كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة
حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلًا: «ترام مصر الجديدة …» يوقفك بانزعاج قائلًا: «مصر الجديدة ليس بها ترام، دا مترو». هكذا تجد نفسك في مأزق غريب، فمترو الأنفاق يربط في خطه الأول ما بين شبرا والجيزة، وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج، ويسير تحت الأرض وفوق الأرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره، ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات، ولا توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير، وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار، فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه الأرض بين الناس والسيارات، وينعطف ليمرّ بين العمارات في الشوارع دون خصوصية ولا استقلال، ودون هيبة وأسوار تحولان دون مطاردة الأطفال له، كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟
سوف تتذكر أن مهندسًا في السكك الحديدية المصرية تَقدَّم إلى الملك فاروق باقتراح لإقامة أول مترو أنفاق في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط كله، لكن الملك أهمل الاقتراح فماتت الفكرة، ولم تستيقظ إلا مع مجيء جمال عبدالناصر، هذا الذي رغب في أن يكون المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي، فاقترح على الخبراء الفرنسيين أن يضعوا تصورًا لإنشاء أول مترو في مصر، واتُّفِق مع بيت الخبرة الفرنسي «سوفريتو» عام 1970م على إنشاء خطين أحدهما يربط ما بين بولاق أبو العلا وقلعة محمد علي بطول 5 كم، والثاني يربط ما بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، وفي عام 1973م صدَّق أنور السادات على إنشاء مترو القاهرة، لكنه لم يبدأ العمل فيه إلا في عصر مبارك، وكان أول تشغيل له عام 1987م.
كانت القاهرة قبل أن يربط المترو بين أطرافها أشبه بصندوق مكتظ بالبشر، وكانت أحياء مثل حلوان والمعادي والمرج وغيرها أشبه بدول أخرى، لا يذهب إليها أحد، ولا يسمع بها أحد، ويتندر الناس على من يفكر في الإقامة بها، لكنها مع المترو أصبحت أقرب من وسط المدينة؛ لأن زحام المرور فوق سطح الأرض لا يمنح أحدًا حق التحرك من مكانه، والإشارات لا تفتح أضواءها إلا لتغيرها، وقد عبَّرت السينما في السبعينيات والثمانينيات عن هذا الاختناق المروري المزمن في شوارع القاهرة وكباريها من خلال أفلام مثل «أربعة في مهمة رسمية».
مدن داخلية على أبواب المحطات
لم يكن مترو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصلات جديدة، لكنه كان تغيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا، فقد امتدت القاهرة الكبرى على ضفاف هذا الثعبان الحديدي، فنشأت مدن داخلية على أبواب محطاته، وصارت علامة «M» الحمراء رمزًا لتجمعات البشرية متباينة، حيث تجار الملابس والفاكهة والزيوت والمساويك والكتب القديمة والموبايلات وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثلاث ورقات، فضلًا عن عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وشركات الصرافة وسماسرة العقارات والشقق المفروشة وغيرها، نشأت حيوات وتغيرت طبيعة أماكن، وتوالدت أساطير وحكايات، ليس عن نشأة القاهرة ومجيء المعز بسيفه وذهبه، ولكن عن المترو والترام والقطار الفرنساوي والقشاش، وتحول الناس من آدميين يمشون على أقدامهم رافعين أنوفهم نحو السماء إلى فئران أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب المحطة، تهرول في أنفاق طويلة وباردة، وسط ضجيج عالٍ وكثير، مسموع وغير مفهوم، ضجيج يبعث على التوتر والسرعة، ليتسابقوا في دخوله على شباك التذاكر، ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحين بوصولهم إلى الرصيف، في انتظار الثعبان الحديدي الكبير، هذا الذي لا تمر دقائق إلا بمجيئه، وحيث تكتظ المحطة بالنازلين والصاعدين، لكنها سرعان ما تصبح خالية في انتظار قادمين جدد.
لم يكن الأدب بعيدًا من حضور المترو بثقافته الجديدة على الجميع، فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور في أعماله، من بينها رواية «مترو» المصورة لمجدي الشافعي، التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس الإلكترونيات الحانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر، الذي يقترب من الإفلاس بسبب المنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة سواهم، ورواية ياسمين مجدي «معبر أزرق برائحة الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م، التي تدور أحداثها في شباك بيع تذاكر في إحدى محطات المترو، وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز «عشرين سنة على سلم المترو». وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النيران عند منطقة «العياط»، ويحكي قصصًا إنسانية عن ركابه.
في هذا التحقيق نتعرف على مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار وتصورات عدد من المثقفين المصريين والعرب، ممن تعرفوا على مترو القاهرة أو اتخذوا في رحلاتهم مترو دبي أو غيرها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم، وكيف تَشكَّل خيالهم معها.
جاكلين سلام: نصوص في مترو تورنتو
يشكل المترو عصب التنقلات في مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكبر مدن العالم. شخصيًّا أستخدم المترو للذهاب إلى العمل. أحيانًا أقرأ الكتاب الذي في يدي، وأحيانًا أقرأ وجوه العابرين. أحيانًا أكتب الشخصيات والمواقف في دفتر الملاحظات. هنا بعض أحوال مترو المدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل الألوان والأجناس.
*
خرجتُ مرة في الصباح الباكر وكنت على موعد للذهاب للترجمة الفورية لوزراء كنديين سيتحدثون عن تجربة استقدام اللاجئين السوريين إلى كندا. لبست ثيابي الرسمية وفي منتصف الطريق إلى مكان انعقاد المؤتمر، توقف المترو لعطلٍ ما. اختنقتُ. لم أستطع الخروج من النفق. حين تدبرنا طريقًا للخروج، استقللت سيارة أجرة، كانت عشرات الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر المترجمة. حين وصلت إلى المكان، دقائق فقط أمامي كي أرتّب شعري وأشرب الماء، ثم قُدِّمتُ إلى الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم بترجمته مباشرة في حضور عدد كبير من القنوات التلفزيونية الكندية. أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا الإنساني حيال مساعدة اللاجئين وتقديم فرص العمل لهم، كنتُ أقول في نفسي: أنا سورية- كندية ومن الممكن أن أتضرر لو توقف المترو في ساعة حرجة. المترو واللغة وسيلتان للوصول إلى مكان والعبور إلى الطرف الآخر.
*
الكلاب أيضًا تستقلّ مترو تورنتو: حين تكون برفقة كلب وتستقلّ عربة في المترو، ستحظى بكل الاهتمام من الركاب. إنهم يداعبون الكلاب ويتحدثون مع مالكها بود شديد. ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل في حضنها كلبًا صغيرًا وسيمًا. الشاب في الكرسي المقابل، صار يداعب الكلب ويقول للسيدة: «لكلبك شخصية مميزة، أعجبني كلبك» نظرتُ إلى الكلب بعين فاحصة وفي داخلي مشاعر متناقضة. مرات كثيرة أرى امرأة تجلس في مقعد في المترو، تبكي ولا أحد يلتفت إليها.
*
في ساعات الازدحام الشديد، أركض بين الجموع كي أصل إلى المترو وكلّي أملٌ أن أجد مقعدًا. حين أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إلى قلب المدينة. وأسترق النظر إلى وجوه الأشخاص. بعضهم ينام وبعضهم يأكل. أقرأ الوجوه ككتاب وأدوِّن الملحوظات أحيانًا. العالم محصور في عربة أمامي، أتمنى لو أكتب المفارقات والصور.
*
ينام الشحاذون في المترو أحيانًا. يصحبون معهم أكياسًا كبيرة تفوح منها رائحة عفنة. رائحتهم أيضًا تنتشر في المقطورة. أحيانًا أغيِّر مكاني كي أبتعد من مصدر الرائحة.
*
في المناطق المكشوفة في المترو يتناهى إلى سمعي المحادثات التليفونية الخاصة. أسرار تصلك بالعربية والإنجليزية. أبتسم وأنا أستمع إلى امرأة عربية تشتكي من زوجها، أو العكس.
*
يحدث أن أنغمس في قراءة رواية وأجتاز المحطة التي سأنزل فيها، حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن سبب تأخري عن العمل.
كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا.
عمر العادلي: ضجيج لا يُسمع وسرعة تُرى
القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م، ليس فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي والانتشار في المدن الجديدة المنتسبة لهذه المدينة العريقة، فهناك بعض المدن التي لا علاقة لها بالقاهرة جغرافيًّا، لكن يبدو أن أصحابها سعداء بالانتساب غير الدقيق للعاصمة المصرية.
في عام 1986م لم يكن هناك سِوى بعض أعمال حفر لما سمعنا في تلك الأيام أن اسمه مترو الأنفاق، ومترو الأنفاق الذي يجري في إنجلترا منذ عام 1899م لم يدخل إلى القاهرة إلا في عام 1987م، وكان المترو حدثًا يعدّ الأبرز وقتئذ، فمن حيث الأهمية فهو وسيلة المواصلات الأسرع على الإطلاق، ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة الفرنسية المشرفة على المشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة، لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة العدّ التنازلي، وفي صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة مترو أنفاق كالذي يجري في لندن وروما وباريس.
هذه المدينة، القاهرة، جدَّد فيها المترو شبابها في السنوات الأولى من عمله، فقد كانت قد وصلت حد الترهُّل والبدانة، وأصبحت المواصلات العامة في حالة يرثى لها، فيمكن أن يستغرق قطع عشرين كيلو مترًا أكثر من ساعتين، وقد كان المترو يقطع المسافة نفسها في ثلث ساعة فقط لا غير. تغير شكل الانتقال في القاهرة، وتغير معها نظرة الناس بشكل عام، فأصبح متاح لإنسان أن يعطي بسهولة موعدًا ويستطيع الالتزام به، وذلك ببساطة لأن فرق توقيت مترو عن آخر لم يكن يزيد على خمس دقائق، ويمكن القول: إن المترو كان أداة تجميل ضرورية ولازمة بسبب التكدس الذي ضرب المدينة العريقة، وجعلها تستوعب أكثر مما يكفيها من البشر بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.
بعض المثقفين فضلوا التنقل عن طريق المترو بدلًا من التاكسي أو وسائل المواصلات العامة، فقد ربط المترو بين مراكز ثقافية في أول المدينة بأخرى على أطرافها، فلو أن هناك منتدى في المعادي مثلًا يُقدِّم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما أن يذهب إليه وهو يقطن في منطقة المرج أو منطقة الزيتون، هل كان يستطيع الوصول إلى هذه الضاحية البعيدة؟ الإجابة لا؛ لأنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعين كيلو مترًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكثر مما تسمح بالمرور، وكان من الصعب أيضًا أن تزيد هذه الكثافة السكانية العالية في هذا الزمن الوجيز دون حلول، فلولا مترو الأنفاق لانفجرت القاهرة.
الآن، وفي عام 2017م تمددت خطوط المترو، وأصبحت تربط أطراف القاهرة من جميع الاتجاهات، وهذا يَسَّر على الكثيرين سرعة التنقل ودقة المواعيد، إضافة إلى شيء آخر ألا وهو التخفف من الزحام قدر المستطاع، فالقاهرة يعمل بها عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ملايين نسمة، يزورونها كل صباح ويتركونها في مساء اليوم نفسه.
روائي مصري.
صبحي فحماوي: كلام في المترو
هل كان حيوان «الخلد» هو أو من استخدم الأنفاق تحت الأرض ليمر بسلام آمن؟ وهل سيبقى الخلد حيًّا في أنفاقه تحت الأرض إذا ما قامت حرب نووية أزالت الحياة من على الأرض؟ في المدرسة كنا نقرأ في كتاب الإنجليزي أن المدينة التي يزيد عدد سكانها على مليون مواطن، لا يحل مشكلتها المرورية سوى المترو.. لكن مدينتنا عمّان التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي هذه الأيام على خمسة ملايين نسمة لم يصلها المترو حتى الآن. وللمعلومة فإن أول مترو أنفاق أسس في لندن عام 1863م، مقتبسًا من القاطرات البخارية، وأسس مترو الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1871م، تلاه مترو بودابست عام 1896م، أما مترو باريس فأسس عام 1900م، ويعد مترو لندن وشنغهاي هما الأطول من حيث خطوطهما، ويعد مترو طوكيو وموسكو هما الأكثر ازدحامًا.
قبل عشر سنوات في لندن نزلت بمصعد مسافة عشر طوابق تحت الأرض ليفتح هناك باب المترو، فكان في وجهي امرأة محجبة مستغرقة في قراءة القرآن.. أدهشني المشهد. أدهشني نفق سيارات «أوراسيا» الذي دشنته تركيا مؤخرًا ليربط الشطرين الأوربي والآسيوي لإسطنبول كأول نفق بحري تركي لعبور السيارات، بعد افتتاح نفق مرمراي للمترو، الذي يمتد مسافة حوالي 15 كم، منها 3.5 كم تحت مضيق البوسفور، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، وهو مؤلَّف من طابقين للذهاب والإياب، ليربط الطريق بين الضفتين الأوربية والآسيوية هناك، كما سيمكِّن 90 ألف سيارة من العبور خلاله يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين طرفي المدينة. ويعمل هذا النفق على توفير 25 مليون ساعة على المسافرين كل سنة، كما سيخفف 85 طنًا من التلوث الناتج عن السيارات. وأما النفق الأوربي، تحت البحر للقطارات والسيارات فيربط بين بريطانيا وفرنسا بطول 50.5 كم، وهو ثاني أطول نفق بحري في العالم؛ إذ إن نفق (سيكان) الياباني للسكك الحديدية، هو أطول نفق بحري في العالم حتى عام 2010م. ويتفوق النفق الياباني للسكك الحديدية، بطوله البالغ 53.9 كم، وكان يعد الأطول في العالم. وفي سويسرا افتتح نفق «غوتهارد» للسكك الحديدية بصفته الأطول والأكثر عمقًا، ويمر تحت جبال الألب في سويسرا، بطول 57 كم، ويربط بين شمال وجنوب أوربا. لتُنقل البضائع عن طريق القطار، بدلًا من نقلها برًّا عن طريق ملايين الشاحنات في العام.
كاتب أردني.
أمجد ريان: ضجيج حبيب إلى نفسي
علاقتي بـ«المترو»، علامة توحد بيني وبين أبناء جيلي جميعًا؛ لأن هذه العلامة تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع. تبدأ علاقتي بالمترو منذ الطفولة المبكرة في سن الخامسة وما بعدها، فقد كنت أعيش مع والدي في إحدى العمارات في شارع المقريزي، ويخترقه بامتداده خط مترو «مصر الجديدة» الآتي من ميدان «روكسي» متجهًا إلى ميدان «رمسيس»، وكانت الشقة فخمة وفي حي راقٍ، لا تتناسب مع المستوى الاجتماعي الحقيقي لوالدي ووالدتي، لكنها رمز لتطلعات الطبقة المتوسطة الصغيرة المرتبكة اقتصاديًّا دائمًا. وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسين» في كلية الآداب لشدة فرحه بعروسه أجّر لها هذه الشقة، وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر. كان والدي مدرسًا للغة العربية في مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات، وكان راتبه الشهري أقل من ثلاثين جنيهًا، فأجَّر هذه الشقة بسبعة جنيهات، وهو مبلغ كبير جدًّا بالقياس إلى ظروفه. وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش في حي «السبتية» الشعبي الفقير. وكانت علاقتي بمترو مصر الجديدة وطيدة، فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثًا هذا الضجيج الحبيب إلى النفس، ونوافذه فيها وجوه الركاب، وعيناي تتأملان هذه الرحلات التي لا تتوقف، وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله في رهجه وحركته الذاتية المطردة. وكنا نحن دائمي ركوب المترو، وبخاصة عندما نذهب لزيارة جدتي في «السبتية»، فكان المترو هو الذي ينقلني بين مشهدين أو حالتين هما الحي الأرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى، بكل ما فيهما من معانٍ ورموز ودلالات موحية. ولا أنسى أيضًا يوم «الخناقة» الكبرى التي اشتعلت في بيتنا بين والديّ، فوضعت أمي على جسدها أول فستان وجدته في الدولاب، ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» في حذائين وحملت أختي «آيات» الرضيعة وجرت بنا غاضبة، وفي المترو اقترب منا الكومساري طالبًا التذاكر، ولكن أمي أخبرته أنها لا تملك النقود، وأفهمته أنها في ظرف خاص، نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا على الفور دون أن ينبس ببنت شفة، ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه، كما أن أخلاق البشر وقتئذ كانت تفيض بالمسامحة وبالتعاون.
وظلت علاقتي بالمترو قوية، حتى بعد أن سكنت في «وادي حوف» بحلوان، وكانت تذكرة المترو القديم بقرش ونصف، ولكن الدرجة الأولى كانت بثلاثة قروش، وكان مجرد الدخول إلى المترو ينبئ بالمستوى الاجتماعي للركاب، وإن كانت المسألة قد تغيرت الآن في المترو الجديد (under ground) الذي استوردناه من فرنسا، وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت المترو الفرنسي في باريس، عندما دُعيت أنا والشاعرة «رنا التونسي» لنمثل مصر في مهرجان «لوديف» الشعري الدولي. أما الفرق بين المترو المصري والمترو الفرنسي فحدِّث ولا حرج، أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك المترو هناك، تجد أن معظم الناس يمسكون الكتب المفتوحة بين أياديهم، ولا تتوقف عيونهم عن القراءة، مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه في أثناء ركوب المترو.
شاعر مصري.
صلاح حسن: وسيلة عملية ونظيفة
مترو الأنفاق هو واحد من المشاريع المهمة التي تثبت أن قدرة الإنسان غير محدودة في استخدام الطبيعة لتسهيل حياة الإنسان، وجعله قادرًا على الاتصال بالآخرين مهما كانوا بعيدين عن بعض. نشهد اليوم في أوربا بالتحديد مشاريع عملاقة لمد الأنفاق تحت البحر، وقد نجح كثير من البلدان في ذلك، وأكبر الأمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا ببريطانيا، والمشروع العملاق بين أكثر من سبع دول أوربية لإنجاز نفق طوله مئات الكيلومترات. إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر في قطار يسير تحت الماء. بالنسبة لي وأنا أستخدم هذه القطارات بين وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة للوصول إلى المكان الذي تريده دون تضييع كثير من الوقت، لكن نحن العرب معتادون على المساحات المفتوحة، نخاف من هذه القطارات لأسباب سيكولوجية، وهي الخوف من الأماكن المغلقة مع أنها غير مبررة طالما أثبتت نجاحها المستمر.
شاعر عراقي.
هاني الصلوي: صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع
يعد المترو -بلا شك- من أهم وسائل المواصلات الحديثة عند العرب وغيرهم بلا فرق أو مزية، سوى أنه ليس منتشرًا لدينا كعرب بل يكاد ينحصر في دول عربية ليست غنية البتة، عدا دولة الإمارات وأعني «دبي» تحديدًا، وحداثة المترو بين الدول نسبية (دخل بعض المدن في السنوات الأخيرة)، ولعل مسألة الكلفة المادية لإنشاء شبكة مترو العائق الأساسي لإنشاء مثل هذه الشبكة في الدول العربية الفقيرة، أما الدول الغنية حيث دخلُ الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات.. وهو أمر معروف وغير محتاج لتفصيل. الأدباء العرب انبهروا كالغربيين بهذه الوسيلة الحديثة والمختلفة، بوسيط نقل متداخل كهذا، بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار، أي أن الاندهاش بالمترو وليد الاندهاش التاريخي بالقطـار، فليس المترو سوى قطار حديث، وكذلك التراموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بين القطار الكلاسيكي وقطار الأنفاق، بل إن بعض الدول بنت شبكة المترو على سكك الترام (التراموي).
على المستوى الأدبي شكَّل القطار (الجد) صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع قراءة وكتابة، تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال والاسترخاء والتأمل، كتب كثير من الأدباء أعمالًا أدبية على القطارات في أسفارهم الطويلة أو المتوسطة من دون اشتراط تعلق موضوعات أعمال هؤلاء بالحياة على القطار، بل عهدت شركات القطارات في الغرب لمنظمي فعاليات ثقافية بتسيير الحياة اليومية على القطارات. قد توظف شركة قطار شاعرًا، يسافر في وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين، ويشبه ارتباط الأديب العربي والكاتب غيره في ممارسة الحياة على القطارات عدا في سِمة ارتباط القطارات في أوربا -في حالات ما لا يشترط تواترها- بفعليات ثقافية وفنية… كان القطار وما زال وسيلة سفر، وهو ما منحه ما مر من سمات في علاقته بالأدب أو الكتابة، أما مترو الأنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخلي داخل المدن مما يجعل ممارسة الانتقال عبره سواء تمت بشكل يومي دوري أو غير دوري، متسمة بالسرعة ومحاولة الإنجاز واللحاق بالمهمات أو أماكن الراحة.
إنه سياق نقل متوتر وآني، وإذا افترضنا أن هناك من يستغلّ لحظات امتطائه من الأدباء للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثيرًا) سيكون المقروء خفيفًا وقليلًا يتناسب مع الوقت وطريقة استخدام هذا الوسيلة ووقتها، سيكتب كاتب ما على سبيل المثال قصة قصيرة جدًّا بدلًا من رواية أو قصة. ومضات صغيرة وليست قصائد.. من جانب آخر يوفر مترو الأنفاق أوقـاتًا منزلية ثرية لممارسة الإبداع بعيدًا من الازدحام وضياع الوقت في الطرقات، مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة المترو الإشكالية. في حالة كان المترو (قطار أنفاق) لا بد أنه يمنح الذهن فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سير القطار في الأنفاق المظلمة، وهي مجالات ذهنية وخيالية استغلها التفكير الفني الإنساني منذ الوهلة البكر، نجد ذلك في أفلام السينما تحديدًا، والبرامج التصويرية، والروايات والشعر… يشبه الاعتماد اليومي أو المنقطع على وسيلة المترو طقسًا روحيًّا قديمًا… هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا.
شاعر يمني.
يسري حسان: دليلك لمعرفة الشخصية
المترو دليلك الصادق لمعرفة الشخصية المصرية.. على المحطات يتراص المواطنون، وبمجرد أن يفتح القطار أبوابه، ودون إتاحة الفرصة لهبوط الآخرين، يندفع الجميع للركوب وتحدث المشادات في المحطات التي يحدث فيها تبديل للقطارات، مثل محطتي السادات والشهداء، تلاحظ أن من يغادرون قطار الخط الثاني مثلًا ليستقلوا قطار الخط الأول أو العكس، جميعهم يهرول للحاق بالقطار، ويأخذون في وجوههم المتجهين إلى القطار الآخر، كثيرًا ما طرحني أحدهم أرضًا وهو يهرول للحاق بقطاره، وأحيانًا كنت أقوم سريعًا فيأتي غيره ليطرحني مرة أخرى، وهكذا..!
القطار في الغالب يأتي كل دقيقتين أو ثلاث، والمواطنون، في أغلبهم، ليس لديهم مواعيد أو اجتماعات لتغيير العالم، فلماذا إذًا يهرولون بهذه الطريقة؟ ظني أنها مسألة في لا وعيهم، فالفرص دائمًا ما تضيع منهم والوعود التي يتلقونها من حكامهم لا تتحقق في الغالب، لذلك فهم يهرولون لاقتناص فرصة وجود القطار؛ لأنهم لا يضمنون أن يأتي قطار آخر.
في المترو إذا كنت في محطة المرج مثلًا، التي تفصلها عن محطة حلوان ساعة على الأقل، لا تستغرب إذا سمعت هذا الحوار عبر الهاتف:
السلام عليكم
…………………
خمس دقايق وأكون قدامك
……………………
داخل على حلوان أهو ودقايق إن شاء الله وأوصل
…………………………..
محمد رسول الله
مجرد نموذج للشيزوفرينيا التي يعانيها المصريون، ويمكن أن تسمع أحدهم، على الهاتف أيضًا، يعتذر عن عدم قدرته على لقاء محدثه لأنه خارج القاهرة، لا تستغرب فهذا أمر طبيعي يدل على قوة خيال المصريين!! وداخل المترو أنت في مبنى الإذاعة والتليفزيون، اخترعوا سماعات للهاتف المحمول لكن أغلب المصريين يحبون المشاركة، فمنهم من يُسمعك القرآن الكريم، ومنهم من يسمعك أغاني المهرجانات، ومنهم من يسمعك موسيقا رومانسية حالمة، وعليك أن تستوعب كل ذلك معًا، وإياك أن تعترض على أحدهم، وبخاصة لو كان يدير هاتفه على محطة القرآن الكريم.
من قال لا أعرف فقد أفتى، لكن كل المصريين يعرفون، فإذا سألت أحدهم عن مكان تقصده حتى لو كان يسمع به لأول مرة فلا بد أن يصف لك مكانه، ولسان حاله وهو يودعك يقول: «مع السلامة يابو عمة مايلة» كما فعل أراجوز صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة في الريفي الذي سأله عن مكان يقصده فأرشده إلى سكة اللي يروح ما يرجعش!!
والمترو أيضًا أفضل مكان للتسول، جميع المتسولات منتقبات، وكلهن يروين هذه القصة: «زوجي توفي وترك لي خمسة أبناء، واحدة منهم مصابة بالفشل الكلوي، وتغسل ثلاثة أيام في الأسبوع، واليوم موعد الغسيل الذي يتكلف أربع مئة جنيه وليس معي سوى مئة وعشرين جنيهًا.. ومن لا يصدقني يتصل بقسم الغسيل الكلوي بمستشفى الدمرداش» هو قسم مجاني بالمناسبة!! راقبتُ إحداهن في عربة واحدة من القطار الذي يضم عشر عربات، فاكتشفت أنها حصلت على أكثر من مئة جنيه، اضربْها في عشرة ولا تتعجب إنه عبط المصريين. في المترو حركة بيع وشراء رهيبة من كروت المحمول إلى مشابك الغسيل إلى الملابس الداخلية، ويا ويلك لو قلت لأحدهم: إن المترو ليس مكانًا للبيع والشراء، سيقول لك أحد الملتحين: «ربنا لا يجعلك من قاطعي الأرزاق، دعه يسترزق».
أحب المترو وركوبه، والدقائق التي أقضيها بداخله تمنحني طاقة وحيوية وتجعلني قريبًا من أمزجة الناس وتصرفاتهم واهتماماتهم.. وهم في الأول والآخر أهلي وناسي، ثم من أدراك أنني لا أكون في حلوان وأخبر محدثي على الهاتف أنني على أبواب المرج وأغلق معه قائلًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عظيمة يا مصر!!
شاعر مصري.
إيناس العباس: كاميرا تراقب التفاصيل
المفارقة أنني لم أستعمل المترو في تونس، إنما في سيؤول وفي دبي، وإن كانت متروهات سيؤول في معظمها تمر عبر الأنفاق، فهي عالم كامل من المفاجآت المبنجة للعين والأفكار التي استعملتها لاحقًا في كتابي حكايات شهرزاد الكورية. عالم تحتي كامل من المحلات والمطاعم كشف نفسه مع لمسات حميمية، ستجد محلًّا يبيع أحدث الأفلام أو أدوات الصيد وبجانبه محل ملابس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن المسائية، من يقرأ في الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب جالسًا أو واقفًا… الصبايا الضاحكات صباحًا في مهرجان من الألوان والفساتين القصيرة والأحذية العالية بطريقة لافتة هن اللائي يشاهدن الدراما الكورية مساءً متعبات… وأنا هناك مثل كاميرا تراقب التفاصيل وتحتويها. في دبي، المترو يعبر من فوق الطرقات، يعبر المدينة في جولة شبه كاملة سياحيًّا، لو استعملتها من أول إلى آخر محطة، ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلًا، أو ربما كان الخط الذي استعملته لأشهر لا يمر ناحية الجامعات، لست متأكدة… ذاكرتي البصرية تحتشد بتفاصيل الممرضات والعاملات في المطار ومشرفات الطيران. أما مترو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م، أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمترو والعربات نفسها، أذكر أنني للحظة شعرت كأنني في فلم أميركي، حيث بدت المحطة ضخمة ومليئة بالاحتمالات والحكايات.
شاعرة وكاتبة تونسية.
عزة حسين: شبكة صيدٍ طائشة
شرق قريتنا، التي لم تعرف من الآلات سوى ماكينة الطحين، كان هدير القطار، على الشريط الحدودي الموازي للطريق لكل شيء، آسرًا. أيام كنا لا نلتفت لدرجة العربة العملاقة، ولا لفخامة المقاعد، كان هذا الكبير لا يعني سوى الرحلة. الأحلام المدونة على أغلفة الكراسات، وجدران البيت الأسمنتي، كانت تعرف أن نقطة البداية، لا بد أن تتم بمباركته.
كل الوداعات لا تكتمل سوى بمحاذاة قطار، واللقاءات أتخيلها دائمًا مصادفةً سعيدةً على مقعدين متجاورين في قطار. أما الأسى فتكفيه جملة: «كل القطارات تحملني إليك ولا وصول». كمغتربة؛ احتفظت بهذا الوصف، منذ التحقت بالمدرسة التي تبعد من قريتنا نحو 10 دقائق بالسيارة، قبل أن تمتد يد، طالما انتظرتها، لتغرسني في قلب العاصمة، كان الطريق بيتي. ففي السابعة عشرة، وأنا أودع عائلتي، حاملةً أكبر حقيبة ملابس عرفتها في تلك السن، أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا، لكن روحي لم تصمد كثيرًا في المرفأ الجديد، وظل قلبي على الدوام عالقًا في الطريق- القطار. في القطار كان كل شيء جديدًا، بلا خبرةٍ سوى بعض حكايات مغتربي العائلة، ومشاهد أفلام السينما: الفقر، والبرد، والمزاح بدرجاته، والبضائع، والبشر، والمعممون، والأفندية، والطلبة، وبائعات الجبن، والخبز، وبائعو «كل شيءٍ بجنيه»، كانوا رفاق طريق؛ لم أعد أتفاداهم أو أخشاهم. وعندما صرت مدينيةً، واحدةً من أرقام وأصفار العاصمة، كان المترو بديل القطار، شبيهه الأقرب، والرفاق تغيروا إلى حد ما، وبخاصة عندما لُذْتُ ككل البنات بعربة السيدات؛ لتفادي كل المخاطر! في البداية لم أرتح للمترو؛ لكونه يسرق مني الطريق، بمساراته المظلمة، وجدرانه التي لا تشبه بأي حال الماء والنخيل والمدن التي تتآكل، بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إلى هنا، لكنها العادة تطغى على كل شيء في العاصمة.
خبرت في المترو إلى أي مدى تتشابه النساء، كيف يمكن أن تتحاور غريبتان بالنظر، وكيف تتوحد الحياة والأمنيات العابرة في برهة من الزمن، في مقعد صغير ونافذة، يمكن أن ترسم الأنفاس عبرها قلبًا واهنًا وحروفًا مرتبكة. طالما اعتقدت أن ركاب المترو مختلفون عن غيرهم في أي وسيلة انتقال أخرى، تلك الرحلة الخطية في الزمن والمسافة، المكرورة بنفس تفاصيلها، وبأقل احتمالات المفاجأة، تُكسِب روادَها ملامحَ خاصةً، تحكم قراراتهم، وانحيازاتهم وأفكارهم عن المغامرة، وعن مفارقة المسار، وعن هيئة الطمأنينة. المترو في مدن الزحام، ليس طريقًا ولا عربة، إنه مدينةً أخرى، وزمن موازٍ، طالما استفقت لنفسي في المحطة المنشودة، دون أن أتذكر شيئًا عن تفاصيل الرحلة، كثيرًا ما تشابهت عليّ محطات الوصول، وكثيرًا ما أضعتها عمدًا.
المترو حيث أنا هناك الآن وفي بيتي أيضًا، وحيث عشرات الاحتمالات والمصادفات والوجوه المفقودة، وسيلة مناسبة جدًّا للعواصم والمدن الكبرى، كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد، تمتلئ وتفرغ يوميًّا، دون أن تعرف الأسماك أو الشبكة أيهما يسحب الآخر. وبالنسبة إلي نادرًا ما كان المترو مكانًا للكتابة، لكنه احتشاد يومي لها، هو ربما كهف التأمل، برهة الصمت وسط الضجيج اليومي، ولوحة الحياة، بتجلياتها الساكنة والمهرولة. في بعض الأحيان، وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر، كتبت بعض القصائد في المترو، لكنها كانت قصيرة نسبيًّا، وغائمة.
شاعرة مصرية.
محمد أحمد بنيس: مهاجرون يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق
لم يعد مترو الأنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور المجتمعات المعاصرة وتزايد إقبال الناس على وسائل النقل العمومية، في ظل اتساع المدن والحواضر وتمددها المرعب في عدد من بلدان العالم. أصبح المترو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة الأفراد داخل هذه المجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية والاقتصادية أفقًا لتطلعاتها، غربة متعددة الأوجه أمام سلطة هذه الحداثة. تقدم المحطات والأنفاق والسلالم وشبابيك التذاكر الإلكترونية صورة لسلطة المترو في مدن كبرى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غير محتمل، يغذيه سيل السيارات والحافلات الذي لا يتوقف. مئات الرجال والنساء يتدفقون على الأنفاق، تسبقهم أنفاسهم المتقطعة، وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بين وصول القطارات، يشتركون في ذات الملامح التي لا روح فيها تقريبًا. محطات متناثرة على طول المدن الكبرى لتربط بين أطرافها، تنتظر الصباح الباكر لتبدأ في ابتلاع هذه الأمواج البشرية التي تتلاحق حتى منتصف الليل.
في مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة ودبي وبوينوس آيرس وليما، ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها تتشابه في كل شيء إلا في أسمائها. تترك تفاصيلُ المكان بصمتها على المترو، فتصبح له هوية محلية، أتذكر مثلًا صورة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في إحدى محطات بوينوس آيرس، كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبير، ربما في موقع لا يتوقعه عابر مثلي. في دُبي، يبدو المترو جزءًا من تلك «التسوية» بين التقليد والحداثة التي تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة في بلدان الخليج العربي. في القاهرة، تكاد لا تحس بأن المترو يخفف قليلًا عن المدينة العملاقة من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافلات وملايين الناس. في باريس ومدريد وبرشلونة، يجعلك المترو تتعثر بوجوه وسحنات المهاجرين من مختلف الأعراق والثقافات، عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون وغيرهم يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق، ينتظرون متى يفرغهم في هذه المحطة أو تلك.
من ناحية أخرى، تعكس شبكات المترو نوعًا من الوعي العمراني والحضري في بلد معين. مثل هذه المشاريع تمثل استجابة في أوانها لمشكلة النقل المتفاقمة في المدن الكبرى، بمعنى أنه في كثير من الأحيان، ومع اتساع وتمدد هذه المدن، في البلدان النامية على وجه الخصوص، يصبح إحداث شبكة للمترو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوائي وأحزمة الفقر، هذا فضلًا عن الكلفة المالية الكبيرة لمثل هذه المشروعات.
شاعر مغربي.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق