كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أي غموض يكتنف تاريخ جدة القديم؟
الغموض الذي يكتنف تاريخ جدة القديم سببه قلة الباحثين وقلة الأبحاث التي تتناول تاريخ جدة القديم، وسبب ذلك أن معظم الباحثين التاريخيين ركزوا جهودهم على تاريخ مكة ما عدا بعض الاجتهادات التي كتبت عن تاريخ جدة خلال الفترة الماضية القريبة.
وجدة بموقعها الجغرافي بصفتها أولًا فرضة مكة أهم بقعة في العالم ليس بمجيء الإسلام فحسب بل منذ فجر التاريخ، وليس هناك أدل من قول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ ما يعني أن مكة هي أقدم موقع مقدس في الكرة الأرضية وبالنظر لارتباط جدة كثيرًا بمكة منذ استطاع الإنسان ركوب عباب البحر، ومنذ أن سكنت جُرْهُم في وادي مكة، ومنذ تأسيس مدينة يثرب على يد العماليق، وثانيًا أنها تقع على طريق التجارة بين اليمن والشام الساحلي، وثالثًا أنها تملك ميناء مقابلًا ومُوازيًا لحضارة عريقة أخرى وهي الحضارة الفرعونية الواقعة على الضفة الثانية للبحر الأحمر، وهذه المميزات التي أوردتها تجعل لجدة مكانة كبيرة ودورًا فعالًا في جميع مراحل التاريخ بما فيها عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل 3100 ق.م)، وما زالت كذلك إلى وقتنا الحاضر.
وقد عثرت وكالة الآثار والمتاحف في وادي فاطمة على بعض الأدوات الحجرية تعود إلى فترة العصر الآشولي (250.000 – 100.000 سنة)، وكذلك عُثِر على بعض الأدوات الحجرية في بعض المواقع في طريق جدة – مكة تحديدًا تعود إلى فترة الحضارة الموستيرية (100.000- 25.000 سنة)، وبعض الرسومات الصخرية التي عُثر عليها في أبحر. لذلك أود هنا أن أورد عددًا من الدلائل المؤكدة على أن الاستيطان في جدة ربما يمتد إلى العصر الحجري الحديث أي قبل 10.000 سنة تقريبًا من وقتنا الحاضر.
والدلائل كالتالي: الرسوم الصخرية
عُثِر على رسوم صخرية حيوانية في منطقة أبحر على أحد التلال الصخرية بالقرب من خليج سلمان، وقد قام محمد أبو زيد مدير متحف قصر خزام بجدة بإنقاذ هذه الرسومات، وقام بنقلها إلى المتحف، وما زالت موجودة إلى حينه، ولولاه لطمستها المشاريع التي أقيمت في أبحر. والرسوم الصخرية كان يستخدمها الإنسان للتعبير عن جوانب حياته اليومية بالرسم في فترة العصور التي سبقت معرفة الإنسان الكتابة بالأبجدية التي حددها علماء الآثار بالنصف الثاني للألف الرابع قبل الميلاد (3800- 3100 ق.م) وهي الفترة التي تعود لها أول كتابة أبجدية عرفها التاريخ وهي الكتابة السومرية أو التي تعرف لدى المؤرخين بالكتابة المسمارية التي اكتُشفت في بلاد ما بين النهرين، وهي كتابة على شكل يشبه المسامير. والرسوم الصخرية التي اكتُشفت في الجزيرة العربية تؤرخ في الأغلب إلى ما بين 7000- 9000 قبل الميلاد، وتدل على استئناس الإنسان لهذه الحيوانات.
النقوش والكتابات القديمة
وقد ورد في حولية أطلال التي تصدر عن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني أنه في عام 1409هـ أجريت مسوحات أثرية في جدة، وعُثر على نقوش وكتابات ثمودية في مواقع عدة منها منطقة أبحر، وحاولت البحث والقيام بجهود ذاتية للبحث عن نقوش في مواقع أخرى ولكن إلى تاريخ كتابة هذا المقال لم أعثر على شيء من ذلك، فأنا لا أريد أن أعيد ما ذُكِر سابقًا في حولية أطلال، ولعلنا نجد مواقع أخرى تحتوي على نقوش كتابية.
أطلال مبانٍ قرب بلدة عسفان
يوجد قرب بلدة عسفان على طريق مكة- المدينة آثار سور مبنيّ من الحجر، يمتد لمساحة كيلو متر تقريبًا وبداخل السور آثار مبانٍ متهدمة ومطمورة ولا يظهر منها سوى أعالي تلك الأبنية وأقواس النوافذ، كذلك توجد قلعة قديمة مبنية من الحجر على أحد التلال الجبلية، وقد قمت بجولة أنا والأستاذ بدر القادري المدير العام للعلاقات العامة بأمانة جدة على تلك الآثار، وكان دليلنا الأخ عبدالرحمن البشري وهو من سكان بلدة عسفان ومن منسوبي بلدية عسفان ( طيبة حاليًا) وقمت بتصويرها. وعند البحث عن تاريخ هذه المباني وهل ذُكِرت في كتب التاريخ وجدت أن ابن بطوطة قد ذكر هذه المباني في رحلة حجه عام 723هـ، وأن في عسفان حصنًا عتيقًا وبرجًا مشيدًا قد أوهنه الخراب، فإذا كان الحصن المشيد الموجودة بقاياه الآن قد أوهنه الخراب عام 723هـ فمن المحتمل أن هذه الأبنية يمتدّ عمرها إلى فترة سابقة للإسلام؛ لأنه لو كانت هناك مدينة مسورة وعامرة في الفترة الإسلامية لذكرت في كتب التاريخ الإسلامي.
الأدوات الحجرية
قمت بمسوحات أثرية في عدة مواقع في مدينة جدة، وعثرت على فأس حجرية على قمة أحد الجبال المنخفضة الارتفاع في أم السلم بالقرب من مبنى بلدية أم السلم التي أعتقد أنها تعود لفترة الحضارة الموستيرية بين 120.000 و 40.000 سنة ق.م تقريبًا، وهذه الحضارة نسبة إلى كهف في فرنسا يعرف باسم «موستييه» ويظهر على الحجر ترسبات طينية تبدو أنها منذ فترة طويلة جدًّا.
كل ما أوردته يدل دلالة واضحة على قدم الاستيطان في جدة ويعود على الأرجح إلى 25000 سنة من وقتنا الحاضر تقريبًا قد يزيد وقد ينقص، ونحن في حاجة إلى أبحاث أخرى ومسوحات أخرى لكشف تاريخ جدة القديم بشكل أكبر. ولكنه بالتأكيد واستنادًا إلى الرسومات الصخرية على أقل تقدير لن يكون أقل من 10000 سنة من وقتنا الحاضر.
المنشورات ذات الصلة
كتاب الموسيقا للفارابي من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد
يعرّف الفارابي الموسيقا في قوله: «فلفظ الموسيقا معناه الألحان، وصناعة الموسيقا بالجملة هي الصناعة التي تشتمل على...
«رهمانج» و «لا نا ما»: حامل المعرفة البحرية وتبادل الثقافات على طريق الحرير البحري
مصطلح «لا نا ما» ظهر لأول مرة في الكتاب السياسي الصيني ميشو جانتشي. إن «لا نا ما» هو نقل للكلمة الفارسية «راهنامه»،...
البحث عن إرث أنثوي… المرأة وتحقيق التراث العربي
يمكن إعادة أول مخطوط مطبوع حققته وضبطت نصه امرأة إلى عشرينيات القرن المنصرم، ومع مرور قرن من الزمن على ظهور اسم مؤنث...
0 تعليق