المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب

بواسطة | يونيو 30, 2017 | دراسات

يعتمد ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها – إصحاح الثورة» (المجلس الأعلى للثقافة) للشاعر المصري حسن طلب، على جدل السياسي والجمالي، وعبر جدلهما الخلاق تتشكل البنى المركزية للديوان، وتتحقق سمات خطابه الثوري، حيث يعتمد الديوان في بنيته على ثيمتين مركزيتين هما: الحب، والحرية، يتصلان اتصالًا وثيقًا بجوهر الشعر والثورة في الآن نفسه، ويعبران عن المنحيين الأساسيين داخل القصائد: (المنحى الرومانتيكي، والمنحى الواقعي) كما تبدو الإحالة إلى وقائع حقيقية، وأحداث زمانية ومكانية محددة: «جمعة الغضب – جمعة الرحيل 2011م»، من أهم الآليات الجمالية التي يعتمدها الشاعر في نصه، فضلًا عن الاعتماد على دوالّ مركزية في النص ومنحها أبعادًا جديدة تتجاوز أفقها المادي لتصل إلى فضاءات نفسية وإنسانية، على نحو ما يصنع الشاعر مع مفردته الأثيرة في الديوان «الميدان»، في ديوان شعري بدا مسكونًا بالتوظيف الدالّ للصيغ الأسلوبية ذات الطابع الإنشائي، والصور البلاغية التي تجدل ما بين المتخيَّل والواقعيّ، وتتماسّ مع المقدَّس تارةً، والأسطورة تارةً أخرى، مستخدِمة ذلك جميعه في التعبير الفني والدلالي عن الثورة، وتسعى هذه الدراسة إلى استجلاء جماليات النص الشعري التي وظفها الشاعر في التعبير عن موضوعه المركزي هنا «الثورة».

للديوان فواتح وخواتيم، حيث يستهله الشاعر «باسم الحب والحرية»، وينهيه بعزمه على وصال المحبوبة في قصيدته «سآتيك»، وما بينهما جملة من النصوص الشعرية التي تطرح حالة ثورية بامتياز، فتتخذ أحيانًا أسماء لوقائع زمانية فارقة، على نحو ما نرى في العناوين التالية: «يرحب الميدان»، و«جمعة الغضب»، و«جمعة الرحيل»، أو تتخذ نزوعًا ساخرًا على نحو ما نرى في: «قلة مندسّة»، و«حكماء الأمة»، أو تنحو عناوين القصائد صوب إقرار حالة ما، على نحو ما نرى في: «ترفرف الرايات»، و«يزداد العدد»، و«يختلف الهتاف»، و«تمرض الثورة»، أو تنحو صوب الفانتازيا مثلما نرى في قصيدتي: «على أجنحة الفراشة» و«تظهر إيزيس»، أو تحيل إلى تلك الثقة في المستقبل: «غدًا سنرى»، أو إجمالًا لمشهد عام: «تلك هي القصة»، وفي كل تتحرك نصوص الديوان بوصفها تعبيرًا جماليًّا عن الثورة المصرية في لحظاتها المختلفة، وتحولاتها المتعددة في مرحلة مفصلية من عمرها، يحددها الشاعر حين يضع بين يدي ديوانه ذلك الزمن المرجع، ويحدده بقوله: «كتبت قصائد (إصحاح الثورة) في المدة ما بين يناير 2011م إلى يناير 2012م»، ويعد التحديد الزمني هنا حاكمًا لقراءة النصوص محلّ الدراسة من جهة، وكاشفًا عن سياقاتها السياسية الثقافية من جهة ثانية.

يتشكل الديوان من ثلاث وثلاثين قصيدة شعرية، تتفاوت فيما بينها في الطول والقصر تبعًا للحالة الشعورية التي يريد الشاعر أن يبثها إلى متلقيه، حيث تبدو القصائد الساعية صوب تشكيل عالم يمزج بين الثوري والرومانتيكي طويلة نسبيًّا على نحو ما نرى في القصيدة الأخيرة في الديوان «سآتيك»، كما تبدو القصائد التي ترصد مشهدًا بعينه من مشاهد الثورة أو حدثًا محددًا من حوادثها الفارقة قصيرة نسبيًّا على نحو ما نرى في قصيدتي: «جمعة الغضب»، و«جمعة الرحيل». يبرز في الديوان جدل الشعر والثورة، حيث يعد الديوان بقصائده جميعها تأريخًا للحظات مختلفة مرت بها الثورة المصرية، أو عطفًا على مشاهد حياتية مرت بها الجموع التي تحضر هنا بوصفها مجلى للعالم، وتكريسًا لعلاقة الذات الشاعرة بالسياق السياسي الثقافي المحيط. يتجادل السياسي والجمالي في «باسم الحب والحرية»، ويحضر الميدان منذ المفتتح، ويبدو الاستهلال الشعري ابنًا لصيغة حكائية، يتبناها الشاعر في نصه، حيث يقول: «منذُ أَنْ أشرقتِ الحريةُ اليومَ/ بِزِيّ امرأةٍ ريانةِ القدّ/ وميادتِهِ!/ أصبحَ الميدانُ بستانًا/ وضاعَ العطرُ ألوانًا/ وغنّى طائرُ الحُبّ لصيادتِهِ!». ويعمق الشاعر بنيته الحكائية عبر توظيفه لفعل القول «قالت»، في إشارة منه إلى «الحرية» التي تتماهى في القصيدة مع الميدان، فيقول: «قالتْ: / بابُ بيتِي أصبحَ الميدانَ»، بعد أن قدمت إليه كعروس بكر، في استعمال دالّ للاستعارة المكنية في النص: «فتهادتْ كالعروسِ البكرِ../ مِن سَلّتِها ألقتْ على الثوارِ/ نثرا مِن زهورِ النارِ».

وتتواتر الصيغ الإنشائية في القصيدة، مثل: «فأجيبوه/ اهتفوا/ وانسوا/ فاهتفوا باسمي»، وبما يفضي إلى مزيد من الحث لجمهرة المتلقين، الذين يسعى الشاعر لأن يقفوا على حافة الفعل، مثلما وقف المشاركون في الثورة في قلب الميدان. ويبدو المزج دالًّا ما بين ثيمتي الحب والحرية في النص، وبخاصة في المقطع الأخير الذي يستعير فيه الشاعر جزءًا من إرثه الشعري القديم، حين يستحضر في متنه الشعري كلًّا من قيس ليلى، وابن زيدون، وبما يعني أيضًا انفتاح النص على جملة من الدلالات التي يستدعيها ميراث الشعر والحب والتضحية أيضًا التي يمكن تلمُّسها في نصوص وحكايات العاشقين: قيس وليلى، وابن زيدون ووَلَّادة: «فاهتفُوا باسمِي/ وباسمِ الحُبّ: كي لا يُحرَمَ الشاعرُ مِن غادتِهِ/ فَتُرى مَن غَيرُهُ يُنشدُكُم/ أروعَ مما قالهُ قيسٌ لِلَيلَى/ وابنُ زيدونَ لولَّادتِهِ».

التاريخ المباشر للحدث

ويلجأ الشاعر في تثوير خطابه الشعري إلى الاتكاء على التأريخ المباشر للحدث، والنصية على زمان حدوثه، مثل قوله: «كانَ ثلاثاءُ الخامسِ والعشرينَ/ مِنَ الشهرِ الأولِ../ ميعاد الصحوهْ. فقصدنَا الميدانَ../ كأنّ ملائكةَ الرحمانِ تُحالفُنا/ وطيوفُ إلهاتِ الحبّ../ تُصادفُنا/ فتفيضُ عواطفُنا/ بوميضِ النخوهْ!». وتتواتر الدوالّ الزمانية في الديوان، في محاولة فنية لرصد الواقع السياسي بتجلياته المختلفة، على نحو ما نرى في الاستهلال الشعري لقصيدة «كان كذلك»، التي يستهلها الشاعر قائلًا: «أمسينَا: / قدْ غلبَ القهرُ/ وأصبحنا: قد نفِدَ الصبرُ!». كما يلجأ الشاعر أحيانًا إلى معارضة الموروث، ومحاولة صوغ وعي جديد يتسق والفعل الثوري ذاته، بما يحويه من وعي وجسارة حقيقيين، فالعبارة الشهيرة: «دع المُلك للمالِك» يعارضها الشاعر في نصه، بقوله: «لن نَدَعَ المُلك»، ثم يحوّر العبارة ذاتها، ويصوغها على نحو مختلف، واصلًا لمعنى عميق وجديد في الآن نفسه، موظفًا الجناس التام في جملته الشعرية: «لن ندعَ المُلك ولا المالِك»، حيث تُغايِر دلالةُ «المالِك» في النص الشعري هنا دلالتها في الوجدان الجمعي، ويصير المالك هنا بمعنى الحاكم، ومن ثَم لن يترك المصريون لا المُلك أي الحُكم، ولا المالِك أي الحاكم، وبخاصة مع انفتاح النص على أفق تأويلي شفيف: «كذلكَ كانَ الأمرُ.. فقلنَا: لا…/ لن ندعَ المُلكَ ولا المالكَ! كانَ الأمرُ كذلكَ../ أشعلنا ثورتَنَا/ ثم هتفنَا/ فتوهجتِ الجَذوةْ».

ويحضر الشعار السياسي بقوة في الديوان، ويعد أحد الآليات التي اعتمدها الشاعر في التعبير الجمالي عن الثورة، ويمكن أن نرى ذلك في مقاطع عديدة من النص، من أبرزها، قول الشاعر: «العدالةُ دينُنَا/ حريةُ الإنسانِ – أيًّا كانَ- غايتُنا/ وباسمِ كرامةِ المصريّ/ كانَ هتافُنَا/ وضميرُنا القائدْ!». في «إصحاح الثورة» نرى تماهيًا بين الميدان والمجموع، فيقدم الشاعر الميدان بوصفه مثل ثواره ينشد الحرية، ويطلب العدل والكرامة، موظفًا الصورة التشبيهية البلاغية توظيفًا دالًّا، فيقول: «كأنّهُ كانَ يعانِي مثلَنا!/ كأنهَ أحسّ ما نُحِسّهُ/ أو وجدَ الذي نجدْ». ويصبح «الميدان» بمنزلة الدال المركزي في الديوان، ليس فقط لتواتر حضوره في المتن الشعري للقصائد المختلفة، وإنما لمدلولاته الثرية التي يحملها ويحيل إليها من مقولات كبرى تتصل اتصالًا وثيقًا بمعاني الحرية وإنسانية الإنسان، وإمكانية تحويل العالم الافتراضي المتخيل الساكن خلف شاشات الكمبيوتر إلى عالم واقعي بامتياز، وهذا ما نجده وفق شاهد نصي من الديوان ذاته: «فنحنُ لولا ذلكَ الميدانُ/ كنا لا نزالُ نلتقِي/ عبرَ الجهازِ وحدَهُ/ نحتلُّ حيزَ الفضاءِ الافتراضي/ وراءَ الشاشةْ».

وتتحقق آليات تثوير الخطاب الشعري هنا عبر الإحالة إلى أحداث حقيقية في الواقع المعيش، ثم صوغها جماليًّا، على نحو ما رأينا في قصيدة: «ضابط يثور»، التي يشير فيها إلى التحية العسكرية التي قدمها أحد قادة المجلس العسكري للشهداء (المقصود هنا اللواء محسن الفنجري الذي قدم التحية العسكرية للشهداء في مشهد مهيب أذاعته القنوات المصرية والعالمية المختلفة)، في إشارة بالغة الدلالة تحيل إلى التلاحم الحقيقي بين الشعب المصري وجيشه الباسل: «إذ أدّى لروح ِالشهداءِ أروعَ الأداءِ/ بالتحيةْ». ويتحقق تثوير الخطاب الشعري أيضا عبر لجوء الشاعر إلى التنويع في الأساليب اللغوية المستخدمة، وما بين توظيف الصيغ الخبرية التي تفيد حالًا من الإقرار واليقين بانتصار الثورة، والصيغ الإنشائية التي تتواتر في النصوص جميعها؛ لأنها ترصد لحظات مرتبكة ومتحولة ومسكونة بالهواجس والأماني والغايات الكبرى، ومن ثَم سنجد حضورًا دالًّا لأسلوب النداء في مقاطع عديدة، من أبرزها الاستهلال الشعري الذي يفتتح به الشاعر قصيدته «يزداد العدد»، حيث يبدو اللجوء إلى المجموع طريقًا للخلاص: «يا أهلَنَا/ لا تتركونا وحدَنَا/ لا بد مِن أنْ نحتشدْ/ لو اجتمعنا كلنا/ فلن يردنا أحدْ/ لا تتركونا نكتب التاريخ وحدنا/ فأنتم المداد والمددْ/ يا أهلنا/ لا بدَّ مِن أن نتحدْ». ويكشف النداء في المقطع السابق عن رغبة في الاحتماء بالمجموع، من جهة، ووعي بالدور الفاعل للمثقف صوب ناسه من جهة ثانية، كما نرى حضورًا للجناس الناقص بين «المداد والمدد»، وتسهم الصورة الشعرية هنا في تعميق الرؤية الكلية التي يحملها المقطع، وتلعب الصورة التشبيهية «فأنتم المداد والمدد»، دورًا مركزيًّا في هذا السياق؛ إذ تجعل من دعم المجموع حبرًا يُكتَب به النصر، وعونًا في الشدائد جميعها.

ومثلما يبدأ الشاعر قصيدته «ويزداد العدد» بالنداء: «يا أهلَنَا»، فإنه يُنهيها به أيضًا، في توظيف دالّ لآلية البناء الدائريّ، حيث يبدأ النص من نقطة ما، ثم يعود إليها في المُختَتَم، فيصبح النداء في النهاية بمنزلة الشحنة الشعورية والانفعالية التي يريد الشاعر أن يبثها في متلقيه، دافعًا إياه إلى مزيد من المقاومة، وبخاصة حين يكسر أفق التوقع لدى قارئه في ختام القصيدة، قائلًا: «يا أهلنا/ لا تحزنوا مِن أجلنا/ كل شهيد قد فقدناهُ: / إضافةٌ!/ يحدث في ملحمة/ أن ينقصَ المعدود أحيانًا/ فيزداد العددْ». ويصبح هذا التنويع الأسلوبي سمةً من أهم سمات الديوان، وأداة من أدوات التعبير الجمالي عن الثورة داخله، وإن ظلت الصيغ الإنشائية مهيمنةً على النص، ومشكلة ما يعرف بالمستوى المسيطر داخل الديوان، حيث نرى أيضًا توظيفًا لصيغة التعجب الثانية، وأعني بها صيغة «أَجمِل بِـ» التي لا تستخدم كثيرًا في الحياة والكتابة، وتغاير في بنيتها صيغة «ما أَجملَ»، ويوظف الشاعر السياق التعجبيّ في مستهلّ قصيدته «مدينة فاضلة»، مقترنًا بامتداح الميدان، القادر على إثارة الدهشة والأسئلة طيلةَ الديوان، فيقول: «أَعجِب بذلك الكيانْ!/ أَحبِب بكائن وليدٍ/ جلّ أن يسمى/ أَعجِب بتلك الكتلة العظمى/ صارت بحيث انصهرتْ/ جبلة الإنسان والمكانِ/ ما أعجبنا ونحن في الميدانْ!».

الانتصار للقيم الفلسفية الكبرى

حسن طلب

ثمة شخصية متخيَّلة «شهد»، يستدعيها الشاعر في متن ديوانه، فتحضر على نحو بارز في القصائد المركزية التالية: «جمعة الغضب/ مجنون شهد/ جمعة الرحيل/ سآتيك»، ويقدم الشاعر «شهد» بوصفها الحبيبة تارة، وشريكة النضال تارة أخرى، والشاهدة الغائبة تارة ثالثة، والدافعة صوب الانتصار للقيم الفلسفية الكبرى: الحق/ الخير/ الجمال تارة رابعة، وفي كلٍّ تقترن شهد بالثورة، وتعد وجهًا من وجوهها الأصيلة والنبيلة في الآن نفسه، وتنويعة جديدة على متن الجدل الخلاق بين الحب والحرية، وهما الثيمتان المركزيتان في الديوان، واللتان تمتزجان في معظم قصائده. وعبر تقديم الشاعر لشخصيته المركزية في الديوان «شهد» تتكشف لنا جملة من الدلالات المهمة، ففي «جمعة الغضب» يبدو الشاعر خائفًا على محبوبته التي يقدمها بوصفها شخصية متماهية مع المجموع الصامت الذي خشي عليه الشاعر من أن ينخدع بخطبة جوفاء، أو دمعة زائفة، ويحضر النداء بوصفه خيارًا أسلوبيًّا يوظفه الكاتب دلاليًّا وجماليًّا على نحو مائز: «يا شهدُ../ يا صاحبةَ الوجهِ الصبوحِ الحرِّ/ والروحِ النزيهْ/ اليوم جمعة الغضبْ/ فإن بكى الطاغية الآنَ../ فلا تصدقيهْ/ وفتّشي عن السببْ/ دمعان لا تصدقيهما: فلا دمع التماسيحِ/ إذا سالَ../ ولا دمع الطغاة المنسكبْ/ قد يرتدي الطاغية اليومَ/ عباءة الفقيهْ/ قد يختفي/ خلف قناع البطل المأزومِ/ كي لا ينسحبْ!».

وفي «مجنون شهد» تحضر «شهد» من جديد، لكن على نحو مغاير، حيث باتت حاضرة في مشهد الثورة بطريقة أو بأخرى، فالذات الشاعرة تستفسر عن سر تأخُّرها، وكأنها قد استجابت لنداء الشاعر في «جمعة الغضب» حين ناداها طالبًا منها المجيء، وبما يعني أن ثمة تماسَّات رؤيوية ما بين نصوص الديوان المختلفة: «لم أرَ «شهد» أمس في الميدانِ../ واليوم مضى بي النهار كلهُ/ لم أرها!/ فما الذي ترى عن الثورة/ قد أخرها؟/ في ساحة الميدان كانوا يهتفونَ/ (يسقط النظامُ)/ لكن هتافي كانَ: (يسقط الفراقُ!)/ والرفاق يضحكونَ!/ لو رفيقٌ/ كان كلما هتفت باسمها/ أخبرها!/ فالهاتف المحمول مغلقٌ/ وذلك الميدان ضيقٌ/ أما الجماهير فما أغفرها!». إنه عاشق مختلف حقًّا، يبحث عن محبوبته، ويعاني أثر الفراق، فلم يعد ينهل من حبها المتجدد، الذي أحاله إلى مجنون جديد يضاف إلى جملة العشاق في تاريخ ثقافتنا العربية، وفي تماسّ بالغ الدلالة مع الوجدان الشعبي، الذي عرف «مجنون ليلى» على سبيل المثال، وها هو الآن يقف أمام «مجنون شهد»، الذي يرفع راية الثورة بيد، بينما يمسك باليد الأخرى عشقه، بما يعني أن التواشج الدالّ بين ثيمتي الحرية والحب يعد الأساس الذي اعتمدت عليه الرؤية الكلية للديوان.

مشاهدات‭ ‬حية‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الفعل‭ ‬الشعري

تحضر «شهد» في قصيدة «جمعة الرحيل» من زاوية مختلفة عن تلك التي وجدناها في «جمعة الغضب»، حيث يختفي الظل الرومانتيكي نسبيًّا، وتبدأ القصيدة بدعوة مباشرة من الذات الشاعرة لشخصيتها المتخيلة «شهد» كي تشهد جمعة الرحيل، وتصبح الدعوة مشفوعة بوعي الذي اقترب فرأى، ومن ثَم تبدو الرؤية الشعرية في النص رؤيةً من الداخل، فالشاعر يقدم لنا مشاهداته الحية، وينقل لنا ما يدور في مكان الفعل الشعري «الميدان»، وتحضر «شهد» أيضًا في القصيدة الأخيرة من الديوان، التي تحتل حيزًا كميًّا من المتن الشعري للديوان أكبر من القصائد الأخرى، حيث تقع في ست عشرة صفحة، وتصبح فيها «شهد» مرويًّا له في القصيدة، حيث تتوجه الذات الشاعرة بخطابها إليها، ومن خلفها جمهرة المتلقين على تنويعاتهم، وتبدو القصيدة رصدًا فنيًّا مجملًا لمشاهد من الثورة المصرية ذاتها، فضلًا عن إشارات ذكية ذات طابع استشرافي للمصاعب التي ستواجهها: «سآتيكِ/ إلا إذا ما سماسرة الدِّينِ/ خانوا اليمينَ/ فهاجوا وماجوا علينا/ على المؤمنات بحتمية الدولة المدنيةِ/ والمؤمنينَ!/ أتوا بالسيوفِ../ أتوا بالعصي../ وعاجوا على المتحف الفرعوني.. في طرف ميداننا/ ثم أهووا على ما رأوا من تماثيلِهِ/ بالمعاولْ!/ فضاع تراث القرونِ/ وبادت كنور الأوائلْ».

وتبدو دلالة المستقبل التي يحملها حرف السين في الفعل «سآتيكِ»، إشارة إلى وعد مسكون بالثقة قطعته الذات الشاعرة على نفسها، مفاده أنه مهما كانت التحديات، ومهما حال حائل، فإنها لن تتأخر عن الذهاب إلى «شهد» ووصالها، فتتجادل الثيمتان المركزيتان في الديوان من جديد: «الحرية والحب»، وتشكلان عبر جدلهما الخلاق أساسًا للنص الشعري الثائر الذي يحمله الديوان، ويرفده الشاعر بعناصر واقعية وأخرى رومانتيكية، والأهم أنه يظل خطابا منفتحا على أسئلة الشعر والثورة معا، خاصة مع تقاطع التسجيلي والتخييلي في متنه: «هل تنجح الثورةُ؟/ هل تصمد كي تكتمل الدورةُ؟/ واليوم ستأتي «شهدُ»؟/ أم تأتي غدًا؟/ أسئلةٌ تترى.. وما أكثرها!/ كيف استطاع العاشق الثوريُّ/ أن يجمع بين العشق والثورةِ!». يستخدم الشاعر آلية التناص في أكثر من موضع داخل الديوان، فتارة يستخدم التناص الأسطوري مثلما يفعل في قصيدته «وتظهر إيزيس»، والتي يستعيد فيها الأسطورة الفرعونية القديمة، بكل ما تحمله من حمولات معرفية ودلالية، وتارة يوظف الشاعر التناص القرآني، ليصبح في مواضع عديدة أحد أهم آليات التعبير الجمالي عن الثورة في الديوان، حيث يبدأ ديوانه بما أسماه «فاتحة»، ويقول في موضع آخر: «ما ينفع الناس – كما قيل لكم- / يمكث في الميدانِ../ حيث يذهب الزبد!».

ويتناص الشاعر في المقطع السابق مع الآية القرآنية الكريمة: ﴿ فَأمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ﴾ (سورة الرعد، الآية 17)، ولكنه يجعل من «الميدان» أداة معيارية للحكم على ما ينفع الناس، وعلى الزبد في الآن نفسه، وكأن الميدان خط فاصل بين عالمين: أحدهما نافع، والآخر لا قيمة له. وبعد.. يعتمد الخطاب الشعري في «إنجيل الثورة وقرآنها/ إصحاح الثورة» على جدل التسجيلي والتخييلي، فعبر تقاطع الوقائع والأحداث الحقيقية المختلفة وتداخلها مع مساحات الحلم والفنتازيا تتحقق شعرية النص، وتبرز الإحالة إلى الراهن المعيش بأبعاده الزمانية والمكانية الدالة على الثورة، ثم محاولة صنع عالم تخييلي أساسه الصورة الشعرية وجوهره في آن.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *