كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
علم غزير ونبل وتسامح
كان اختيار شخصية العام في مهرجان الجنادرية موفقًا، ومفرحًا، وعادلًا؛ لأن المُختار يستحق ما هو أكثر من ذلك، على الرغم من عزوفه عن الترشح للجوائز وخلافها. والقول باستحقاقه يعود إلى مسوّغات كثيرة؛ أكثرها يتصل بعلمه، ومشاركاته الثقافية، وأقلها قد يكون مما له صلة بشخصيته.
أمَّا ما يتصل بعلمه فأمر واسع يصعب على الفرد تتبعه؛ فهو عالم، وباحث، وفقيه، وأصولي، ومُحدّث، ومُفسّر، ونحويّ، ولغويّ، وعَروضيّ، وناقد، وقاصّ، وشاعر، ونسَّابة، وله في ذلك كله مشاركات، توضحها مؤلفاته التي تجاوزت ثلاث مئة مؤلَّف، مع تأكيد الاختلاف بينها في المحتوى، والحجم، والتأثير. ثم هو فيما يخصّ صلته بالعلم: محاضر، خطيب، جدلي بارع، يملك الحجة والبرهان عندما يُقدم رأيًا يسنده بذخيرته المكنوزة في ذاكرته التي بات يشكو في الآونة الأخيرة من خيانتها إيَّاه في بعض المواقف.
أمَّا الجوانب الشخصية التي ربما لا يكون الاختيار قد عرج عليها؛ فهي أيضًا واسعة ذات تشعبات؛ فهو إداري مميز، وإن كانت الظروف لم تسمح له بارتقاء المناصب التي تكشف عن براعته على نحو جليّ، لكن يوضحها تولِّيه الإدارة في وحدتين ثقافيتين؛ هما: رئاسة اللجنة الاستشارية للشؤون الثقافية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عند تأسيسها، يوم كان رئيسها الأستاذ محمد الشدي، فاختير لعضويتها شخصيات متباعدة في توجهاتها، لكنها ذات مكانة علمية مرموقة؛ منها: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة، وهو يومئذ أستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعالم حنفي المذهب له تأثير كبير في سوريا في ذلك الوقت، والشيخ عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي، الأديب والشاعر الرائد، وكان مسؤولًا حكوميًّا يشغل منصبًا رفيعًا في ديوان رئاسة مجلس الوزراء، إضافة إلى تبنيه ندوة أسبوعية كانت الأشهر على مستوى المملكة، والدكتور محمد المفدى، عالم النحو المعروف، وكان أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والدكتور أحمد بن محمد الضبيب، وكان أستاذًا في جامعة الملك سعود، ومؤلفًا ومحققًا. وعلى الرغم من جلال قدر الأعضاء وتميزهم، فإن الشيخ كان، بإدارته المبنية على الاحترام، والمدعومة بالرغبة في تقديم ما يخـدم الوسط الثقافي، ناجحًا في إدارة الحوار، واستــخـلاص الفوائـد. وإضافة إلى اللجنة الاستشارية التي رأسها في الجمعية، تولى رئاسة تحرير مجلة التوباد، واختار مسمى «رئيس الكتبة» عوضًا من: رئيس التحرير، وكان متابعًا كل أعمالها.
كما وُلّي أمر النادي الأدبي بالرياض؛ فكان في وقته شعلة من النشاط المنظم وغير المنظم؛ فمن محاضرات يلقيها مرموقون من الأدباء وغيرهم، إلى كتب متنوعة، إلى جلسات في فناء )الفيلا الصغيرة) التي كانت مقرًّا للنادي. كان يتابع كل كبيرة وصغيرة؛ بما في ذلك التواصل مع الإعلام لفسح الكتب، ومع المحكمين، إضافة إلى تصحيحها. ومن أمثلة ذلك خطابه التعقيبي الموجه إلى الدكتور حسن ظاظا، رحمه الله، بخصوص كتاب الشعر الأندلسي، ونص الرسالة:
«سعادة الدكتور/ حسن ظاظا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
إلحاقًا لخطابنا رقم بدون وتاريخ 18 / 6 / 1399هـ، المرفق به ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي، لكتاب «الشعر الأندلسي» مصحوبًا بتقرير الدكتور محمد زغلول سلام، عن الكتاب والترجمة. وحيث رغبنا من سعادتكم مراجعة الترجمة، وتلافي ما أشار إليه الدكتور محمد زغلول من اضطراب بعض العبارات ووقوع بعض الأخطاء. نفيد سعادتكم أنه، وحتى تاريخه، لم نتلق إجابتكم. نرجو أن تكون في طريقها إلينا؛ شاكرين لكم سلفًا حسن تجاوبكم. وتفضلوا بقبول وافر تحياتنا».
ثم كان له فضل كبير في اقـتـناء مجموعة مهمة من الكتب والدوريات النادرة التي لم تكن موجودة في غير النادي، واستطاع بعلاقاته الشخصية أن يستعين بأثرياء لدعم الميزانية الرسمية المتواضعة في ذلك الحين.
أمَّا النمط الآخر المتصل بشخصيته، خارج العمل العلمي والوظيفي؛ فهو أكثر سعةً وعمقًا من ذلك المتصل بالعلم والأدب والثقافة؛ فالشيخ إنسان اجتماعي لا يخلو يوم من أيام الأسبوع من مناسبة لديه، تحفل بمدعوين غير متجانسين، وهذه صفة مميزة لدعواته؛ إذ ستجد العالم، والأديب، والثري، والمتدين، إلى جانب العامي والفقير، بلا تمايز في الجلوس أو الاحتفاء؛ فهو يحتفي بالحضور على اختلاف درجاتهم ومشاربهم. ثم هو على درجة من البساطة والشفافية، لا يتردد في الكشف عن أمور خاصة به أمام جمع من الناس، وهو بعيد من النميمة والحسد والحقد، لا يعرف للمال قيمة غير السعادة الوقتية؛ فإن جاءه «الرزق» أفناه في الولائم، ومساعدة المحتاجين، والصرف على الأبناء، وبالطبع تسديد الديون، ودعم احتياجات المجلة الخاصة التي ينشرها: «الدرعية».
ولعل مما يقدم الشيخ المبجل في صورته الحقيقية التي تشمل البساطة، والتواضع، وخفة الظل، علاقته المتميزة بإنسان بسيط فقير عامي، كان يُعرف بأبي عزيز، رحمه الله، فما كان يهنأ له بال إلا بوجوده، فإن لم يحضر أرسل في طلبه سائقه الخاص، أو أحد أبنائه، ولا يجلس أبو عزيز إلا متصدرًا، ولا يبخل عليه الشيخ في جلسة تعج بأدباء وشعراء ومثقفين بالسؤال والمناكفة أحيانًا، وكم حزن عند وفاته وتألم لفراقه. ومن يتعمق في بحث العلاقة بين أبي عزيز وأبي عبدالرحمن سيجد المثل الواضح لما هو عليه الشيخ من روح إنسانية لا تتحقق في غيره من تواضع جم، وخلق رفيع، وحب المساعدة، واحترام الإنسان من دون النظر إلى مكانته. كان أبو عزيز لصيقًا بالشيخ محبًّا إياه، لا يفتأ يشيد به وبما يقدمه له من عون، وهو الفقير المعدم (المقطوع من شجرة)؛ إذ لم يكن له من الأهل والأقارب غير ابن مريض وابنة متزوجة. ولم يكن أبو عزيز الوحيد من البسطاء الذين ربطتهم علاقة بالشيخ؛ بل كان هناك غيره ممن يأتون من مدن وقرى، بعيدة أو قريبة، لا يتردد في استضافتهم في منزله، مُخصّصًا لهم مكانًا للنوم، مع إكرامهم مدة إقامتهم، ومساعدتهم في قضاء حوائجهم.
ذلكم هو المكرم في جنادرية هذا العام (1437هـ) ،والحائز وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى: الشيخ المبجل محمد ابن عمر العقيل )أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري،( المتفرد بشخصية يصعب وصفها وتحديد إطارها، لكن المؤكد أن صاحبها: عالم موسوعي، نبيه، كريم، متسامح، بسيط، محب الحياة؛ لإفادة الآخرين.
دقة وطموح
العـودة إلى محاضـر اللجنة الاستشارية للشؤون الثقافية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وأوراقها الرسمية، يكشف لمن سيقف عليها مشاريع كبيرة كان يطمح إلى تحقيقها؛ من بينها:
– موسوعة «الألفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون»، وقد أوضح ما يتعلق بها في خطاب وجَّهه إلى أعضاء اللجنة الاستشارية الدائمة للشؤون الثقافية بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وقد بسط فكرتها في ثماني نقاط، هي:
أولًا– أن تكون بحوثًا تستوعب الألفاظ المصطلح عليها بين أهل الفنون.
ثانيًا– أن تغطي الفنون الجمالية؛ مثل: الفنون التشكيلية، والألوان، والعروض، والقافية، والبديع، وما له علاقة بالنقد الأدبي الجمالي.
ثالثًا– أن يكون بحث المادة مستوعبًا من الناحية اللغوية وعلومها، ومن الناحية الفنية، ومن الناحية التاريخية، ومن الناحية الشرعية، ومن الناحية الأدبية.
رابعًا– أن تصدر مرتبة على الحروف وفق منهج القاموس المحيط.
خامسًا– أن تُرتَّب معاني المادة اللغوية على طريقة ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، مع محاولة إرجاع المعاني إلى معنى واحد أصلي يدلّ دلالة مطابقة؛ لأن ابن فارس يُرجع المعاني إلى أكثر من أصل.
سادسًا– أن تُدرَس الحروف الأصلية لكل مادة؛ صوتًا ومعنى، على نحو دراسات ابن جِنّي في سِرّ صناعة الأعراب ودراسة ابن هشام في المُغنِي.
سابعًا– أن تُستخدم الإحالات في الإشارة إلى المواد المبحوثة من قبلُ.
ثامنًا– أن تصبح دراسة تطبيقية لكل علوم اللغة والنحو والصرف والرسم الإملائي والتشكيل.
أما مراحل العمل فيها، فسردها في تسع نقاط؛ أقـتبسها بنصها فيما يأتي:
أولًا– من الضروري اشتراك أعضاء اللجنة الاستشارية في تحرير دراسة أنموذجية لإحدى المواد، وبتحرير تصور كامل للموسوعة.
ثانيًا– من الممكن تكليف رئيس الشؤون الثقافية بتحرير التصور الكامل للموسوعة؛ عن أهدافها، وضرورتها، ومنهجها من دراسة مستفيضة للاشتقاق اللفظيّ والمعنويّ الذي سيُبنى عليه منهج الموسوعة.
ثالثًا– يُكلف الدكتور محمد المفدى ومحمد عبدالخالق عضيمة بجرد جميع الصيغ الصرفية لمادة «زمر» للماضي والمضارع والأمر، واللازم والمتعدي، والمبني للمجهول والمبني للمعلوم، والجمع، والتصغير، والتفضيل، والمبالغة. ويذكران القاعدة فيها عند تركيبها في سياق الكلام؛ كالقاعدة في اتصال الفعل بالضمائر، وكالقاعدة في تحويل الفعل الماضي إلى مضارع، أو اللازم إلى متعدّ… إلخ.
شريطة أن يكون لهذا التركيب أثر في حروف الصيغة. ويذكران المعنى لكل صيغة حقيقية ومجازًا؛ كالأصل في صيغة فعال وفعالة ومفعال. ويُشَكِّلان كل صيغة بالقدر الكافي الذي يميز الصيغة ويمنع من التباسها بغيرها. ويضعان القاعدة –كلما سنحت الفرصة– للقدر المكتفى به من الشكل.
مثال ذلك: «كسرت مزمار زيد»، يُكتفى بالجزم للزاي، ويُقال في القاعدة أو المسوغ: لم تشكل الميم بالكسرة؛ لأنه لم يرد فتحها أو ضمها لا سماعًا ولا قياسًا؛ لأن العرب لا تبدأ المفردة بالسكون فتعين الكسر. ولم تشكل الراء بالفتح؛ لأن وقوع مزمار مفعولًا به دون أي احتمال برهان على فتحها. ويذكران ما له علاقة بهذه المادة من علم النحو: كـ «مزامير»؛ يذكران القاعدة والعلة من منعها من الصرف. وإذا استوعبا الصيغ القياسية يذكران الصيغ السماعية، ويُبينان وجه مخالفتها للقياس ووجهة التجوز بها. ويذكران وجه الاشتقاق لكل صيغة والقاعدة في ذلك…
رابعًا– يكلف أبو عبدالرحمن بن عقيل بحصر معاني «زمر» في اللغة الفصحى. ويعين المعنى الحقيقي الأوَّلي الأصلي الوضعي، ويستدل عليه، ويذكر المعاني المجازية، ويرتبها تاريخيًّا حسب الإمكان، ويستوفي الاستعمال العامي ويحقق أصله، كما يستوفي المصطلحات العلمية من هذه المادة إن وجد مصطلحات.
خامسًا– يكلف فضيلة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ببحث ما ورد في الزمر من نصوص الشرع، ويمحصها دلالة وثبوتًا.
سادسًا– يكلف أحد الفنانين –كطارق عبدالحكيم– ببحث المزمار تاريخيًّا وفنيًّا.
سابعًا– يكلف معالي الشيخ عبدالعزيز الرفاعي، وسعادة الدكتور أحمد الضبيب، والأستاذ يحيى ساعاتي بجمع ما ورد من الشعر والأمثال والنثر الفني عن الزمر.
ثامنًا– بعد ذلك تُعيّن لجنة لصياغة هذا الأنموذج بحيث يدمج البحث اللغوي والصرفي والشرعي ونصوص الأدباء وفق ترتيب منطقي؛ لتتضح دلالة المادة مضمونًا وسياقًا.
تاسعًا– بعد إرسال الأنموذج إلى المجامع والأفراد المكلفين بالاشتراك وأخذ آرائهم، يُعقد المؤتمر المصغر لدراسة فكرة الموسوعة، ويتم توزيعها على الباحثين، ويعين نصيب كل باحث، وتكلّف لجنة بجرد جميع المصطلحات الفنية في بيان وترتيبها ترتيبًا معجميًّا.
وقد سردت ما سبق لإظهار ما كان لدى الشيخ من طموح عظيم؛ لإخراج أعمال مرجعية كبيرة، ولتبيين دقته في التحديد.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق