كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
عن «التاريخ الفكري لليبرالية»
قبل سنوات وفي أقصى جنوب البرتغال قابلت زوجين من السويد يقضيان إجازتهما بعيدًا عن صقيع الشمال الأوربي، تحدثنا طويلًا، ولمست منهما تعاطفًا هائلًا مع القضية الفلسطينية، وما لفتني أكثر هو تأكيدهما غير مرة أنهما أميَل إلى اليسار وليسا ليبراليين، وهكذا في كل موقف يعلنانه من أي أمر تأكيد على أنهما ضد الليبرالية.. رغم أن الحديث عن الليبرالية لم يكن موضوعنا من قريب أو بعيد، وقبل أيام دفع المرشح الجمهوري عن ولاية مونتانا الأميركية غريغ جيانفورتي صحافيًّا من الغارديان، وأسقطه أرضًا، وزجره واصفًا إياه «بممثل الإعلام الليبرالي».. هذان مشهدان عفويان أُورِدهما لتناول الصورة الذهنية لليبرالية في الغرب، وكيف أن كل تيار يميني أو يساري يراها بطريقته الخاصة، وهكذا كل فلسفة سياسية تخضع لتأويلات من خارجها ومن داخلها قد لا تتطابق بالضرورة مع نظريتها الأولى، فحرص السويدييْنِ على نفي الليبرالية عن مبادئهما المتعاطفة مع حق الشعب الفلسطيني لا يدعمه واقع أن البرلمانات الأوربية التي اعترفت بدولة فلسطين والحركات الجامعية والأكاديمية التي تُقاطِع إسرائيل هي في معظمها محاضن ليبرالية، على أن هذا لا ينفي دور اليسار الأوربي المتحمس لحقوق الشعوب والمهاجرين لكن هذا موضوع آخر. أما وصف المرشح اليميني للصحافي بالليبرالي فلعله محقّ؛ فالإعلام الليبرالي في الولايات المتحدة الأميركية يشكل اليوم جبهة ضد ترمب وضد اليمين خلفه.
ويدور عربيًّا جدال واسع النطاق بين أنصار الليبرالية وخصومهم من التيارات الأخرى -الإسلامية منها بوجه خاص- تستعمل فيه كل الأسلحة البلاغية الممكنة، وما يعنيني هنا منها هو سلاح المفاهيم وانصراف بعض أطراف المعارك من التيارات كلها للتصدي لتاريخ الليبرالية ومفهومها وتعريفها، ويتحول كثير من هذا الخلاف الفكري، وفي الساحة السعودية منه أعاجيب كثيرة؛ إلى مبارزة تجد فيها سلاح الطرفين مثلومًا، مؤيدًا ومعارضًا، فيما تؤكد تجارب الدول أن تمثُّل المذاهب السياسية على الأرض أهم كثيرًا من فلسفة النظرية وتاريخها، فلا يذهب الظن أن ميركل وماكرون وماي في اجتماعات الاتحاد الأوربي ينشغلون بتعريف الليبرالية وفروقاته بين جون لوك وجان جاك روسو، غير أنهم جميعًا منهمكون بالتزام نتائج هذه الفلسفة وتطبيقها تأكيدًا لحق الفرد في الملكية والحرية.
المذاهب الكبرى كالليبرالية تكوّنت على مدى قرون من الزمن، كلٌّ يضع فيها من روحه شيئًا، فلا يضر إن اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف الأسمى منها وهو تحرير الفرد متحققًا، فإن قلت: هي فلسفة الحرية، أو هي حق الفرد في الملكية، أو هي الفصل بين السلطات، أو هي المساواة؛ فأنت في الاتجاه الصحيح. وهكذا الفلسفات الكبرى لكل مفكر في العصور الأوربية فيها ضربة إزميل وزاوية نظر. وأن يحتدم السجال حول مفهوم الليبرالية في مجتمعات لم تخلقها ولم تستنبتها ولا تتوافر فيها مقوماتها؛ هو أمر مخالف للطبيعة وللعقل، إن معارك الليبراليين في المجتمعات الغربية اليوم تجاوزت الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الأقليات ومشاركة المرأة في المواقع السياسية والعسكرية؛ إلى قلب مؤسسة الزواج رأسًا على عقب، وحق الإجهاض، وفتح الباب أمام المهاجرين وحقوقهم، وبمقارنتها مع مادة الجدل الليبرالي في عالمنا تتضح المفارقة.
والحال أن معظم المذاهب الفكرية والفلسفات السياسية التي نشأت في أوربا وتطورت خلال قرون، وألّف فيها مفكرون وفلاسفة من القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن العشرين؛ هي أفكار انبعثت وتكوّنت لخدمة مجتمعات محلية، فمشكلاتها كانت أوربية وعلاجها كان أوربيًّا. كارل ماركس كان يسعى للانتصار لطبقة العمال، وتوماس هوبز كان يحارب سيطرة الكنيسة واللاهوت. وهي قضايا لم تكن من أولويات الشعوب غير الأوربية، وكان أن انتصر بعض هذه النظريات وصار عالميًّا، ومنها الليبرالية، وصارت تطبيقاتها صالحة للاستيراد إذا ما جرى توطينها، فمثلًا شيوعية الصين غيرها في كوريا الشمالية غيرها في كوبا، حتى الليبرالية الغربية وطّنت النظرية بما يناسبها وطعّمتها بما سمَّته اشتراكية ديمقراطية، فأنظمة الحكومات الأوربية في المجال الصحي والتعليمي اشتراكية لا علاقة لها بالليبرالية والسوق الحرة، على أنها تتيح انسجامًا مع ليبراليتها حرية الأفراد في الاستثمار في هذين القطاعين، وتبقى الولايات المتحدة وحدها ليبرالية جدًّا أو نيو ليبرالية في هذين القطاعين؛ بسبب حساسية مؤسساتها التشريعية من أي ملمح شيوعي مرعب.
ويعد كتاب أستاذ الفلسفة السياسية الفرنسي بيير مانيه (التاريخ الفكري لليبرالية) من الكتب التأسيسية في تاريخ هذه النظرية، وقد نقله إلى العربية الدكتور هاشم صالح، ويصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والكتاب يمثل إطلالة موجزة على التاريخ الأوربي عبر سياحة فكرية في عقول ثمانية فلاسفة أوربيين ينسب إليهم مانيه تأسيس الفكرة الليبرالية، وهو يرى أن مبعثها الأول كان في أطروحات مكيافيلي في كتابه (الأمير) في القرن السادس عشر، ويختتمها بعالِم الاجتماع الفرنسي توكفيل المتوفى في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنها دورة فكرية استغرقت ثلاثة قرون، وإن كان يعود بالقارئ أيضًا إلى أرسطو والمدينة الرومانية القديمة. لقد كان هاجس مانيه العودة إلى أيام سيطرة الكنيسة المطلقة وصولًا إلى نشوء الحركة المضادة لتدخل الكنيسة الأخروية في شؤون الدنيا وانبعاث أول المبادئ العلمانية.
ومما يميز المؤلِّف فضلًا عن عباراته الموجزة وأفكاره المكثفة وميله إلى التكرار لشرح القضايا المعقدة؛ أنه يأخذ موقفًا حياديًّا ونقديًّا في أحيان كثيرة، فتوصيفه للمجتمع الذي تحكمه الليبرالية شديد الدقة، هو يرى علاقة الأفراد داخل المجتمع الليبرالي أشبه ما تكون بالكونفدرالية، وذلك عكس ما تشاهده في مجتمع له رأي واحد شديد التجانس في الأنظمة الشمولية، سواء كان ذلك طوعًا أم كرهًا.
ويلحظ مانيه الأصول الإنجيلية في قيم الحرية والمساواة داخل الليبرالية رغم حربها الأولى على المسيحية، جازمًا بأن الليبرالية لن تصبح ماضيًا؛ لأنها قابلة للتعديل والتجديد، ولأنها تحمل بذور نقدها ونقضها في داخلها، فكل ما تجزم به الليبرالية قابل للشك؛ لأن النظرية الأولى هي آراء بشرية خاصة، والأساس فيها عدم يقينية الآراء، وهو ما يجعلها مستعدة دائمًا لنقض نفسها إذا دعت الحاجة.
لافت كيف أن الليبرالية وهي أساس الحضارة الغربية المحسودة اليوم من قوانين ومساواة وحريات وفصل بين السلطات؛ إنما هي صناعة نقادها وخصومها قبل بُناتها وفلاسفتها. وعلى حد توصيف مانيه نفسه فإن جان جاك روسو هو أحد خصوم الليبرالية وأكبر فلاسفتها في آنٍ واحد، وهو ما يجعلها تبدو اليوم خيارًا مفضَّلًا لإدارة الدول، فالنظام العالمي المعاصر ينبني على هذه السلطات الثلاث التي اخترعتها الليبرالية ونظّمت العلاقة بينها، ثم وضعت حكم القانون ونظام الانتخابات ليحرك الدولة بدينامية مستمرة.
واللافت أكثر أن الدول التي كانت تعادي المعسكر الليبرالي الغربي طبَّقت هذه المبادئ صوريًّا وأفرغتها من مضمونها: سلطات ثلاث لا قيمة حقيقية لها، وانتخابات معروفة النتائج لا تسهم إلا في ترسيخ الواقع، وقانون يبقى في مكانه الملائم من المكتبة.
هذا ما قدمته الليبرالية للعالم بوصفها خلاصة ما توصلت له الحضارة الغربية اليوم، وعلى بقية المجتمعات أن تقدم حلولها، وأن تنتج ما يليق بها من أنظمة. وهناك في منطقتنا أفكار يمكن البناء عليها، وتأمل عواقبها: ولاية الفقيه، البعث وحدة حرية اشتراكية، وطبعًا كل ما ورد في النظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق