كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
اليمن.. عشرات الصحف توقفت والصحافيون تشتتوا بين المعتقلات والهجرة والاصطفاف الحربي
يمر الحديث عن الصحافة الورقية في اليمن، بسياقات إجبارية تتعلق بأمرين: صورتها التي كانت في طور التخلّق منذ النصف الأخير لعقد التسعينيات، وما صارت إليه في المشهد المأساوي الراهن. مسار منحشر بين زمنين؛ زمن تجسده صورة غير مكتملة التظهير، وزمن يجسده مشهد انهيار مستمر للمناخ الملائم للعمل الصحفي. هكذا باتت الصحافة الورقية مثيرة لحنين قرائها على قلّتهم في هذا البلد. ذلك أن ما كان متاحًا لهم من إصدارات صحفية يمارسون من خلالها متعة القراءة المتنوعة، تلاشى نهائيًّا. حنين لزمن كانت فيه الصحافة بدأت لتوها التنفس برئتي الألفية الثالثة، وكان المرور على أكشاك الصحف طقسًا يوميًّا يحرصون على أدائه قبل الذهاب إلى العمل، أو حين عودتهم، متأبطين جريدة تحتوي ما يثير اهتمامهم ونقاشهم في جلسات المقيل.
وفقًا للمعايير الصحفية دوليًّا، وعدد الصحف التي تخطت المئة صحيفة في عموم اليمن، لم يكن زمن الصورة غير المكتملة، زمنًا ذهبيًّا لصحافة مزدهرة مهنيًّا. رغم ذلك، قليل من الصحف الأهلية التي ظهرت بعد عام 2005م، حاولت جعله كذلك، عبر تفعيل حق الحصول على المعلومة وكسر نمطية الإعلام الحكومي والحزبي، ورفع نسبة أجور الصحفيين إلى حد ما، وانتهاج خط تحريري مغاير وغير متحيز. غير أن رئتي الألفية الثالثة التي ساعدت الصحافة الورقية على التنفس بشكل أفضل، وإحراز تقدم نسبي في مستوى المهنية والتوزيع والعمل المؤسسي إجمالًا، ساعدت أيضًا في تصاعد حظوة الإعلام الإلكتروني. وشأن جميع وسائل الإعلام في العالم، ازدهرت الشاشة، لكنها لم تقضِ تمامًا على جاذبية الورق.
في زمن الصورة غير مكتملة التظهير، عملت الصحف الورقية على تقليص الهوة التنافسية مع الإعلام الإلكتروني، بحيث تواكب الاستفادة منه تجاريًّا. لكنها استفادة لم تتقدم أبعد من استيعاب أرشيف المادة المنشورة ورقيًّا، ومقتطفات الأخبار العاجلة، وفتح نافذة صغيرة للإعلانات. غير أن مواردها الأساسية ظلت معتمدة على الإعلان الورقي، والمبيعات المعتمدة بدورها على قلة من القراء اعتادوا المرور على المكتبات والأكشاك صباحًا، أو من يصادفون بائعًا متجولًا لشراء صحيفة. أما الاشتراكات السنوية، فلم تكن تذكر ضمن الموارد الأساسية للصحف. ورغم أن هذا الانفتاح على الفضاء الإلكتروني خلق فرص عمل محدودة للصحافيين، فإنها فرص لم تكن مستقرة بحال، إضافة إلى كونها لا تسدّ الاحتياج المعيشي.
انهيار مفاجئ
كان عام 2011م نقطة تحول للصحافة الورقية في اليمن؛ فبعد أن توقفت معظم الصحف بسبب الأزمة الاقتصادية التي رافقت الاضطراب السياسي إبان احتجاجات «الربيع العربي»، ما لبثت أن عاودت الصدور مع بداية مرحلة الانتقال السياسي، الذي حظي بدعم دولي واسع. عدد من الصحف الأسبوعية تحول إلى يوميّ، إضافة إلى صدور صحف يومية جديدة، وصحف أخرى غير منتظمة الصدور أفرزتها ساحات الاعتصام. كان ذلك انتعاشًا مفاجئًا يشبه الإفاقة الحيوية لمريض على وشك التعافي أو لفظ أنفاسه الأخيرة. تكوّن مشهد الانهيار المفاجئ للصحافة بالتزامن مع انزلاق التوتر السياسي نحو الحرب. ومنذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014م، بدأت بعض الصحف بالاحتجاب، وتعرض بعضها للإغلاق، وبخاصة الصحف الحزبية والأهلية المحسوبة على خصوم الحوثيين، ثم تضاعفت المأساة حين اندلعت الحرب الشاملة في مارس 2015م، إذ تكاثرت العراقيل أمام استمرار صدور الصحف، الأهلية على وجه الخصوص. عشرات من هذه الصحف، يومية وأسبوعية، توقفت، في حين تشتت الصحافيون بين البطالة والمعتقلات والهجرة، والاصطفاف الحربي.
يختصر نائف حسان – رئيس تحرير صحيفة «الشارع» اليومية، المشهد المأساوي الراهن للصحافة في اليمن، بوصفه «مخاطرة كبيرة وأمرًا غير مجدي». فالصحف المستمرة في الصدور في صنعاء، «تمثل وجهة نظر سياسية- حزب المؤتمر وجماعة الحوثي». ويضيف حسان: «الحرب أجبرتنا على التوقف عن الصدور، والتوقف عن ممارسة العمل الصحفي، ولا بديل آخر لدينا إلا انتظار توقفها». من زاوية أخرى، يرى محمد عائش- رئيس تحرير صحيفة «الأولى» اليومية، أن «انهيار سوق المبيعات» كان أحد أسباب انهيار الصحافة الورقية. وهو سبب متفرع -حسب عائش- عن سبب رئيس تمثل في «الكلفة المالية الكبيرة التي كان على الصحافة تحملها بفعل الحصار وارتفاع أسعار الوقود والورق بصورة خيالية». إضافة إلى ذلك، فقد «تسببت الحرب بإغلاق مدن وعزل مناطق، وأصبح انتقال الصحف وسط هذا التقطيع لأوصال البلاد متعذرًا، ما تسبب في محدودية الطباعة بحيث لم تعد العائدات كافية للإيفاء بكلفة النفقات». ولا يغفل عائش سببًا رئيسًا آخر تمثل في الأوضاع السياسية والأمنية، التي أفرزت انقسامًا حادًّا لدرجة أن «كل صحيفة لم يعد بإمكانها العمل بشكل مستقلّ» ذلك أن «تصنيف الصحف على هذا المعسكر أو ذاك في ظل هذه الأوضاع، هو مقدمة لأذى قد يلحق الصحيفة والعاملين فيها».
استرسالًا في وصف تأثير حدة الانقسام في العمل الصحفي، يرى عائش أن من يصدر صحيفة من صنعاء «لا يستطيع أن يقدم صحافة حرة بعيدًا من خطاب «التعبئة» لدى الطرف الحاكم… والحال نفسها لدى من يصدر من عدن أو من تعز، فهو لا يستطيع أن يقدم عملًا إعلاميًّا خارج ما تريده الجماعات المتعددة المسيطرة هناك». في تعز، كان فكري قاسم يصدر صحيفته «حديث المدينة» بشكل منتظم قبل عام 2011م، ثم عاد لإصدارها بصورة متقطعة عدة مرات حتى عادت تصدر بانتظام في موعدها الأسبوعي. لكنها توقفت نهائيًّا ضمن التوقف الجماعي للصحف. يقول فكري، الذي اكتفى بالتنويه بأن استمراره في إصدار صحيفته «كان صعبًا جدًّا لأسباب كثيرة»: «من لحظة اندلاع الحرب، قررت الابتعاد عن أجوائها وأكتب عن السلام الذي يحتاجه اليمنيون؛ لكي يتعافوا من الكراهية وتتعافى البلاد. لقد مضيت في خطتي هذه إلى اليوم ككاتب صحفي».
وفي مدينة تعز أيضًا، توقفت الصحيفة الحكومية «الجمهورية» عن الإصدار ورقيًّا بصورة نهائية. ويقول زكريا الكمالي، الذي عمل مديرًا لقسم الأخبار فيها قبل أن يتولى رئاسة تحرير صحيفة «ماتش» الصادرة عن المؤسسة نفسها: «لم نكن نتوقع أن يأتي يوم تتوقف فيه الصحافة الحكومية التي كانت تستمر حتى في الأعياد. منذ عملي في مؤسسة الجمهورية في عام 2005م لم أعرف التوقف عن العمل سوى لثلاثة أيام خلال إجازة عيدي الفطر والأضحى، أما حاليًّا، فنعتمد على خدمة «ماتش موبايل» لإرسال أخبار المباريات ونتائجها فقط».
لم يقتصر مشهد الانهيار المفاجئ للصحافة في اليمن على إغلاق الصحف أو اضطرارها للتوقف عن الإصدار؛ فمئات الصحافيين الذين كانوا يعملون في الصحف الورقية أو مواقعها على الإنترنت، أو في مواقع إلكترونية أخرى، وجدوا أنفسهم في مواجهة بطالة مفتوحة ومزاج عام في أقصى درجات التوتر. لا يتحدث معظم الصحافيين عن البدائل المعيشية التي اضطروا للأخذ بها من أجل البقاء، غير أن الصحافي ريان الشيباني يختزل في السطور التالية، ثقل الركام المتهاوي على الصحافيين إثر فقدان أعمالهم: «تأثرت معيشتي بشكل مطلق، وبخاصة أنني كنت أعتمد بشكل شبه كامل على عملي كمدير تحرير ثانٍ لصحيفة «الأولى» التي توقفت بفعل أزمة المشتقات النفطية، والجو العام الذي شحنته الحرب». ويتابع ريان بمرارة: «فقدت مصدر رزقي، وأصبحت عاطلًا لأكثر من عام. ثمّ انتقلت للعمل في منظمة حقوقية، بمبادرة شخصية من بعض الأصدقاء».
آمال متفاوتة بالانبعاث
رغم أن الأوضاع الراهنة تلقي بظلال شديدة القتامة على توقعات عودة الصحافة الورقية في اليمن على المدى القريب، فإن كثيرًا من الصحافيين لم يفقدوا الأمل بالعودة، حتى مع فارق سقف التوقعات. يؤكد نائف حسان أن استئناف الإصدار بالنسبة لصحيفته، مرهون بزوال أسباب التوقف. وفي حين يؤكد تمسكه بمستوى «الاستقلالية والمهنية والمصداقية»، الذي كان ملتزمًا به قبل التوقف، يؤكد أيضًا على ضرورة «تحسين الجودة»، ويرى أن عودة الصحافة الورقية وتعافيها مجددًا، «يعتمد على الصحافيين وطريقة ممارستهم لمهنتهم». في السياق ذاته، يتوقع محمد عائش، بدرجة تفاؤل عالية «أن تعود الصحافة المطبوعة إلى حالها من الحيوية والازدهار وربما أفضل». في حين يربط فكري قاسم توقعه لمستوى انتشار أي مطبوعة مستقبلًا، بقربها من ضحايا الحرب. وبنظرة ملامسة لواقع ما كانت عليه الصحافة اليمنية وما صارت إليه، يشير زكريا الكمالي إلى عاملين أساسين يرجحان أن تَلْقَى الصحافة الورقية صعوبات كبيرة في استئناف عملها؛ هما المبيعات والإعلانات. فالمبيعات التي لم تكن مزدهرة بالمستوى المطلوب في الماضي، لن تنتعش بسهولة مستقبلًا، ولن يعود الإعلان التجاري مثلما كان في الظروف الطبيعية أيضًا، وذلك «بسبب هجرة رؤوس الأموال وتضرر البيوت التجارية».
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق