مشبعة بالألم تملأ المكان. أصوات ثقيلة وعميقة ويائسة تخترق جلدي، وتنتشر بكل خلية في جسدي، وكأنَّ لوحًا من الرصاص يجثم على صدري… فجأة وإذا بشخصٍ يجرني بالحبل الذي عُقد على يديَّ، ويجرني لخطواتٍ، ثم يلقيني على الأرض فتسقط عصابةُ عيني، ثم يجرُّ عصابتي رجلٌ في الأربعينيات في غرفة خالية من كل شيء فيما عدا سرير خشبي ووسادة حديدة، قائلًا: «الحبل لا يكفي، سنستخدم ما هو أشد وأقوى»، ثم وضع الحديد على يدي… إنَّ السجناء السياسيين يتعرضون دائمًا لصنوف منوعة من العذاب، يكفي من سماعها أن تصيبك بالغثيان. ذات ليلة استيقظنا جميعًا على صوت إطلاق نار فنهضتُ مع الفتيات وحدقنا من النوافذ. كل رصاصة كانت تعني حياة ضائعة، نفس حبيب وعزيز تتمزق بينما تنتظره أسرته وتتأمل عودته. سوف يُدفن القتلى في قبورٍ بلا شواهد ولا شهود».
وعندما كانت نيمات تستعد كغيرها للإعدام، وقع سجّانها ومحققها علي موسوي في غرامها، فتدخّل سريعًا لإنقاذها من فرقة إطلاق النار عارضًا عليها الإسلام والزواج، لِقاءَ التوسط لها عند الأسرة الحاكمة إذ كان على علاقة مقربة بهم. قبلتْ نيمات العرض فدخلت الإسلام كَرْهًا، فتم استبدال حكمها بالإعدام بالسجن المؤبد. تزوجت نيمات من موسوي وعاشت معه كل معالم الزواج في السجن، وكان يهددها بأذيّةِ أسرتها وحبيبها إن هي خالفت أوامره، حتى تم اغتياله من الأحزاب المعارضة ووُجدت جثتُه مرميةً عند عتبات منزله. «لقد استطاعت الثورة الإسلامية أن تمزق الإيرانيين جميعهم بشعاراتها وتضعهم في مواجهاتٍ بينية، فلا هم الذين يستطيعون الخروج جميعًا على النظام الشمولي الخميني، ولا هم الذين يستطيعون العيش في أحضان الغازي الأميركي المزعوم!»
سعت أسرةُ علي موسوي بكل جهودها للإفراج عن زوجة ابنهم – نيمات – بعد اغتياله حتى نجحت، فخرجت نيمات أخيرًا لتتزوج من حبيبها المسيحي أندريه نيمات، ثم لتعلن هجرتها النهائية من إيران عام 1991م إلى كندا مع زوجها الجديد وطفليها الصغيرين. هاجرت نيمات فرارًا من إيران الخمينية أسوةً بفرار جداتها من روسيا الشيوعية، وكأنما التاريخ يصر على تخريج دفعات من المهاجرين من نير الأيديولوجيات. ظلت نيمات 22 سنة بكندا، حيث مهجر 70 ألف إيراني، كمحاضرة في جامعة تورونتو الكندية ومقدمة لدروس خاصة في فن كتابة المذكرات. «هناك مثل فارسي قديم يقول: السماء بذات اللون حيثما تكون، ولكن السماء الكندية تختلفُ عن تلك التي أتذكرها في إيران، إنها ذات ظلال داكنة من الزرقة وتبدو بلا حدود؛ كأنما تتحدى الآفاق».
هودفار وآرايي.. ضحايا جُدد
لم تتوقف هذه السلسلة من الترويع في السجون الإيرانية ضد النساء بعد العقود الأولى من الثورة الإسلامية، بل استمرت في عقد حلقاتها الشائكة في القرن الحادي والعشرين، متمثلًا ذلك في اعتقال البروفيسورة الكندية (الإيرانية الأصل) بجامعة مونتريال هوما هودفار (1951م-) عام 2016م. أُودعت هودفار سجن إفين لأربعة أشهر بتهمة الاشتغال بالحركة النسوية والانخراط في القضايا الأمنية، حتى أفرج عنها بعد أن طلبت كندا وساطة عُمانية. «قررتُ كأنثروبولوجية أن أكون بطلة، وأن أحوّل السجن إلى ميدان لعملٍ أنثربولوجي، لم يكن مشروعًا اخترته بل مشروعًا اختارني فكتبتُ عنه». قامت هودفار بتحليل 30 حوارًا تحقيقيًّا أخضعها لها المحققون، فقدمتْ دراسةً رصينةً عن طرائق تهديداتهم واختياراتهم لكلماتهم، حتى «طريقة استخدامهم لموسيقا جنازة زوجي التي وجدوها بهاتفي منذ عام 2014م؛ كانوا يقومون بتشغيلها مرارًا وتكرارًا في زنزانتي بُغية كسري روحيًّا». خرجت هودفار في ذات العام بعد أربعة شهر وقبل أن تُنقَل من زنزانتها الصغيرة إلى زنزانة أكبر، رِفقةَ الكاتبة البريطانية (الإيرانية الأصل) نازنین زاغري رتکلیف (1978م-) التي اعتقلت مع طفلتها في إبريل في ذات العام، ولا تزال إلى اليوم في بدايات تنفيذ حكمها بالسجن لخمس سنوات.
كما تواجه الكاتبة غولورخ إبراهيمي آرايي (1980م-) هذه الأيام حُكمًا بالسجن لخمس سنوات على خلفية كتابتها قصة قصيرة (لم تُنشر بعد) تناقش قضية «الرجم حتى الموت» وذلك بتهمة انتهاك المقدسات والتأليب على النظام الحاكم؛ وقد عُثِر على قصتها في شقة زوجها الناشط أراش صديقي (1986م-) الذي يمضي حكمًا بالسجن لـ 19 عامًا، وقد تسبب الحرس الثوري في وفاة والدته بأزمة قلبية بعد مداهمةٍ شديدةٍ لمنزلهم. «أصبح منزلنا كالجحيم، يخبرني والدي دومًا بأنني كنتُ سببًا في قتل أمي وأنه لا يريدني مجددًا في المنزل، أنا أفضل أن أعود إلى السجن! تذكر زوجته آرايي بأنها كتبت قصتها القصيرة لبعث التساؤلات عن هذه العقوبة البشعة، ورفع معاناة السجينة فاريبا كاريغي التي حُكم عليها بـ«الرجم حتى الموت» بتهمة التورط في علاقة جنسية مع قاتل زوجها، ولا تزال تقضي فترة سجنها منذ عام 2013م.
ربما لاقت المرأة الإيرانية في سبيل خياراتها الخاصة شدائد متوقعة من الأحزاب الإسلامية المتطرفة، غير أن هذه الشدائد لا ترقى لمستوى ما وجدتُهُ من خذلان الحركات اليسارية، الحليف الأول للحركات النسوية في عهد الشاه. تذكر الباحثة والناشطة الإيرانية بارڤين بيدر (1949- 2005م) في كتابها: «نساء في عصر الحداثة، 1995» أنه ورغم كسب التيارات اليسارية لعدد من النساء في عهد الشاه باسم تحرير المرأة، فقد قلبوا لهنَّ ظهرَ المِجَنِّ وتخلَّوْا عنهن متخذين الثورة الخمينية بدلًا، بل كانوا يرون النساء المناضلات ضحايا للتقليد الغربي ومطايا لتحقيق المؤامرة الإمبريالية ضد إيران.
كان اليساريون جزءًا أساسيًّا من المجتمع البطريركي الإيراني، بل تأزّم الحال حين أصبحت المرأة اليسارية نفسها في مواجهةٍ شرسةٍ مع قريناتها، متجليًا ذلك في عضوة حزب توده الشيوعي الناشطة مريم فيروز (1914- 2008م) التي ما فتأت تخلع المدائح على الخميني وتصفه بأنه أعظم مناصر لحقوق المرأة في التاريخ. لم يطل إعجاب فيروز حتى وقع زوجها نور الدين كيانوري (1915- 1999م) ضحية للخميني، فزُجَّ به في السجن بتهمة التجسس لصالح السوفييت حتى مات في محبسه، ثم أُمر بإعدام غالب أعضاء حزب توده، وأخضعت مريم نفسها وهي ذات السبعين عامًا تحت السجن القسري ببيتها وتحت الرقابة السياسية حتى وفاتها عام 2008م.
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق