كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
اعتراف متأخر
كان أبي مريضًا وملازمًا للفراش. الفراش مكان يعلو عن الأرض قليلًا، وخامته من طين معجون بالتبن. ظل أبي هكذا مدة؛ فنثرتْ جدتي فوقنا صرخة استغاثة، وجرابها خاوٍ من الأمل. لم أدخل دارنا هذا اليوم، فقد كنتُ مشغولًا باللعب، وأهيّج البط، والإوز. بحثتْ عني جدتي كثيرًا؛ حتى لمحتني ماسكًا إوزة كبيرة في حوش الجيران؛ فتحسستها، ومشيتُ خلفها، حاملًا الإوزة كما أمرتني. تنظرني والإوزة بالتناوب، ودخلنا الدار:
– امسك هذه الزلطة.
فمسكتها:
– اخبط الإوزة على رأسها.
فضربتها، وهرعتْ جدتي إلى السكين الصدئة، ونظفتْ ريشها الأبيض، والماء يغلي فوق الموقد، ورفعتْ إصبعها المائر في عيني، وقالتْ:
– لا تخرج بالريش الأبيض أمام الدار.
فخرجتُ، ورميته أمام الدار. استغربتْ جدة بنت الجيران، ومسكتْ ريش الإوزة، وما وزوز عندنا، ولا بقبق من ذي قبل. سارتْ إليّ، وعروقها منفوخة؛ فهرولتُ إلى حضن جدتي، دخلتْ ورائي، ولم تستأذن، وباحة الدار خالية، ثم استقرتْ أمام الموقد، وجدتي تنفخ في النار. تعكر وجه أمي، وانزوتْ بعيدًا، وقالت الجدة لجدتي:
– إن خطبت؛ اخطب قمرًا، وإن سرقت؛ اسرق جملًا.
قالتْ جدتي، وهي تحتضن الجدة: لحقتها قبل أن تفطس.
وأومأتْ لأمي لتصدق على كلامها، وجرتني جدتي من شعري، وأمسكتِ الحجر المغموس بدم الإوزة، فهدأتْ، ودخلت لأبي، واطمأنتْ عليه، وجلستِ الجدتان تتذكران أيامهما معًا. جلستُ بعيدًا، ثم نمتُ مرعوبًا هذه الليلة.
في أحد الأعياد، جاد أبي في سخائه، وسلّم عليّ، وحضنني، ثم قبلني، وابتسم، وهبطتُ شارعنا مبكرًا جدًّا، وفرحة الملابس الجديدة ظاهرة في تورد وجهي الممصوص والشاحب. كان هشام ابن الأبلة فتحية، لابسًا بنطلونًا قصيرًا، وكانت ورقة مالية قد أطلّتْ لتشاهد المارين؛ فأدركتُ أنها تناديني، فتزحزحتُ حتى تلامسنا، وسحبتها خلسة، ولذتُ بالفرار. وما إن سمعتُ صوت الأبلة فتحية، حتى أخفيت الورقة المالية في حذاء أبي، وجلستُ بجواره. لبس أبي الحذاء، ووضع الورقة المالية في جيبه، ونظرني نظرة لا أعرف معناها حتى الآن. بعدها بأيام، اجتمعتِ البلدة على قلب ولسان رجل واحد (حرامي)، وكنتُ قد تخيلته كلبًا، أو حمارًا؛ فارتجفتُ، وبكيتُ، وحملتني أمي فرأيته مكبلًا، ورفع بصره ناحية أمي فنمتُ مرعوبًا، وسريعًا على غير عادتي، وهزني في نومي، فعرفتُ أنه كان يخصني بنظرته.
الذكريات شحيحة، والأيام تمرّ بالتذكر الموجع، والأشياء المفرحة لا نستطيع لملمتها، أو تذكّرها، حتى كَبِرنا بالشحّ دون أن نحسّ.
سرتُ في بطن المدينة، ونسيتُ نفسي في التجوال، ونظرتُ يمنة ويسرة، ووجدتني واقفًا وحدي تحت شجرة وحيدة، كما هي عادتي. هدني التعب، فسارعتُ بالوقوف أمام بائعي الجرائد بمحطة القطار. قبل أن أبدأ خطوات الصعود لركوب قطار عودتي؛ لمحتُ كتابين، وأنا في أشدّ الحاجة إليهما. لمحتُ الثمن، وتوافد المشترون، فوضعتُ كتابًا في حقيبتي خلسة. جلبة، وضوضاء، (حرامي)، شمرتُ أكمامي للمساعدة، واكتفيتُ بالفرجة، وانكمشتُ. أعطيتُ بائع الجرائد نقودًا، رأى ثمن الكتاب الذي بيدي، وأعطاني الباقي، ومضيتُ خلسة، ثم جلبة وضوضاء مرة أخرى، (حرامي)، فتذكّرتُ الإوزة وجدتي، ووالدي والورقة المالية في أحد الأعياد. توقفتْ أنفاسي، وانكمشتُ على نفسي، ونظرتُ حولي؛ فلم أجد شيئًا، ووقفتُ، أتحسس جيبي، وقررتُ العودة لبائع الجرائد، وتحمستُ لفكرتي. تراجعتُ، لكنني قررتُ ألا أقف ثانية أمام بائعي الجرائد، وربما أعود إليه؛ حينما أمسك راتبي نهاية هذا الشهر.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق