كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ترف الحرية
استوقفتني عبارة للمفكر الفرنسي جان بودريار وردت في كتابه «كرب القوة». العبارة ستفاجئ البعض وتحزن البعض الآخر. هي عبارة تتضمن شكوى لم نألفها وترفًا لم يمر بنا: ترف الحرية. هكذا سيراه من يبحث عن فتات من تلك المحلوم بها أبدًا، الحرية، تمامًا كما هو شعور الجماهير تحت نافذة القصر الإمبراطوري التي يقال: إن ماري أنطوانيت أطلَّت منها لتقول عبارتها الشهيرة: لِمَ لا يأكلون كعكًا، أو كما قالت. فماذا قال بودريار؟
قبل إيراد العبارة من الضروري معرفة السياق. جاءت العبارة ضمن مناقشة بودريار لما وصفه بالانتقال في تاريخ العالم الغربي من مرحلة السيطرة (domination) إلى مرحلة الهيمنة (hegemony)، الأولى هي مرحلة العبودية أو السيطرة المباشرة التي سادت في الماضي، والثانية هي مرحلة الخضوع غير المحسوس والمشاركة في عملية الإخضاع نفسها. وهذه الثانية هي المرحلة الحالية التي يسيطر فيها اقتصاد السوق والعولمة أو عملية التبادل التجاري الطاغي على كل شيء. ثم يشير إلى أن مرحلة العبودية أدّت في ذروتها إلى حركة تحرر سواء أكان سياسيًّا أم جنسيًّا أم غير ذلك، لكنها اتسمت بأفكار واضحة وقادة مرئيين، أما الثانية فلا تسمح، كما يقول، بالثورة عليها، وقبل إيضاح السبب وراء ذلك يلزم القول بأن الواقعين سواء تحت السيطرة أو الهيمنة ليسوا محصورين، كما قد يظن لأول وهلة، في أهل العالم غير الغربي، شعوب آسيا وإفريقيا… إلخ، الذين استُعمروا ونُهبوا طوال قرون، ليسوا أولئك فقط، إنما هم أيضًا الشعوب الغربية نفسها التي ظلت محكومة أيضًا بقوى سياسية واقتصادية واجتماعية، وبأوضاع من التفاوت الطبقي وعدم القدرة على تغيير شيء، مع أنها استفادت من الاستعمار والنهب الذي مارسته حكوماتها، وإن لم يشر بودريار إلى ذلك.
حروب التحرر
ذلك كله يقف وراء النتيجة التي توصل إليها المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي حين قال: «كل حروب التحرر من السيطرة لم تزد على أن مهدت الطريق للهيمنة، أي عهد التبادل العام – التي لا مجال للثورة عليها؛ لأن كل شيء بات محرَّرًا». التبادل العام هو اقتصاد السوق حيث تبادل السلع والأفكار وغيرها، السوق التي تعولمت ولم يعد ممكنًا السيطرة عليها، بل التي باتت هي، حسب بودريار تسيطر على الناس. في تلك السوق لم يعد مجال لثورة لأنه لم يعد هناك متسلط واضح يمكن الثورة عليه.
لكن هذا لن يبدو مقنعًا لشعوب كثيرة حول العالم تعرف المتسلطين، شعوب ما زالت في مرحلة تسبق تلك التي رأى بودريار أن العالم وصل إليها، مرحلة يهيمن فيها فرد مستبدّ أو عسكر، أو أقلية أو مجموعة من المتزمتين أو المؤدلجين أو أو. بالنسبة لأولئك سيبدو كلام بودريار ترفًا لا معنى له. ثمة أولويات تسبق العولمة. غير أن المشكلة لن تقف عند ذلك الحد. ستبدو المشكلة مضاعفة حين تكتشف تلك الشعوب أن ما يقوله المفكر الفرنسي لا يخلو من صحة، أن العولمة من خلال اقتصاد السوق وهيمنة الاستهلاك قوة طاغية أيضًا. صحيح أن بودريار لم يلتفت إلى تلك السلطة المضاعفة لكن ذلك ليس متوقعًا منه، فالالتفات هنا هو ما يجب على مفكِّري العالم غير الغربي فِعله.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق