كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مرور سنة على رحيله الروائي إمبرتو إيكو.. سياسي حتى العظم
بعد رحيله في 19 فبراير من العام الفائت 2016م عن 84 عامًا؛ قرأنا الكثير عن الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو أديبًا وأكاديميًّا وسوسيولوجيًّا وناقدًا وباحثًا في القروسطيّات وعالمًا في اللغويّات والسيميائيّات (دراسة الأدلّة)، ولم نقرأ عنه كناشط سياسي؛ علمًا بأنه كان منخرطًا في عالم السياسة حتى أذنيه، وكان يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام، خصوصًا في مجلة «ليسبريسو» الإيطالية، وفي صحيفة الـ«نيويورك تايمز» الأميركية. وبما أن الرجل شكّل ظاهرة ثقافية وإبداعية كبرى، جرّاء انتشار رواياته بالملايين، ليس على مستوى بلده إيطاليا والاتحاد الأوربي فقط، إنما على مستوى العالم بأسره، فإن آراءه السياسية، هي بالتأكيد محل رصد ومتابعة وتقييم؛ ولها -لا شك- تأثيراتها الاعتبارية؛ ناهيك عن أن الرجل معروف أصلًا بيساريته، التي يقال: إنه طعَّمَها بليبراليّة متمادية في العقدين الأخيرين من حياته، ما أغضب الكثير من «رفاق الأمس» داخل البلاد وخارجها. ومن هنا كان لافتًا أن تقول صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية «بأننا سنفتقد نظرته إلى العالم». وقال فيه رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينتسي: «إن الراحل كان نموذجًا استثنائيًّا للمثقفين الأوربيين، حيث جمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة لا تنضب على التنبؤ بالمستقبل» وهو يقصد بالطبع المستقبل الاجتماعي والسياسي والحضاري العام لبلاده؛ لأن إمبرتو إيكو كان ينشق دومًا عن ثقافة اتساع الرؤية، والسياسة كانت جانبًا حيويًّا من جوانب هذه الرؤية.
أما صديقه المفكر الفرنسي جاك لوغوف فقال: «إمبرتو إيكو روائي سياسي حتى العظم، وعلى هذا الأساس يجب أن تُقرأ مختلف رواياته». وهذا الرأي في محلّه على ما نعتقد؛ إذ إن اللجوء إلى مسرح التاريخ واستخدام موضوعات أحداثه، هو سمة كتابة إمبرتو إيكو الروائية في الإجمال، بدءًا من روايته «اسم الوردة» – 1980م، مرورًا بروايات: «بندول فوكو» – 1986م، و«جزيرة اليوم السابق» – 1944م، و«مقبرة براغ» – 2010م، و«الشعلة الغامضة للملكة لوانا» – 2004م وصولًا إلى روايته الأخيرة «العدد صفر» – 2015م، وعبرها جميعًا عرف الروائي الكبير كيف يوظّف أحداث التاريخ برمزية صارخة ودالّة بقوة على خارطة الحاضر بصراعاته السياسية المركزية موضوع التناول أو المعالجة الفنية.
وإمبرتو إيكو كان يحذو بذلك حذو الروائي الأسكتلندي الشهير، السير والتر سكوت، «أبو الرواية التاريخية» المكتملة العناصر والتشويقات في أوربا والعالم (1771 – 1832م)، وذلك مذ سطّر هذا الأخير روايته الأولى «ويفرلي» في عام 1814م، وأتبعها بـ 55 رواية تاريخية، كان ينتقي معظم أبطالها من العصور الوسطى. ومن أشهر كتبه السياسية: «حياة نابليون» في تسعة أجزاء. وقد درج على منوال والتر سكوت كُتَّاب كُثر في أوربا من أمثال فكتور هوغو وألكسندر ديماس في فرنسا، وتولستوي في روسيا، وألكسندرو مانزوني في إيطاليا. ومع إرهاصات نهايات القرن العشرين الأدبية، ظهر إمبرتو إيكو في إيطاليا أيضًا كمفجّر مستأنف لهذا النهج الكتابي الروائي السياسي المشوّق.
السياسة وصناعة الكذب
قضايا سياسية كثيرة تطرّق إليها إمبرتو إيكو في مقالاته التي كان ينشرها دوريًّا في الـ«نيويورك تايمز»، من بينها مقالة أشارت إلى صناعة الكذب في السياسة حملت عنوان: «الحياة السياسية.. حتمية الكذب»، يعود فيها إلى كتاب الروائي والناقد الإنجليزي جوناثان سويفت: «فنون الكذب» الذي ألفه في عام 1712م، مقتطفًا منه عبارات دالّة على زمننا الحاضر سياسيًّا، يقول على لسان سويفت: «إن ثمة نقطة أساسية يفترق فيها الكذّاب السياسي عن سائر الكذّابين، هي في قدرته على اجتراح الكذبة وجعلها تتّسم بذاكرة قصيرة، وذلك كي يتجاوز بسرعة واقع كيف ناقَضَ نفسه أمام نفسه، وأمام أتباعه في آنٍ واحد».
وفي رأي سويفت «أن انتشار الكذب على نحو واسع، لا يستغرق زمنًا طويلًا، حتى لو كان المصدر كذَّابًا سياسيًّا محترفًا ومحنّكًا في الصميم». ويردف الكاتب «عادة ما تصحّ مقولة: إن تصديق كذبة ولو لساعة واحدة فقط، تفي بكامل الغرض المراد منها؛ فالكذب المؤذي الخطير ينتشر بسرعة البرق، في حين أن الحقيقة تظهر بعده عرجاء بَكْماء، وريثما يتحرر المرء من صدمة الكذبة والإفاقة النهائية منها، تكون الأمور قد فات أوانها وأتت أُكُلها».
وفي مقالة أخرى له نشرتها الـ«نيويورك تايمز» أيضًا تحت عنوان: «قصتي مع الألوية الحمر»، وبعد مناقشته وتصحيحه لما نقل عنه في صحيفة «إلباييس» الإسبانية بأنه قال: «إن «الألوية الحمر» كانت محقّة في اعتقادها بضرورة محاربة الشركات متعدّدة الجنسيّات، لكنها كانت مخطئة في إيمانها بالإرهاب كأسلوب. ويستنتج بالتالي كاتب «إلباييس» أني أوافق، بهذه الطريقة، على أن تلك المنظمة الإرهابية، هي مجرد عبارة عن «رفاق ضلّوا الطريق»، وأني أدعم مقولة: «إن الأفكار كانت مقبولة، وأما الطرق فلم تكن». وقد اختتمت الجريدة الإسبانية المقال المنشور كما يلي: «إن كانت هذه المساهمة التي تقدّمها الذهنيّة الثقافية الإيطالية بعد ثلاثين عامًا على اغتيال رئيس الوزراء الأسبق ألدو مورو، فهذا فلم سبق وشاهدناه يا للأسف..» يقول إمبرتو إيكو مصحّحًا ومعلّقًا: «أما ما يمكننا أن نصفه بالهذيان في طريقة تفكير منظمة «الألوية الحمر» والمجموعات الإرهابية الأخرى، فهو الاستنتاجات التي توصلت إليها. فقد ظنّت المنظمة أولًا، أنها إن أرادت القضاء على الشركات متعدّدة الجنسيات، فعليها أن تحثّ على اندلاع «ثورة» من خلال اقتراف موجة واسعة من أعمال العنف في إيطاليا. ثم اعتقدت أنها بقتلها «ألدو مورو» والعديد من الأشخاص الصالحين، تمارس بذلك ضغطًا على الشركات متعدّدة الجنسيات. وأخيرًا رأت أن تلك الأعمال، ستدفع بأفراد الطبقة العاملة إلى التمرّد. وقد كانت هذه الأفكار كلها جنونية حقًّا؛ لأسباب ثلاثة: ما كانت ثورة في بلد واحد لتزعج الشركات متعددة الجنسيات حتى لو قليلًا، وفي أي حال كان الضغط الدولي ليعيد وضع الأمور في نصابها على الفور. ثانيًا- لم تكن لسياسي إيطالي واحد أي أهمية تذكر في لعبة المصالح الدولية. ثالثًا- كان الأجدر بمنظمة «الألوية الحمر» أن تدرك أنه مهما قتلت من أشخاص، فإن الطبقة العاملة لن تثور».
رفيق أخطأ التفكير
ويستطرد إمبرتو إيكو معلقًا: «إن من يستقي الاستنتاجات الخاطئة من مقدمة منطقية مقبولة إلى حد ما، ليس مجرد «رفيق أخطأ التفكير»؛ وإذا قال أحد رفاقي في الفصل الدراسي: إن الشمس تدور حول الأرض، أو إن اثنين زائد واحد يساويان خمسة، فلن أعده رفيقًا أخطأ التفكير، بل سأعُدّه غبيًّا». وبخصوص مصطلح «المؤامرة» الذي كان على ما يبدو سائدًا في الأدبيّات السياسيّة القديمة، مثلما هو سائد في الأدبيّات السياسيّة الحديثة، فلقد تناوله إمبرتو إيكو في مقالة ساخرة نشرتها الـ«نيويورك تايمز» في عام 2008م. ورد فيها أنه، وبعد تصفّحه موقعًا للإنترنت باللغة الفرنسية، واسمه «عالم اليسوعيين المريض» لـ«جويل لابرويير»؛ وكما يوحي به العنوان، يقدم هذا الموقع مراجعة واسعة للأحداث كافة، التي انطلقت من مؤامرة عالمية رسمها أعضاء جماعة اليسوعيين الدينية. فلطالما «جهد اليسوعيون نحو تأسيس حكومة عالمية عبر التحكّم بالبابا وبعدد من الأمراء الأوربيين. ومن خلال جماعة المتنوّرين من إقليم بافاريا الألماني، حاولت «جماعة يسوع» الدينية إسقاط الأمراء الذين حظروا وجودها. ليس هذا كل شيء، يتابع إيكو: «فأعضاء جماعة اليسوعيين الدينية هي من أغرق سفينة «تيتانيك»؛ لأنه بداعي هذه الحادثة تمكنوا من تأسيس مصرف الاحتياط الفدرالي الأميركي وبوساطة من فرسان مالطا». ويشدد محرِّرو موقع «العالم المريض» على أن غرق سفينة «تيتانيك» لم يؤدّ بالمصادفة إلى وفاة اليهود الثلاثة الأغنى في العالم: جون جاكوب آستور الرابع، وبنجامين غوغنهايم، وإيزيدور شتراوس، الذين عارضوا في ذلك الوقت تأسيس المصرف. وبالعمل من خلال الاحتياطي المركزي، تمكّن اليسوعيون من تمويل الحربين العالميتين اللتين صبّتا في مصلحة الفاتيكان دونما شك.
أما فيما يخص اغتيال الرئيس جون كينيدي، فيجدر التذكير –وكله بحسب إمبرتو إيكو عن الموقع الفرنسي– بأن تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كان مخطّطًا يسوعيًّا أيضًا، مستوحى من التمارين الروحية للقديس إغناطيوس، وأن اليسوعيين تحكّموا بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من خلال جهاز الـ«كي. جي. بي» السوفييتي، ومن ثمَّ اغتيل كينيدي على يد الأشخاص أنفسهم الذين أغرقوا سفينة «تيتانيك» الضخمة. وبالطبع -بحسب إيكو- فإن التآمر اليسوعي، هو من يقف خلف الجماعات النازية الجديدة والمناهضة للسامية كلها، واليسوعيون يسيطرون على نيكسون وكلينتون؛ كما قاموا بمجزرة مدينة أوكلاهوما. وهم من أوحى إلى الكاردينال سبيلمان، الذي حرّض على الحرب في فيتنام، التي جلبت بدورها 220 مليون دولار إلى صناديق الاحتياطي الفدرالي الخاضع أيضًا لسيطرة اليسوعيين من خلال فرسان مالطا. ويختم إمبرتو إيكو ساخرًا جدًّا من مصطلح «المؤامرة» أو «نظرية المؤامرة» عندما يقول: إنه «ما من داعٍ للتساؤل عن سبب إقبال الناس الكبير على كتب الروائي دان براون، فلعل لليسوعيين علاقة بذلك أيضًا!».
تبرير اغتصاب فلسطين
أما بخصوص إسرائيل، فإن إمبرتو إيكو، وإن كان ينتقد بعض سياساتها، خصوصًا لجهة قوله، وأكثر من مرة: إن مصطلح «معاداة السامية» مملوء بالتناقضات، إلا أنه في حقيقة الأمر، كان حتى آخر يوم من حياته، من أشد المدافعين الأذكياء عن إسرائيل. وقد استفزّ الكثير من قرائه العرب، وبخاصة الفلسطينيين منهم، عندما أصرّ على المشاركة في «معرض القدس للكتاب» في عام 2011م، ملبِّيًا دعوة بلدية الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة، وذلك بعدما ضرب عرض الحائط بكل مناشدات قوى المقاطعة الثقافية والأكاديمية للدولة العبرية، التي طلبت منه عدم تلبية هذه الدعوة.
من جانب آخر، وبدهاء مركَّب، برَّر إمبرتو إيكو للإسرائيليين اغتصابهم أرض الشعب العربي الفلسطيني عندما قال في مقالة له في النيويورك تايمز: «والبارز لدى الإسرائيليين، هو أنهم استخدموا الوسائل الأكثر تقدّمًا بهدف حرث الأرض وإنشاء المزارع النموذجية. ولذلك في حال حاربوا، ففي سبيل السيطرة على الأرض التي استوطنوا فيها. فهذا هو العامل الذي يحمله العرب «المعادون للساميّة» مأخذًا عليهم، علمًا بأن هدفهم الأساسي (أي العرب) يكمن في تدمير دولة إسرائيل». ويردف إيكو في المقالة عينها: «لا يحبّذ معادو الساميّة فكرة أن يعيش اليهودي إلا في إسرائيل. وفي حال اختار اليهودي أن يعيش في إسرائيل، يرفض معادو السامية ذلك؛ وأنا على علم بأن المكان الذي يعرف اليوم بإسرائيل، كان في الماضي أرضًا فلسطينية؛ فلم تُنتَزع هذه الأراضي باستخدام العنف وعن طريق القضاء على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، كما كانت الحال في شمال أميركا، أو من خلال تدمير الدول التي يحكمها الملوك، كما كانت الحال في جنوب أميركا، بل أساسًا عن طريق الهجرة والاستيطان البطيئين اللذين لم يَجْرِ معارضتهما في البداية». أيُّ دفاعٍ ماكر ومتسلل هذا الذي يبتدعه هنا إمبرتو إيكو دفاعًا عن مغتصبي الأرض الفلسطينية، الذين تدفقوا بإرادة استعمارية استيطانية مكشوفة، ووفق برنامج رعائي استعماري ممسوك ومدار، حضنته في البداية بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد، الولايات المتحدة والغرب كله؟ على من يمرر إذًا إمبرتو إيكو رسائل تبرير أن الإسرائيليين هم مجرد مهاجرين عاديين لم يرتكبوا مجازر بحق أهل الأرض، ولم يستأصلوا شأفة الفلسطينيين، وأنهم مجرد شعب يريد العيش بسلام ووئام مع محيطه، ومن ثم فإن الإسرائيلي لم يفعل ما فعله غزاة شمالي أميركا الأوائل بحق من سُمّوا خطأً بـ«الهنود الحمر»؟
إيكو وعصام محفوظ.. لقاء في «الدوماغو»
روى لي الناقد اللبناني الراحل عصام محفوظ أنه التقى في باريس الروائي إمبرتو إيكو في مقهى «الدوماغو» في أوائل التسعينيات من القرن الفائت، وتحادثا في أمور ثقافيّة وسياسيّة شتى، لفته خلالها، وأكثر من مرة، سؤال شخصي كان يلحّ عليه إيكو له ومضمونه: أعرف أنك لبناني، لكن من أي منطقة من لبنان أنت؟.. علّقت مبتسمًا بعض الشيء (يقول عصام محفوظ): ما وراء هذا السؤال يا سيد إمبرتو، هب أنني أجبتك، فبماذا سيفيدك جواب عن هذا السؤال؟ قال إمبرتو: أخبرني بعض المعارف اللبنانيين المشتركين أنك من مدينة صغيرة مجاورة للحدود الإسرائيلية– اللبنانية، فهل هذا صحيح؟ «هذا صحيح نعم» أجاب عصام محفوظ «واسم مدينتي الصغيرة هو مرجعيون». هنا تحفّز إمبرتو إيكو وسألني: ما رأيك بعملية السلام الإسرائيلي– الفلسطيني إذًا؟ هل هي ممكنة؟ ما حظّها من النجاح؟ وأنا كإيطالي متوسطي تهمّني الإجابة هنا، وخصوصًا من طرف العرب الذين بلدانهم مجاورة لإسرائيل، وأكثر بكثير من غيرهم. إن لهذه الإجابة مذاقها الخاص عندي بالتأكيد…». وعلى الفور أجابه الناقد والمسرحي عصام محفوظ: «لا أعتقد أن سلامًا حقيقيًّا سيقوم بين اللبنانيين والإسرائيليين -وبالتأكيد مع العرب الآخرين- أتعرف لماذا يا سيد إيكو؟ ببساطة لأن الإسرائيليين أنفسهم لا يريدون السلام الحقيقي والمعافى، أولًا مع الفلسطينيين ومن ثمّ مع سائر العرب، ففي السلام تضؤل دولتهم وتضمحل».
ولكن السلام الإسرائيلي– المصري حقيقي ومعافى، ومعاهدته تؤكدّها الأيام والسنون، وكذلك معاهدة السلام الإسرائيلية– الأردنية، فإنها أيضًا ثابتة ومستمرة. علّق إمبرتو إيكو على كلام عصام محفوظ.. وأردف قائلًا: «بالتأكيد سيُصار ذات يوم إلى قيام معاهدة سلام بين إسرائيل ولبنان، وسيكون لها حظّ النجاح أيضًا، على غرار معاهدتَيْ مصر والأردن مع إسرائيل». وهنا قاطعه عصام محفوظ قائلًا: من حيث الشكل ربما كان الأمر صحيحًا، لكن من حيث المضمون وقوة سلطة التاريخ وأنساق مفاهيم الشعوب وعمقها الواعي واللاواعي فلا أعتقد، بل أجزم، بأن الأمر يعاكس وجهة نظرك يا سيد إيكو. فأولًا- لا سلام حقيقيًّا بين إسرائيل والشعوب العربية في مصر والأردن ولبنان (في حال قامت أصلًا معاهدة بين هذا البلد الأخير وإسرائيل). ثانيًا- إن مفهوم سلام إسرائيل مع العرب، هو مفهوم إخضاعي لهم، وسيطرة مطلقة عليهم، حاضرًا ومستقبلًا، فكل بلد عربي بالنسبة إلى إسرائيل، هو أمة قائمة بذاتها، ويجري التعامل مع كل «أمة من الأمم العربية» على هذا الأساس.. فأي سلام تصدّقه سيقوم بين العرب وإسرائيل أيها الصديق إيكو؟!. أكثر من ذلك يا سيدي: إن الإسرائيليين يدركون في أعماقهم بأن لا سلام عاش وسيعيش بينهم وبين سائر جيرانهم العرب، بالمعنى الشعبي هنا طبعًا؛ لذلك فإن معدة الشعوب العربية لم تهضم إسرائيل في رأيي، ولن تهضمها يومًا. ولذلك فإن الدولة العبرية ستظل باستمرار دولة عسكرية وأمنية مستنفرة، وتخوض حروبًا مباشرة وبالواسطة مع العرب.. فهي بالحروب تحيا وتستمر، وبالسلام الحقيقي تنحلّ وتبور».
لم يعلّق الرجل على كلامي، يقول لي عصام محفوظ ويضيف: وأنا انتقلت بالحديث معه إلى موضوع آخر.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق