كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
تصدّع العراق وسوريا خطر مرشَّح للتعميم
طرحت الأحداث المتلاحقة في العالم العربيّ منذ خمسة أعوام جملة إشكاليات تتعلَّق أولًا بتعايش مكوِّنات المجتمعات داخل حدود بلدانها، وثانيًا باستهدافات القُوى الدولية والإقليمية وطبيعة روابطها مع تلك المكوّنات. وما بدأ كحراكات داخلية ترمي إلى تصحيح أوضاع الحكم وحقوق الجماعات، سرعان ما انزلق؛ إمّا بصراعات دامية، أو بانقسامات عمودية. وفي الحالين شهد النسيج الاجتماعيّ تمزُّقات عميقة؛ أظهرت بدورها أن ما كان يُعتقد أنه تعايش سلميّ إنما كان في الحقيقة هُدنة انتظار أيّ فرصة تسنح لتغيير الواقع، ليس سياسيًّا فحسب، إنما جغرافيًّا أيضًا.
إن الإخفاق التاريخيّ الكبير لم يكن في انهيار هذا التعايش فحسب، إنما في إخفاق أنظمة الحكم في بناء الدولة، دولة لجميع أبنائها، تعاملهم بمعايير مُواطَنة واحدة، وتعترف بمساواتهم بموجب القوانين. أدَّى هذا الإخفاق إلى هشاشة مزمنة في الانتماء والولاء، وإلى داء عُضَال في كل أوصال الدولة والمجتمع. في المقابل لم يَكُن العامل الخارجيّ، وبخاصة الدور الأميركيّ، عنصرًا مساعدًا في تدعيم السلم الأهليّ، إنما اشتغل كالعادة على التناقضات الداخلية لأيّ بلد، داعمًا الأنظمة؛ لأنها تلبّي مصالحه، ومخاطبًا المجتمعات؛ لتحريضها على التحرُّك «من أجل الحرية والديمقراطية». وعندما فعلت أخيرًا، أو خُيّل إليها أنها تفعل، أخفق الدور الأميركيّ إخفاقًا ذريعًا في فهم حركاتها وملاقاة طموحاتها، والأسوأ من ذلك كان الإخفاق في «إدارة» الأزمات التي نجمت عن الانتفاضات الشعبية.
أثبتت الوقائع أنه حيثما توافرت عناصر داخلية )مؤسسة الجيش في مصر، والمجتمع المدنيّ في تونس) أمكن كبح جماح الفوضى، ووضع أُسُس لاستعادة الاستقرار، ومقاومة الأجندات الخارجية. أما البُؤَرُ الثلاثُ الأخرى: (سوريا، واليمن، وليبيا) التي سقطت في فخّ الاقتتال وسفك الدماء، فعانت زمنًا طويلًا هيمنةَ فئة واحدة أقلّية؛ قَبَلية أو مذهبية، صادرت الجيش والأمن، واستخدمتهما ضد أغلبية الشعب؛ لذلك غلب عليها نهج التغيير الجراحيّ، على ما فيه من مخاطر تصل إلى حدّ طرح الكيان الجغرافيّ للبلد. ذاك أن القوى الخارجية كانت لها يدٌ تاريخيًّا في تكوين هذه الدول بشكل مباشر أو غير مباشر (معاهدة سايكس بيكو عام 1916م، فيما يتصل بسوريا. ضغوط الاستعمار الإيطاليّ لترسيخ الأقاليم الثلاثة الليبية. ترجيح الاستعمار البريطانيّ وجود يمنيْنِ: شماليّ وجنوبيّ).
عدا البلدان الثلاثة التي شملتها خريطة «الربيع العربي»، الاسم الجميل لحقبة بائسة، تجدر الإشارة إلى العراق الذي بلغه «الربيع» الدمويّ عبر الغزو والاحتلال الأميركيين عام 2003م. وسواء أكانت حرب العراق خطوة أميركية أم لا، فقد صار واضحًا الآن أنها دقّت المسمار الأخير في نعش «استقرار» إقليميّ هُلاميّ؛ إذ حرّكت كل الرواسب الطائفية والقومية والإثنية، ووضعت كل الخرائط تحت المراجعة، وإعادة النظر في الحدود.
وأتاحت الحرب العالمية الأولى للحلفاء المنتصرين التصرُّف في «الولايات» العربية – العثمانية، بوساطة فرضها الانتدابيْنِ البريطانيّ والفرنسيّ، ورسْم خرائط الدول، ومنها العراق، وكذلك تركيا، وتوزيع الأكراد على أربع دول، وإصدار «وعد بلفور» بوطن قوميّ لليهود، فإن تداعيات الحرب الثانية أدَّت إلى ترسيخ هذه الوقائع وصولًا إلى إنشاء «دولة إسرائيل»، أو بالأحرى: زرْعها جسمًا غريبًا في المشرق العربيّ؛ مما أفسد عمليًّا انطلاقة الدول «المستقلّة» حديثًا، وشغلها بالحروب عوضًا من انكبابها على بناء المؤسسات، والتنمية، وبلورة عقودها الاجتماعية.
وأسهمت الحروب الخمسة ضدّ إسرائيل في بَلْبَلة التماسك داخليًّا وعربيًّا، فإن الأنظمة القائمة على الهيمنة العسكرية استطاعت أن تطمس التباينات الاجتماعية من دون أن تكون بصدد بناء علاقة وئام وسلام؛ لا بينها وبين مجتمعاتها، ولا بين الفئات والمكوّنات. لكن ها هي الحرب الأميركية في العراق قد فجّرت الألغام، بل أضافت إليها، وإذا بأبرز نتائجها يتمثّل في وضع نواة إنشاء دولة كُردية من خلال الدعم الأميركيّ الاستثنائيّ لـ«إقليم كردستان العراق»؛ مما أدَّى إلى تشظّ واقعيّ لوَحْدَة العراق شعبًا وأرضًا ودولةً، لتتولّى إيران إدارة هذا التشظّي، سواء بالتعاون مع النظام السوريّ في تغذية الإرهاب ونشره في أثناء وجود الأميركيين في العراق، أم بتعميمه بعد انسحابهم بوساطة دفع حكومة بغداد إلى نهج «إرهاب الدولة».
شكّلت الواقعتان التاريخيتان: إنشاء إسرائيل بالاستيلاء على أرض غيرها بالقوة، وضرب الكيان العراقيّ وخلخلته بالغزو والاحتلال، نموذجيْنِ كارثيين للسعي الخارجيّ لاستثناء المنطقة العربية من أيّ ثبات أو استقرار. فالأُولى رسَّخت «وفاقًا دوليًّا»، حتى في أكثر مراحل الحرب الباردة سخونةً، قوامُه عدمُ سريان القانون والمعاهدات الدولية على وضعية إسرائيل، وتأمين تفوُّقها العسكريّ )بما فيه النوويّ)؛ مما أسّس علاقة مبتورة وغير سليمة بين العرب والنظام الدوليّ، بل بين العرب أنفسهم وداخل كل بلد عربيّ. فإذا كان القانون الدوليّ يتوقف عند أبواب المنطقة، ويحصّن الظلم في فلسطين، فكيف لـ«ثقافته» أن تَجِد لها مكانًا في محيطها.
أما الواقعة الثانية، فجعلت من «إقامة الديمقراطية»، بوصفها مشروعًا أميركيًّا معلنًا للعراق بعد تخليصه من النظام الدكتاتوريّ، جسرًا إلى حلّ الدولة وتفكيكها، وإلى زعزعة المجتمع وتفتيته، ومن ثَمَّ إيقاظ فيروسات الانقسام والتقسيم وتنشيطها، ليس في العراق فحسب، إنما في المنطقة عامة؛ إذ إن الخلل في الجوار لا يمكن أن يُبقي أيّ بيت بمنأى عن المخاطر، سواء أكانت موجات لاجئين، أم تنظيمات إرهابية، أم تدخُّلات لتحريك الضغائن المذهبية والعرقية.
في هذه الظروف الإقليمية الموبوءة بكل أنماط السياسات غير الأخلاقية وغير الإنسانية؛ انطلقت الحَرَاكاتُ الشعبيةُ باحثةً عن تغيير تستثمره في مستقبلها، لكنها وقعت سريعًا في المستنقعات التي لم تتهيّأ للتعامل معها، واصطدمت بنقص مناعة المجتمعات إزاء الأمراض الكامنة أساسًا في داخلها. وفي اللحظة الحالكة اكتشفت «الأمة» أنها لم تَعُدّ نفسَها لهذه اللحظة التي تُعِيد المنطقةَ مئةَ عام -بل أكثر- إلى الوراء، وإِذِ احتاجتْ إلى منظومة إقليمية عربية قادرة على صَوْن كياناتها والدفاع عنها كافةً، فقد اصطدمت أولًا بحقيقة ضياع عقود عِدَّة في البحث عن «تضامن عربيّ» مستحيل، وثانيًا بواقع الْتِقاء الإستراتيجيات والأجندات الأميركية والإسرائيلية والإيرانية على الاستثمار في الضعف والضياع العربييْنِ. حتى قاعدة «المصالح الدائمة» لا الصداقات، المعروفة في العلاقات بين الدول، لم تستقم بين العرب وأميركا، بدليل ما تشهده حاليًا دول الخليج عامة، والمملكة العربية السعودية خاصة من ابتزازات أميركية، تتعلّق بمتطلبات أَمْنها الإقليميّ. ولولا «عاصفة الحزم» التي) فرملت) التسلُّل الإيرانيّ لمحاصرة المملكة؛ لَكانت واشنطن تعايشت مع الهيمنة الإيرانية بوصفها مُعْطًى يخدم مصالحها.
قد تكون المنطقة العربية مُقبِلة على تغييرات شتّى في خريطتها؛ فالإقليم الكرديّ أَحْدَث الصدعَ الأولَ في العراق، والإقليم الكرديّ المرشَّح لتطوير الصدع الحاصل في سوريا، قد يتخذه النظام وحليفه الإيرانيّ (إضافة إلى القوى الدولية) ركيزةً للتقسيم ولإنشاء أقاليم عِدَّة. ولا يَعْني ذلك أن عمليات التقسيم يمكن أن تَجْرِي بسهولة وسلاسة، بصفقات أو تفاهمات أو حتى قرارات دولية، إنما بإدامة الصراعات مدة زمنية في انتظار أن يبدو الأمر الواقع كأنه علاج مقبول. لأجل ذلك يُستخدَم وباء الإرهاب «الداعشيّ» ضدّ الدول العربية التي ترفض مشاريع التقسيم لتهديدها وإقلاقها؛ إذ إنه يمكن أن تصير اللاحقةَ في مسار التفكيك والتفتيت؛ لذلك كانت الحاجة إلى تعميم الحزم ليصبح نهجًا عربيًّا؛ لأن السكوت والاستكانة لا يُبعِدانِ المخاطرَ، إنما يُفَعّلانها.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق