كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حين تكتب المرأة.. عن الكتابة وإشكالاتها
تشبه الكتابة حروبًا صغيرة يخوضها المرء، حروبًا مع – وعلى أكثر من جبهة، وبهذا «مياه كثيرة جرت تحت الجسر» من دون أن يشعر بها كثيرون، وفي كل مرة كنت أعود بخسائر أكثر أو بربح أقل، لكن من دون أن أعود كما كنت في السابق، أنت لست نفسك قبل قليل، ولن تملك القدرة على استردادها بلا زيادة أو نقصان، قبل أن يحدث ما حدث!
على مستوى الفكرة، اللغة، القص بمفهومه الحديث ليس من شيء أمام الكاتب سوى الفكرة، فالحب فكرة والحرب فكرة والوطن فكرة، مشكلة الكاتب الأولى هي مع الفكرة والفكرة هي التي تقود للإنتاج، إنتاج الأفكار، بمعنى أن أفكارنا ليست سوى القدرة على تنشئة علاقات مع الأشياء وبما نشكله عن هذه الأشياء من تداخلات وعلائق وأضداد وتصورات تقود للوهم والشك أو العزلة أو الأمل أو اليقين وصولًا للكتابة عبر اللغة.
أما عن المعارك الأخرى التي أسميها «الداخلية»، سأتحدث عن تجربة وعمر وخيبات، عن حروب وقعت، وعن حروب ستقع، وعن هزائم صغيرة وأخرى كبيرة لا تغتفر، عن الحب والخذلان في الحب والحرب أو الثورات بمعنى أدق، نحن الذين خذلنا بالثورات وبالحب، وعن حيوات كثيرة مرت بي ومررت بها، بعضها غادر إلى غير رجعة وبعضها لا يزال يطبع آثاره فوق روحي، عن حيواتي أنا المرأة التي لا تزال تعيش الحلم وترنو لأفق آخر لا تغيب شمسه إلا لتطلع صباح اليوم التالي أكثر إشراقًا.
توقفت متشككة ومراجعة ومتسائلة لعل أبرز هذه المحطات هي محطة الذات، وهي من أصعب المحطات! ذات المرأة الكاتبة، علاقة الذات بذاتها، علاقتها مع الآخر، ومع العالم، علاقتها مع الكتابة، أسئلة الكتابة وما هي الجدوى المتأتية من ورائها؟ ومن هو الكاتب أو المثقف؟ أسئلة كهذه، وغيرها كثير، استوقفتني كثيرًا، متسائلة متشككة ومتفحصة، إلى أن غيرت لديّ كثيرًا من اتجاهاتي بالقراءة والكتابة وبالدور المنوط بي، ففي الوقت الذي كنت أراني فوق الآخرين، والناس العاديين كذات حتى بين أسرتي الصغيرة، وهذا التفكير المتأتي من كوني كاتبة، وأتميز منهم ولا أشبههم، اكتشفت أنني بهذا التفكير الساذج والمتوارث عن مفهوم الكاتب والشائع عند الكتاب والكاتبات بالعموم، في الحقيقية لا أختلف عنهم بشيء فأن تكون كاتبًا هذا ليس امتيازًا بشيء، فالكتابة مهنة أو حرفة لا تختلف عن أي حرفة أخرى كالزراعة أو الهندسة أو بائع الخضار، إلا بمقدار ما تقدمه من طرائق تفكير مختلفة، وما تقترحه من جماليات! قناعات عديدة أزحتها من رأسي لعل أهمها: إعادة تشكيل ذاتي ككاتبة عبر تغيير كثير من التصورات والقناعات الجديدة في ضوء الراهن المعيش من دون إغفال للمتغيرات والأحداث التي تجري أمامي. وما هي مكانتي، ومهمتي ومفاهيمي للحرية والعدالة والحقيقة.
مثالية مفرطة
انزياح فكرة أن الكاتب حارس للأفكار وللقيم وللحرية وهو صوت الضمير، أو المثالية المفرطة بمثاليتها، وهو الناطق الوحيد باسم الحقيقة أو مناوأة السلطة، أية سلطة كانت! وهنا بماذا يختلف الكاتب عن الواعظ أو إمام الجامع أو كاهن الكنيسة؟ الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له ألّا يتوقف عن طرح الأسئلة على نفسه أولًا: لماذا تزداد الأمور سوءًا أمام التحولات التي تحدث في عالمنا العربي تحديدًا؟ وما الذي يحدث أصلًا؟ ولماذا لا دور لي أو تساؤلات أو نقاشات فيما يحدث من متغيرات تكاد تعصف بكل ما في طريقها؟! لا بد لي ككاتبة من التوقف طويلًا أمام المقولات المتحجرة والجاهزة، والمناهج التعليمية القاصرة عن مواكبة هذا العصر ومتغيراته، وأمام الثنائيات العقيمة التي تقسم المقسوم إلى أجزاء صغيرة متناثرة أمام أعيننا؛ لأننا إذا لم نفهم ما يحدث فلن يكون لنا من دور بصناعة الحدث وبالتالي المشاركة في نتائجة!
على المثقف الكاتب إعادة ترتيب «علاقته بالأفكار لنسج علاقات جديدة مع الواقع» الواقع المتغير بكل شيء من خلال شبكة جديدة من المفاهيم، وعليه صياغة أفكاره ثانية في ضوء ما يحدث وفي خضم التجربة، هذا هو التحدي الذي على الكاتب أن يتوقف أمامه طويلًا.
هنا فقط يستطيع أن ينتج نصًّا مغايرًا، يملك وقائعيته وامتداده؛ إذ إن الأفكار ليست سوى علاقته بالواقع والحقيقة، حينها سيكون فاعلًا في مجتمعه تمامًا مثل أية فعالية أخرى يمتهنها رجال الأعمال والمهندسين والمزارعين وغيرهم، وسيكون ابن عصره وزمنه عند توقفه عن تلقي الأحداث بمنطق الصدمة والمؤامرة، وسيكون فاعلًا واعيًا بدوره في المدى الإنساني برمته. فأنت لا تذهب للمعركة من دون استعداد!
الكتابة هي ميدان الكاتب وهي تجربة تشتبك بها المعرفة والسلطة، سلطة المعرفة، والعشق والمحبة، والأمل والصراع، والتواصل والقطيعة، والتعمية والاستنارة أو الرؤية. هذا باعتقادي هو الدور المنوط بالكاتب وإلا سيكون مثل كاتب تقرير أو مؤرخ أو مدوِّن اجتماعي أو أي مهنة أخرى غير مهنة الكاتب!
والكاتب بطبعة كائن متيقظ، بعينين متفتحتين على الأشياء، المرئية وغير المرئية وبما يحيط به، وما يمر من أحداث ووقائع حوله وبالعالم، وهو بطبعه شخص يتمتع بذكاء حاد وبمكر فائق، ويقتنص كثيرًا من الأحداث الكبيرة أو الصغيرة من أجل كتابة نص، في الوقت الذي يبحث فيه عن غيره.
كثيرًا ما أجدني ومن غير تخطيط وبلا قصد أو سابق إصرار أمام ما يستفزني للكتابة، وأكاد أصرخ: أجل، وجدتها، غير أني ألوذ بالصمت بمكر ودهاء كبيرين، وأستدرج من حولي وأوقعه بشباكي اللغوية ببطء، لأكتبه فيما بعد، وأنا أبتسم في سري، وأحيانًا كثيرة أضبط «الضحية» على غير توقعه، وأقوده من يده نحو ما أعتقد أنه سينقاد إليه معي أو من دوني لكن ظهوري المفاجئ ساعده من حيث لا يدري للوقوع بسهولة متناهية بما أدركت أنه واقع به لا محالة.
وليس مهمًّا أن يكون رجلًا أو امرأة، قد يكون شيئًا، أو حدثًا، أو حالة أو رائحة، هذا كله يقودني لتتبع الأثر وسبر أغواره والكتابة عنه لاحقًا. وكثيرًا ما تجيء أحداث قصصي ومجرياتها من هناك، من ذلك الركن المعتم، من ملامح ذاك الرجل التي تنطق بما هو مخبوء ولا يجرؤ على البوح به لأحد، من هذا الرجل الذي يكتنفه الغموض، من تلك المرأة التي وهي ترسم ابتسامة عريضة على وجهها فتتكشف هذه الابتسامة عن حزن يطلع بالرغم من هذا كله. لكن لا أعرف ما الذي يحدث أثناء الكتابة، بمعنى لا بد لي من إدخال تغيرات طفيفة أو كبيرة على المشهد أو الحالة بوعي أو من دون وعي، أي الحالة التي قادتني للكتابة، لا أستطيع أن أكتب من دون أن أكذب، ثمة انزياحات تحدث على المتن، بمعنى اختلافات جرت على المشهد أثناء كتابته أي أنني أستند لحدث جوهره حقيقي، لكن ما يحدث بعد ذلك هو ما تأخذني الكتابة أو الحالة إليه من تأويلات أو انزياحات أو أحداث جديدة طرأت على الشخصية، الشخوص، أثناء عملية الكتابة من دون أن يكون الأمر بيدي، وكثيرًا ما توقفت أمام نصي عند اكتماله وأتفاجأ تمامًا كقارئة أن الشخصية خرجت على ما كنت أودّ لها أن تذهب إليه، ولا أعرف كيف حدث هذا أو متى خرجت الأمور عن سيطرتي كذات كاتبة!
عن مفهوم الحرية لدى الكاتب الكاتبة
لا تقتصر الحرية بمفهومها الواسع على حرية الرأي والتعبير عنه، أو مناوأة السلطة بغض النظر عن مدى شرعية هذه السلطة أو طغيانها، أو التآلف معها.. أنت لا تستطيع أن تقدم مفهومًا حديثًا للحرية من دون أن يكون لديك كذات موقف ورؤية لهذه الحرية، ومن دون أن تكون حرًّا من الداخل، وأن تكون حرًّا من الداخل يعني أن تمتلك مفهومًا لهذه الحرية وعلاقتك بها وتصورك لهذه الحرية المنشودة أو التي تحلم بها.
أنت لن تكون حرًّا بفكر أيديولوجي مهما كان هذا الفكر الذي يقف وراءه. الإيمان بحرية الآخر – وكل ما عداي هو آخر – حرية نزع الرقيب الذي يسكن داخلك منذ الطفولة، قبل ذاك الذي يقف بانتظارك خارجًا. مدى تقبلك للاختلاف والتمايز، والجهر بالحقيقة، حتى الحقيقة من يمتلك جوهرها الخالص؟
الحرية تعني أن تقف أمام المقولات والأفكار والقيم الجديدة موقفًا نقديًّا متسائلًا عن مدى الضرر الذي تلحقه بنا أفرادًا وجماعات، ذكورًا وإناثًا. وصولًا لمجتمعات إنسانية معاصرة تجهد أن يكون لها موقع بين الأمم، ومن دون هذا ستكون حريتنا – أو تصورنا عن الحرية- ناقصة وفي حاجة لدرس طويل من تغيير بالسلوك والمفاهيم المكرسة والعادات المكتسبة، والقيم الهجينة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق