كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
ترجمة إسرائيل الأدب العربي.. الدوافع والمسارات والمآلات!
بدأت إسرائيل منذ ستينيات القرن الماضي الاهتمام بشكل ممنهج بترجمة الأدب العربي، وبخاصة الرواية التي يعتقد قطاع واسع من علماء الاجتماع أنها باتت البديل الأوثق لتشريح المجتمعات، ومرآة عاكسة لتطورها. والأرجح أن الإبداع الفكري والثقافي والفني لأي مجتمع من المجتمعات يمثل أحد أهم ملامح الهوية في هذا المجتمع، فشخصية المجتمعات تتكون عبر مراحل التاريخ بما مر بها من أحداث، وبما تصدره من ردود أفعال تجاهها من خلال ما يبدعه عقلها الجمعي من إبداعات في ميادين الحياة والأنشطة الإنسانية المختلفة.
إذا سلمنا أن الصراع العربي الإسرائيلي هو من نوع الصراعات الاجتماعية المعقدة، فإن البعد الثقافي يمثل جوهر هذا الصراع والجانب الأكثر أهمية. ولذا أَوْلى الإسرائيليون قضايا الفكر والتراث العربي اهتمامًا خاصًّا، لا سيما بعد تفوقها العسكري والأمني. وسَعَتْ إسرائيل طوال الأعوام التي خلت إلى استقطاب كُتاب عرب بهدف ترجمة أعمالهم إلى اللغة العبرية عبر دور نشر إسرائيلية، وهو ما أثار أزمة بين المثقفين العرب حيث يعتبرها بعض شكلًا من أشكال التطبيع. وتزامنت حركة الترجمة إلى العبرية مع ظهور الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر حيث ظهرت مجلة هشيلواح وأفردت صفحات كثيرة لألف ليلة وليلة ومجلة هحداش التي تتضمن مقالات ودراسات مستشرقين وباحثين من الجامعة العبرية وغيرها. وفى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين بدأ التنفيذ الفعلي لترجمة الأعمال العربية الكبرى مثل: (إعداد سجل ضخم للشعر العربي القديم) عام 1935م.
والأرجح أن حركة ترجمة الأعمال العربية من نثر وشعر إلى اللغة العبرية حركة نشطة ومستمرة ولا يوجد أديب عربي له شأن لم تترجم العديد من أعماله إلى العبرية فضلًا عن دراسات وأطروحات علمية عن أدباء عرب.
والأمر لم يتوقف عند الترجمة فقط، بل تهتم الأكاديميات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية بدراسة المجتمع العربي، وهناك من حصل على رسائل جامعية في موضوعات أدبية وفكرية وغيرها، واستُفيد منهم في تنسيق الأنشطة في الأراضي المحتلة. على صعيد متصل تُرجِمت عشرات الأعمال العربية إلى العبرية أبرزها كتاب: «قصص الأنبياء»، وكذلك كتاب «كارلا بروني عشيقتي السرية»، للأديب علاء حليحل، و«عمارة يعقوبيان» للكاتب علاء الأسواني، التي أثارت الكثير من الجدل في الشارع الثقافي، ورواية «عزازيل» ليوسف زيدان عام 2009م. ومن الروايات العربية تُرجِمت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للسوداني الطيب صالح، و«الأرواح المتمردة» للبناني جبران خليل جبران، و«حكاية زهرة» للبنانية حنان الشيخ، و«باب الشمس» للقاص اللبناني الكبير إلياس خوري، ورواية «بنات الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع.
ترجمة الفكر العربي لماذا؟
لقد كانت ترجمة الفكر العربي بمختلف أجناسه وعصوره أحد المجالات المهمة والوسائل الحيوية التي يمكن أن تساعد في التعرف على المجتمعات العربية، وهو ما يؤكده الدكتور إبراهيم البحراوي في كتابه: «الأدب الصهيوني بين حربي يونيو 67 وأكتوبر 73» بقوله: «إن الأدب يمثل واحدًا من أهم وأوثق السجلات المعرفية التي يمكن الاستناد إليها في استقاء المعلومات عن التكوينات التحتية في مجتمع من المجتمعات والتي يصعب في أحيان كثيرة رصدها عبر سائر المصادر المعرفية المباشرة من كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية». ويفسر المفكر الراحل السيد ياسين اهتمام المؤسسات البحثية الإسرائيلية بترجمة الأدب العربي بمختلف عصوره بأن «أي أدب يرصد العمليات الاجتماعية التي تصاحب التغير الاجتماعي وتلقى الأضواء عليها وعلى مساراتها المتعددة وبصورة أكثر بروزًا ووضوحًا وحيوية من كثير من البحوث العلمية. من هنا الاهتمام بترجمة وتحليل مضمون الأعمال الأدبية حتى يضعوا أيديهم على مفاتيح التغير الاجتماعي في المجتمع وآثاره».
في المقابل ثمة عوامل أخرى وفرت بيئة دافعة للاهتمام الإسرائيلي بالأعمال الأدبية عند العرب؛ أهمها:
أولًا- وقوع الكيان الإسرائيلي وسط تجمع إقليمي عربي، وما يتصل بهذا من تباينات في الهوية وتعارضات عميقة في بنيتي الكيان والمنطقة العربية.
ثانيًا- التعرف على مكامن القوة والضعف في الطرف العربي؛ لإدماج هذا الجانب في أسس الإستراتيجية الإسرائيلية العليا إزاء العرب، وفي كيفية إدارة الصراع.
ثالثًا- التداخلات التراثية والتاريخية بين الحضارة العربية والنتاجات الثقافية ليهود الدول العربية في النسيج الثقافي العربي والإسلامي العام.
ويحاول الإسرائيليون اختزال دوافع هذا الاهتمام، فيسوِّقون تبريرًا لأسباب دعائية فمثلًا يعبر أوريال هايد (أحد أساتذة الدراسات الشرقية في الجامعأوة العبرية بالقدس) في دراسة له عام 1961م عن دافعين للاهتمام الإسرائيلي بالفكر والشؤون العربية هما: المتطلبات المستقبلية واستيعاب اليهود الشرقيين. يقول هايد حول الدافع الأول: «مهما يكن توجهنا الأدبي وعلاقاتنا السياسية مع جيراننا، فإنه ليس هناك من ينكر أن مستقبلنا القومي مرتبط بمستقبل الشرق الأوسط، وإلى حد ما بمستقبل دول آسيا وإفريقيا الأكثر بعدًا، وهذه الحقيقة ينبغي أن تضفي على اهتمامنا بالشرق الأوسط أهمية خاصة وحيوية ووعيًا يزيد عما لدى الباحثين الغربيين». وبالنسبة للدافع الثاني يذكر هايد: «أن استيعاب العدد الكبير من المهاجرين من دول الشرق إلى فلسطين يتطلب فهمًا واسعًا للظروف السائدة في بلدانهم الأصلية، ودراسة تقاليدهم الخاصة، وفى الوقت نفسه مساعدة مهمة للمعرفة العلمية وللفهم المتبادل بين الطوائف».
في هذا السياق العام فإن الاهتمام الإسرائيلي بالآداب والفنون العربية يظل متمحورًا حول تطلع الإسرائيليين إلى جعل أبحاثهم في الفكر العربي بمنزلة مصدر لإحدى القوى التي يتطلعون لامتلاكها: لتوظيفها من ناحية على صعيد تحقيق التوافق الداخلي في الكيان الصهيوني، وإذابة التناقضات الإثنية والفوارق بين شرائح المستوطنين اليهود، ولتوظيفها من ناحية ثانية في النطاق الخاص بكيفية التعامل مع المنطقة العربية، وكيفية إدارة الصراع وتخطيط شؤون المستقبل وذلك بمعزل عن الدعوات المزيفة التي تتحدث عن الرغبة في الاندماج في المنطقة، وإقامة سلام مع العرب.
دعاوى مزيفة
لا ينطلق الاهتمام الإسرائيلي بالفكر العربي بمختلف عصوره من رؤية علمية صرفة، إنما من رؤية تستهدف التعرف على المجتمعات العربية التي تتعامل معها على أنها مجتمعات معادية. وإذا كانت إسرائيل تروِّج إلى أن اهتمامها بمتابعة وترجمة الفكر الأدبي العربي، يأتي في سياق التكامل والتواصل الثقافي المشترك مع بيئتها الإقليمية، إذ يقول الباحث الإسرائيلي الدكتور ساسون سوميخ: إن مطالعة الفكر العربي الحديث ضرورة حياتية لكل مثقف إسرائيلي ولكل قارئ نبيه؛ إذ إنه دون اطّلاعه على التيارات الأدبية فإن معلوماته عن الإنسان العربي وعن عالمه ستكون مشوهة ومرتكزة على المعلومات الصحفية اليومية غير العميقة، ويتعلم القارئ الإسرائيلي عن طريق متابعة الأعمال الأدبية العربية في مجال الرواية والمسرح والشعر كثيرًا من المفاهيم النفسية للإنسان في القاهرة وفي دمشق وفي بيروت وبغداد، وحتى في الريف المصري واللبناني والسوري، ويتعرف بهذه الوسيلة على مشاكل ومتاعب الأديب العربي والإنسان العادي في نفس الوقت. غير أن الواقع الإسرائيلي يعكس خلاف ذلك، فعلى سبيل المثال توتر الداخل الإسرائيلي عشية قرار اتخذه يوسى ساريد زعيم حزب ميريتس عندما كان وزيرًا للتعليم، يسمح بتدريس الأعمال الأدبية الخاصة بالشاعر الفلسطيني محمود درويش.
معاهد ومراكز متخصصة
في سياق الاهتمام الإسرائيلي بدراسة وترجمة أنشطة الحركة الأدبية والثقافية في العالم العربي، سعت إلى إنشاء المؤسسات والمراكز البحثية التي تهتم بترجمة ودراسة الفكر العربي، وفي محاولة لدفع أبحاث الاستشراق إلى تحقيق الأغراض المحددة لها. وتعد أقسام اللغة العربية والأدب العربي من أهم أقسام كليات ومعاهد الدراسات الإنسانية في إسرائيل. ومن أبرز الجهات: معهد الدراسات الشرقية، عندما أنشئت مدرسة الدراسات الشرقية مع المعاهد الأولى في الجامعة العبرية عام 1962م كانت الدراسات العربية أهم مادة فيها، وخلال السنوات الأولى تحولت المدرسة إلى معهد يعلِّم اللغة العربية القديمة والحضارة الإسلامية، وكذلك التاريخ القديم للبلدان الإسلامية، والتاريخ العربي في القرون الوسطى.
الجمعية الشرقية: مع تزايد الاهتمام بالدراسات العربية بعد قيام دولة إسرائيل، أُسِّست الجمعية الشرقية وهي تعنى كما ذكر البروفيسور جبريل باير (أستاذ تاريخ الشعوب الإسلامية بالجامعة العبرية) بتنمية معرفة اللغة العربية. وتعنى الجمعية بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد العربية، ونشر مقالات في الأدب والنقد الأدبي.
مؤسسة أبحاث الشرق الأوسط: استحدثت رئاسة الجامعة العبرية هذه المؤسسة في منتصف السبعينيات، والتحق بها باحثون وأكاديميون من المعاهد والأقسام التابعة للجامعة. وتنشر المؤسسة سلسلة من الكتب، إضافة إلى تقارير ونشرات دورية باللغة العربية.
جامعة تل أبيب: تضم جامعة تل أبيب عدة مؤسسات بحثية تعنى بالشؤون العربية؛ أبرزها معهد شيلواح للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية. ويظل من الثابت أن تعدد المراكز والمؤسسات البحثية التي تعنى بقضايا الفكر العربي بمختلف تشعباته وارتباطاته إنما يعكس مقدار الأهمية التي تُولِيها إسرائيل إلى معرفة المجتمعات العربية؛ لإيجاد علاقات ارتباط بين الواقع وبين الصور الذهنية التي يسعون إلى ترسيخها كما يعكس هذا التعدد من ناحية أخرى رغبة إسرائيلية في امتلاك المزيد من عناصر القوة الثقافية إلى جانب القوة العسكرية والاقتصادية في الصراع.
حماية الخصوصية الفكرية
بالنظر إلى غياب الموضوعية الإسرائيلية في تناول الأعمال الأدبية والإنتاج الثقافي العربي، يبقى مهمًّا التفكير جديًّا في حماية خصوصية أعمالنا الفكرية. والدعوة لحماية الحقوق الفكرية العربية ضد مخاطر الترجمة العبرية المزيفة في أكثرها تعكس في هذا الإطار مدلولًا يعني أن هذه الحقوق أصبحت في موقف يمثل درجة متقدمة من خطورة التعدي لا بد من مواجهتها، وسرعة الاتفاق حول طرق تحقيق الحماية والردع، ومن ذلك: جمع التراجم والدراسات المنقولة من العربية إلى العبرية ودراستها دراسة علمية، والرد على الكثير من المغالطات الواردة فيها، وبخاصة أن النزعة الصهيونية تبدو واضحة عند تناول الأعمال الفكرية العربية والعناصر البشرية العربية.
الدفاع عن حقوق الكُتاب العرب والمصريين عن طريق المنظمات العالمية، خصوصًا أن بعض المؤلفين الإسرائيليين الذين تُرجمت أعمالهم للعربية يفعلون ذلك، ومنهم، (ساميخ يزهار – عاموس كينان -عاموس عوز- يعل ديان -يسرائيل شاحاك- ديفيد غروسمان) وغيرهم.
خلق مؤسسات عربية لترجمة الأعمال العبرية واليهودية بالتعاون بين كل المثقفين العرب المتخصصين؛ إذ ليس من المعقول أن يعرف أصحاب اللغة العبرية كل صغيرة وكبيرة تتعلق بلغتنا العربية وما تشتمل عليه بينما تقتصر معرفتنا على المترجمات من لغات أخرى غير العبرية وفي القليل نجد مترجمات مباشرة عن العبرية.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق