كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
برتولوتشي.. تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أخَّاذة – أمين صالح
استقبل النقاد الفرنسيون أفلام المخرج السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي الأولى بحفاوة بالغة، ربما أكثر من النقاد الإيطاليين. لقد وجدوا في أعماله أصداءً من الموجة الفرنسية الجديدة، وذلك عبر توظيفه لكاميرا قلقة، غير مستقرة، ومواقع خارجية نابضة بالحياة، وقصص شخصية بسيطة، وجماليات بصرية تتناغم مع المضامين الثورية.
الأساس الأدبي لأعمال برتولوتشي ينشأ من بداياته كشاعر. صرَّح مرةً بأنه كان على وشك أن يتوجه إلى كتابة الرواية، لكنه بدلًا من ذلك اختار السينما، محاولًا أن يحافظ على الحرية ذاتها التي كان يمكن أن يتمتع بها لو كتب روايات. اهتماماته الأساسية هي بالأمكنة، وبالمساحات التي ضمنها «يكتب» المشاهد في أشكال تلقائية، وبالإضاءة التي تساعده في خلق تلك الأشكال، وبتفاعل الشخصيات ضمن تلك الأمكنة أو المساحات.
في أفلامه، يوحِّد برتولوتشي الوعي السياسي والأسلوب المغوي بصريًّا، المتقن والمدروس من أجل إدهاش المتفرج.
أسلوبه السينمائي يتميَّز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا الرشيقة، المتموجة، المديدة. الكاميرا غالبًا ما تكون في حركة مستمرة، وذات حضور متواصل، لا يهدأ. إضافة إلى استخدامه التعبيري للألوان، وأسلوبه السردي الذي يتلاعب بالزمن في سبيل خلق حاضر شبيه بالحلم. ولد برناردو برتولوتشي في 16 مارس 1940م، في مدينة بارما بإيطاليا. مارس كتابة الشعر منذ صباه. وقد ازداد ولعًا بالسينما مع انتقاله إلى روما واستقراره فيها أواخر الخمسينيات. وسعى إلى الانخراط عمليًّا في هذا العالم الذي سحره، وبحصوله على كاميرا 16 ملي، راح يصوِّر أفلامه القصيرة. أول فلم له كان بعنوان: «موت خنزير» وهو صامت.
مساعد مخرج لبازوليني
كان في العشرين من عمره عندما سنحت له فرصة العمل كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفلامه: أكاتونه Acatone (1961م).. عن هذه التجربة يقول: «كانت المرة الأولى التي أدخل فيها موقعًا للتصوير. قلت لبازوليني: أنا لم أعمل في السينما من قبل، فكيف يمكنني أن أساعدك؟» رد قائلًا: «أنا أيضًا. إنها المرة الأولى لكلينا». كلاهما كان يتعامل مع السينما للمرة الأولى.. بلا خبرة ولا تجربة. بعد أن نجح الفلم، عرض أحد المنتجين على برتولوتشي ثلاث صفحات كتبها بازوليني ولم يكملها، وطلب منه أن يحوِّل هذه الصفحات إلى سيناريو كامل.. «كان من المقرَّر أن ينجِز الفلم مخرج آخر، لكن حين قرأ المنتج السيناريو الذي كتبته، طلب مني أن أخرجه بنفسي.. كان ذلك أول أفلامي: الحاصد المتجهم (1962م)».
العنوان يشير إلى الموت. من خلال هذا الفلم يوطد برتولوتشي هويته: أسلوبيًّا وشخصيًّا.. إنه يقدِّم لغةً سينمائية مصقولة وأسلوبًا بصريًّا ديناميكيًّا يجعله يتصل بالسينما الحديثة العالمية. الفلم جوهريًّا قصيدة انطباعية عن روما كما يراها فتيان البروليتاريا الرثة، الذين يستمتعون بالحياة رغم فقرهم وافتقارهم إلى الرؤية الواضحة. ظاهريًّا، تبدو القصة بوليسية إثارية: جريمة قتل مومس، في منتصف العمر، حدثت ليلًا في المتنزه، والتحريات التي تُجرَى للكشف عن القاتل، واستجواب عدد كبير من المشتبه بهم الذين يروون قصصهم مع اهتمام دقيق بالتفاصيل. كبناء درامي، الفلم قريب من فلم كوروساوا «راشومون»، حيث عبر سلسلة من الفلاش باك، التي تعبِّر عن وجهات نظر مختلفة، ومتباينة، بعضها حقيقيّ وبعضها زائف (أحيانًا يقول الشاهد شيئًا في حين نرى، عبر الفلاش باك، شيئًا يناقض ما يقوله)، نتابع تحركات عدد من المشتبه بهم وقت حدوث الجريمة. كل شهادة، في تحريات الشرطة، تصبح عنصرًا في لوحة عريضة. هنا ثمة توازن بين الحساسية تجاه القضايا الاجتماعية والثراء البصري.
هنا، وكما في أفلامه اللاحقة، يؤكد برتولوتشي على فكرة تدفق الزمن، وهي الفكرة التي تستحوذ عليه، ويقول عنها: «هذه الفكرة، الإحساس بمرور الزمن، هي بسيطة جدًّا. لكن الفكرة ذاتها هي أساس أو منطلق الكثير من الشعر». الفلم استُقبل بردود أفعال متضاربة. ولم ينجح تجاريًّا؛ لذلك بقي برتولوتشي عاطلًا عن العمل نحو سنتين. حين شرع في إخراج «قبل الثورة» (1964م)، يقول برتولوتشي: «عنوان فلمي -قبل الثورة- يتصل بالتضمين المقتبس من تاليران في بداية الفلم.. (أولئك الذين عاشوا قبل الثورة، وحدهم يعرفون مدى عذوبة الحياة). الفلم هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية، كان عملية تطهّر.. محاولة لتخليص نفسي من مخاوفي الخاصة». البطل، فابريزيو، يعجز عن الانفصال عن روابطه العائلية التقليدية؛ بسبب تربيته الاجتماعية والثقافية. إنها قصة نضال خاسر. هنا يحلِّل برتولوتشي لا جدوى معتقداته السياسية الثورية، محوِّلًا المفاهيم المعقدة بشأن الهوية الطبقية إلى دراما شخصية أخاذة. ومع أن الفلم يستعير موقع الأحداث (في بارما) وأسماء الشخصيات وبعض العناصر السردية من رواية ستندال، الصادرة عام 1838م، فإن التفاصيل مختلفة تمامًا.
الوقوع تحت سحر الأيديولوجيا
الفلم عبارة عن صورة ذاتية لشاب شديد الحساسية، يُدعَى فابريزيو، يقع تحت سحر الأيديولوجية الماركسية، فيقوم بمحاولة، فاترة وتعوزها الحماسة، لرجّ خلفيته البورجوازية. إنه الشاب الممزَّق بين رفاهية حياته وتوقه إلى التحرر منها، بين الراديكالية والنزوع المحافظ، بين العلاقة العاطفية المحرَّمة وضرورة ارتباطه بالمرشحة لأن تكون زوجته. إن حالة التردُّد لديه ظاهرة ناشئة عن محيطه التاريخي، والتأثير المتنامي لليسار الإيطالي، وعن الخوف من الثورة.. هذا الخوف المطمور عميقًا في البورجوازية الأوربية. في هذا الفلم استخدم برتولوتشي التقنيات والعناصر الأسلوبية التي كانت تميِّز حقبة الستينيات، مع بحث السينمائيين آنذاك عن لغة جديدة، وتجديد السرد السينمائي، وابتكار تكوينات مغايرة.
وقد رحَّب النقاد بالفلم، ووصفوه بالإنجاز المهمّ والبارز للسينما الإيطالية الجديدة، كما حاز جوائز، لكنه أخفق تجاريًّا. بعد هذا الفلم كان على برتولوتشي أن ينتظر أربع سنوات (خلالها أخرج فلمًا وثائقيًّا عن البترول من ثلاثة أجزاء لصالح التلفزيون الإيطالي (1964م)، وأخرج فلمًا قصيرًا بعنوان: «ألم» (1967م) كجزء من فلم «حب وغضب». كما ساهم في كتابة سيناريو «حدث ذات مرة في الغرب» لسرجيو ليوني.. وذلك قبل أن يحقِّق فلمه التالي «الشريك» (1968م). وهو معد بتصرُّف عن قصة دوستويفسكي «البديل».
بيير كليمنت يؤدي دورين لشخصية مزدوجة أو فصامية.. المدرِّس في معهد الدراما، وهو متردد وحائر في عالم من الضغوطات المادية والفوارق الاجتماعية التي تحيله إلى حالة من السلوك العقيم. إنه حذر، غير واثق من نفسه.. سياسيًّا وجنسيًّا. بينما الآخر، الجانب الراديكالي العنيف، هو رجل فعل يحرِّض الطلاب على الثورة.. فنيًّا واجتماعيًّا. فيما الاثنان يتمازجان، تتضبب الأحداث وتزداد غموضًا، والفلم يصبح رحلة نحو عالم السوريال (ما فوق الواقع).
الفلم صعب واستفزازي، يكون مفهومًا على نحو أفضل بوصفه نتاج حلم. الفلم يتّخذ مساره المتعرّج، الملتوي، بدون قواعد سردية قابلة للتمييز، قافزًا من مشهد صعب ومبهم إلى آخر مماثل في الصعوبة. الانتقالات مفاجئة بين مشاهد حلمية، غير مترابطة، لا تلتزم بنظام منطقي، ومن غير أي إحساس بالتماسك والتلاحم. السرد هنا يخضع للتكثيف والتشظي. يقول برتولوتشي: «الفلم حلم، والمخرج هو الحالم. كل شخصيات الحلم تعكس أو تعبّر عن ذات الحالم». إنه أول أفلام برتولوتشي بالألوان والسينما سكوب. يتميّز بصريًّا بالقوة وبالتلاعب بالضوء والظل، وتوظيف الصوت بشكل مغاير، مع حركات كاميرا متقنة لكن مسرفة. موضوعه –رغم حيويته– بدا مراوغًا وغامضًا، والانتقال من الشخصية إلى البديل بدا مربكًا.
التغريب البريشتي
عن فلمه هذا يقول برتولوتشي:«هو فلمي الملعون. ربما جاء مبكرًا جدًّا، ربما جاء متأخرًا جدًّا، لا أدري. الفلم لم ينجح جماهيريًّا. القليلون أعجبوا به، وقد جعلني أعاني الكثير. ربما لم أكن أفهم نفسي. إن فكرة التغريب البريشتي، التي يتبناها الفلم ويحاول أن يفرضها، هي ملتبسة وغير حاسمة على المستوى الثقافي بسبب القراءة السيئة لبريشت». فلمه التالي كان «خدعة العنكبوت» (1970م) المبني على قصة قصيرة كتبها خورخي لويس بورخيس بعنوان: «موضوع عن الخائن والبطل»، تدور في أيرلندا عام 1824م، ويمكن أن تدور –كما قال بورخيس– في «أي بلاد مقموعة». برتولوتشي جعل الأحداث تدور في بلدة صغيرة. بنية الفلم تستدعي درجة كبيرة من التماهي أو التطابق مع الشخصية الرئيسة، الشاب الذي يعود إلى بلدته، ويتحرى جريمة قتل أبيه قبل ثلاثين سنة الذي ربما قتله الفاشيون كما يشاع، أو قد يكون خائنًا للقضية المضادة للفاشية فقتله زملاؤه في المقاومة، وحتى تتكشف الحقيقة يظل الأب الراحل في موضع التوقير والتبجيل عند أهالي البلدة بوصفه بطلًا وشهيدًا معاديًا للفاشيين؛ لذلك فإن الغموض الذي يحيط بتفاصيل موته من الصعب، بل من الخطورة، اختراقه.
في النهاية تتضح له الحقيقة؛ إذ يكتشف أن أباه، في الواقع، قد خان رفاقه والقضية –في لحظة ضعف- وأفشى بالمؤامرة المخطط لها لاغتيال الزعيم موسوليني عام 1936م، في أثناء زيارته للبلدة. هذا ما يعترف به رفاق أبيه المتقدمون في السن، حين التقاهم في دار الأوبرا، كما يذكرون له عن الاتفاق الذي عقده أبوه معهم؛ أن ينال عقابه على خيانته لكن من دون تلويث القضية وإفقادها نقاءها وبريقها أمام المؤمنين بها، أي أن يُعدَم جزاء فعلته لكن من دون إفشاء السبب، بل يجب أن يبدو الأمر كما لو أن الفاشيين هم الذين قاموا باغتياله. وهم لسنوات طويلة أخفوا الحقيقة؛ ليبقى أبوه بطلًا شهيدًا في نظر أهالي البلدة. في النهاية، حين عرف الابن الحقيقة، كان عليه أن يختار بين كشف الحقيقة أو إخفائها. في الفلم كما في القصة، الابن لا يفشي السر، لا يكشف الحقيقة لأحد.. ربما لأن صورة الأب تظل قوية ومهيمنة إلى درجة تجعله يعجز عن كشف حقيقتها، عن تحطيمها، عن التحرّر منها. الابن يهمّ بمغادرة البلدة، بالهرب من الأب، من الماضي المفترس، من القدر. يذهب إلى محطة القطار نفسها التي وصل إليها في بداية الفلم، لكن يسمع من يعلن عن تأخر القطار لمدة 40 دقيقة، ثم لمدة ساعتين، ثم يخبره مدير المحطة: «أحيانًا ينسوننا تمامًا».
بينما يسير الشاب في موازاة خط السكة الحديدية، مع حركة كاميرا مصاحبة على طول القضبان، يكتشف أن السكة، عند موضع ما تصير مطمورة في الأرض تحت شجيرات نامية، ومكسوَّة بالأعشاب، دلالة على أن أي قطار لم يمر على هذه السكة منذ زمن طويل، ولن يمرّ أي قطار على الإطلاق. إنها إشارة ضمنية إلى أن الماضي استطاع أخيرًا أن يغمر الحاضر، أو ربما هو مجاز بصريّ لثيمة الفلم: حجب أي أثر للماضي، وللتعبير عن شرَك الزمن. على أية حال، هو يجد نفسه عالقًا في شبكة العنكبوت، عارفًا أن ليس بإمكانه أبدًا مغادرة البلدة. إنه ينصهر تدريجيًّا مع الماضي، مع أبيه، في كينونة واحدة. في هذه النهاية، التي تشكِّل صدمة شديدة للبطل وللمتفرج على حد سواء، تختلط الحقيقة بالوهم، الصدق بالزيف.
بعد إخفاق أفلامه السابقة، على الصعيد التجاري، حاول برتولوتشي أن يغيِّر طريقته في صنع الفلم متبنيًا أسلوب سرد مختلف قادر على أن يصل إلى الجمهور العريض. يقول برتولوتشي: «مع فلم خدعة العنكبوت بدأت في قبول فكرة الجمهور، بدأت باتصالي بالجمهور، هذا الاتصال الذي كان مفقودًا في السابق».
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق