كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الأدب الروسي الحديث.. وأسئلة الراهن (أحمد الخميسي)
لعل واحدًا من أكثر الأسئلة شيوعًا فيما يخص حضور الآداب العالمية والتواصل معها عربيًّا، هو: أين الأدب الروسي اليوم؟ لماذا لم نعد نقرأ أعمالًا لكُتاب جدد يختلفون في حساسياتهم وفي رؤاهم عن تلك النخبة من الأسماء التي اكتسحت أعمالها المشهد الأدبي العربي عقودًا، وأثرت فيه على نحو عميق؟ ألم يعد الروس يكتبون أدبًا في مستوى ما قدّمه تورغينيف ودوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وباسترناك وأخمتوفا وماياكوفسكي وسواهم من أسماء تنتمي إلى تلك الحقبة أو غيرها من الحقب اللاحقة؟ أم أن الترجمة إلى العربية تعيش حالًا من الركود لأسباب قد تخصّ خيارات دور النشر أو قلة حيلة المترجم؟
«الفيصل» تنشر هنا مقالين لاثنين من المتخصصين في الترجمة عن الروسية، ومقالًا ثالثًا يتناول شخصية بوتين وصعود نجمه السياسي، على اعتبار أنه لا يمكن فصل الأدبي عن السياسي.
جذوره من الماضي، لم يستقر بعد على دروب واضحة. وعندما يدور الحديث عن الاتجاهات الحديثة في الأدب الروسي المعاصر، فإن المقصود هو الظواهر والنزعات الفكرية والفنية المختلفة التي ظهرت خلال تلك المدة بعد فك الارتباط الوثيق بين الأدب وتوجهات النظام السياسي الحاكم. هو إذن أدب « مرحلة التحول».. إلى ماذا وإلى أين؟ الإجابة تستدعي أن نعرف ولو في عجالة «التحول من ماذا؟» وقد يكون القارئ على اطلاع بصورة الحريات والثقافة القاتمة في العهد السوفييتي، لكنه على الأرجح لم يضع يده على حقيقتين تاريخيتين استندت إليهما السلطة، وشكلتا الأساس الفكري والقانوني لملاحقة الإبداع والتنكيل بالأدباء على النحو المروع الذي جرى.
الحقيقة الأولى خاصة بصدور قانون المطبوعات الذي نشرته الحكومة عقب الثورة في 27 أكتوبر 1917م، وأقرت به وقف نشاط الصحف والمطبوعات «المعادية» وبناء عليه أغلقت في الشهرين الأولين من عمر الثورة أكثر من مئة وخمسين صحيفة. وفي حينه وعد لينين زعيم الثورة أن ذلك القانون «قانون مؤقت تفرضه الظروف» وأنه ما إن تستقر أوضاع الثورة حتى ينال الشعب «أكثر القوانين تقدمية». لكن القانون «المؤقت» تحول إلى قانون دائم، وظل يحكم الحياة الثقافية في روسيا والاتحاد السوفييتي ثلاثة وسبعين عامًا كاملة إلى أن صدر قانون جديد للصحافة والمطبوعات في 20 يونيو 1990م! هذا على مستوى الثقافة والإعلام إجمالًا. أما في المجال الأدبي فتبرز حقيقة أخرى رُسِّخت في المؤتمر الأول للأدباء السوفييت
عام 1934م، وفيه قام المؤتمر بزعامة مكسيم غوركي وأندريه غدانوف بتدشين نظرية ومصطلح «الواقعية الاشتراكية» مذهبًا أدبيًّا رسميًّا للإبداع. ومع أن تاريخ الأدب يشير دوما إلى انحياز النظم السياسية للمدارس والاتجاهات الأدبية التي تخدم النظام الحاكم، فإنه لم يحدث على امتداد ذلك التاريخ كله أن اتخذت دولة لنفسها مذهبًا أدبيًّا رسميًّا إلا في الحالة السوفييتية! وكان ذلك يعني فعليًّا أن فتح أي مسارات جديدة للخيال والأدب -خارج نطاق عقيدة الدولة الأدبية- خروج على الدولة والنظام السياسي!
القضاء على حرية الأدب
هكذا قضى قانون الصحافة بشكل عام على حرية التعبير، وقضى تبني مذهب أدبي على حرية الأدب وتنوعه، وصودرت حرية التعبير وحرية الأدب مع احتكار حزب واحد للسلطة. وما بين مطرقة قانون الصحافة وسندان «المذهب الأدبي للدولة» طارت رؤوس الأدباء وصودرت أعمال ونفي كُتَّاب إلى معسكرات الاعتقال وراحت الدولة تلاحق كل من يفكر أو يشعر خارج إطار السياسة الرسمية المعتمدة، وأغلقت الجمعيات والروابط الأدبية، وطرد المبدعون من اتحاد الكتاب، وضُيِّق عليهم في أرزاقهم وفيما يكتبون. وفي أثناء تلك الصورة القاتمة لاحت غارقة في ظلال الموت والأسى أسماء وأرواح شعراء عظماء مثل: أنا أخماتوفا وزوجها الشاعر نيقولاي غوميليوف الذي أُعدم بتهمة ملفقة بعد محاكمة صورية، والقاصّ
العبقري أندريه بلاتونوف، والروائي المذهل ميخائيل بلغاكوف صاحب الرواية العبقرية «المعلم ومرغريتا» انتهاء بالكاتب الساخر ميخائيل زوشنكا الذي كان يسخر دون توقف من كل المظاهر السلبية، فأجبرته الدولة على الصمت والعزلة. وتأرجحت في سماء روسيا وطوايا ضميرها أنشوطة الانتحار مُلتفّة حول أعناق الأدباء، وكان في مقدمتهم الشاعر العظيم سيرجي يسنين الذي عثروا عليه في ديسمبر 1925م معلَّقًا بأنشوطة في حجرة بفندق «إنترناشونال» وقد ترك بيتين من الشعر على قصاصة يقول فيهما: «ليس ابتكارًا أن تموت وأن تحيا ليس أكثر ابتكارًا».
الأوضح دلالة أن يجدوا بعد ذلك فلاديمير ماياكوفسكي الذي حسبوه «شاعر الثورة والطبقة العاملة» منتحرًا برصاصة في إبريل 1930م! وتقطر الأجواء بمآسي الأدباء العزل الذين واجهوا فرادى كل ذلك الطغيان، فتدخل الشاعرة الروسية العظيمة مارينا تسفيتايفا إلى حجرة منعزلة في بيتها لتنهي حياتها بأنشوطة في 31 أغسطس 1941م وهي في التاسعة والأربعين شاعرة ملء السمع والبصر، مخلِّفة وراءها قصائدها الملهبة ومغزى مصيرها الفاجع. أما دواوين الشعر والروايات والقصص غير المرضي عنها فقد ظلت دفاترها حبيسة خزائن حديدية لأكثر من ثلاثين عامًا في مقرّات اتحاد الكتاب! ولم ينجُ منها سوى الأعمال التي تمكَّن أصحابها من تهريبها إلى خارج روسيا بمعجزة فطُبعت ونُشرت هناك.
بعد موت الزعيم السوفييتي ستالين وصل زعيم جديد إلى الحكم عام 1955م هو نيكيتا خروتشوف، ومعه ظهرت بوادر انفراجة صغيرة عُرفت بمرحلة «ذوبان الثلوج» نظرًا لسماح الرقابة بنشر رواية إيليا إهرنبورغ «ذوبان الثلوج»، لكن سرعان ما سُدَّت تلك الانفراجة لتتجمد الثلوج في الصقيع ثانية بعد أن نشر ألكسندر سولجينتسين روايته الشهيرة: «يوم في حياة إيفان دينيسوفيتش» عام 1962م راصدًا فيها بشاعة معسكرات الاعتقال، ثم أعقبها بعمله الكبير: «أرخبيل غولاغ» في 1965م (جزر المعتقلات) وسجل فيه من واقع رسائل المعتقلين إليه عمليات التنكيل البشعة من عام 1918م إلى 1956م، وتمكن من تهريب الرواية إلى باريس حيث نُشرت كما حدث مع رواية: «دكتور زيفاغو» تأليف باسترناك وغيرها. ولا يستنكف الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف عن التصريح في 7 يناير 1974م داخل اجتماع رسمي وعلنًا بأن روايات سولجينتسين تمثل «هجاء فظًّا للسوفييت.. ومن ثم فإن لدينا كل المسوغات الكافية لوضعه في السجن»! وتظل البيروقراطية الحزبية تحكم وتنفي وتشيع الخوف إلى أن ظهرت البيرسترويكا (سياسة إعادة البناء) في يونيو 1987م، فتشرع الكلمة في فك قيودها وسلاسلها، وتتقدم الحقيقة لتعلن عن نفسها سياسيًّا وأدبيًّا.
إبداع بلا ضفاف
«مرحلة التحول» الأدبي إذن هي مرحلة الانتقال من استبداد النظام السياسي وفرضه رؤية خاصة للأدب إلى التعددية السياسية وإلى إبداع بلا ضفاف على مستوى الشكل والمضمون. لهذا يصبح مفهومًا تمامًا أن يحدث في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين بعد وقف الرقابة على الأدب ما أسماه أحد الكتاب «انفجارًا أدبيًّا في كل الاتجاهات». وقد اتخذ ذلك الانفجار أشكالًا شتى، كان في مقدمتها في ظل التحول التاريخي بروز تيار أدبي كامل يتقدم حاملًا رايات (الرواية التاريخية) لمراجعة الماضي القاتم، وإعادة قراءته على ضوء جديد، ليتلمس الحقيقة بين ركام الأكاذيب. لهذا يرصد النقاد 12 رواية من أصل 20 رواية تُدوولت في روسيا عام 2016م هي روايات تاريخية إلى جانب أربع روايات شبه تاريخية؛ منها: «يوم من أوبرشنيك» تأليف فلاديمير سوروكين، وأيضًا رواية «حلم حياة سوخانوف» لأولغا غروشين، وتتناول وضع المرأة في العهد السوفييتي، ورواية «التاريخ السري لموسكو» تأليف يكاترينا سديا، وفيها تستعرض الكاتبة حياة موسكو في تسعينيات القرن العشرين، وأخيرًا رواية «سانيكا» لزاخار بريلبين عن شخص عالق بين عهدين الماضي الشيوعي والحاضر الرأسمالي. كما فازت رواية الكاتبة يليينا كوليادينا المسماة «الصليب المزهر» بجائزة البوكر الروسية في عام 2010م، وفيها تعتمد الكاتبة مباشرة على مواد أرشيفية من القرن السابع عشر تسجل أحداث إحراق فتاة شابة بتهمة مزاولة السحر.
الاتجاه التاريخي ظهر أيضًا في رواية الكاتب المعروف فيكتور أستافييف «الملعونون والقتلى» التي تعري جوهر الحروب من الداخل، وتعيد النظر في كل ما جرى، وقد حوِّلت الرواية إلى مسرحية عرضت في عام 2010م على مسرح موسكو الفني، ولاقت رواجًا كبيرًا. ولعل أبرز ما يشير إلى اتجاه الرواية الروسية الحديثة إلى التاريخ بقوة هو منح جائزة نوبل للكاتبة سفيتلانا ألكسيفتش عام 2016م، وعلى الرغم من الطابع الصحفي لأعمالها، فإنها تصبّ في مراجعة التاريخ السوفييتي، كما فعلت في روايتها «أبناء الزنك» والمقصود بالزنك هو المادة التي تصنع منها توابيت جثث الجنود الروس العائدة من أفغانستان خلال الحرب السوفييتية هناك ما بين عامي 1979- 1989م. إذن تلوح الرواية التاريخية كأحد أهم التيارات الأدبية الروسية الحديثة، وأعتقد أن ذلك مفهوم ومبرر حينما يجد الإنسان أن عليه أن يعيد بناء تاريخه من منظور آخر أدبيًّا وفكريًّا وسياسيًّا.
على صعيد آخر، لا يمكن تجاهل حقيقة أن التيار الأدبي الأكثر رواجًا هو تيار أدب التسلية الجماهيري: أي الروايات البوليسية، وروايات الغرائز الجنسية والخيال العلمي. ويعود ذلك الرواج الهائل إلى النظرة السوفييتية السابقة إلى مثل ذلك النوع من الأدب الذي حظرته على أساس أنه «غير هادف»، ومن ثم فإنه لم يكن عمليًّا متاحًا للقراء على مدى أكثر من سبعين عامًا. وهي النظرة التي تجاهلت أن ذلك الأدب الجماهيري بأنواعه خاطب ويخاطب دومًا حاجة الإنسان الملحّة إلى التخفف من أعبائه بدرجة من الفن، وليس بكل أعماق الفن. لهذا غرق القارئ الروسي مع الانفتاح الفكري في قراءة روايات أغاثا كريستي، وشرلوك هولمز، وجيمس تشيس، ودارت بقوة عجلة الترجمة في ذلك الاتجاه المربح، على الرغم من أن ذلك النوع ليس جديدًا على الأدب الروسي، فقد سبق أن كتبه في الأربعينيات أدباء مثل: ليونوف، ودانييل كاريتسكي في السبعينيات، وغيرهما. أما في السنوات الأخيرة فقد ظهرت كاتبة مثل ألكساندرا ماريننا منذ عام 1995م بروايتها «الفصيح»، والكاتبة بولينا داشكوفا التي وصلت مبيعات إحدى رواياتها إلى عشرة ملايين نسخة! ومن أشهر أعمالها رواية «خطوات الجنون الخفيفة»، وهناك أيضًا بوريس أكونين ومن أشهر رواياته «مهمات خاصة» و«عشيقة الموت» وغيرها. وفي مجال الخيال العلمي برز نيك بيروموف صاحب روايتي «وحدة الساحر» و«حارس السيوف»، وغيره.
وإذا نحينا جانبًا تياري «الرواية التاريخية» و«أدب التسلية الجماهيري» وهما الأكثر انتشارًا وتحددًا شكلًا ومضمونًا، فإن العنوان العريض الذي يجمع التيارات الأدبية الأخرى هو «ما بعد الواقعية» وفي مقدمتها الواقعية السحرية، والسوريالية، والفانتازيا، والعودة إلى الأساطير مادة للعمل الروائي، وأيضًا التيار المعروف باسم «Nonfiction» (ضد القصة أو اللاقصصي) حيث يختلق الكاتب سيرًا ذاتية لشخصية من العظماء. ولعل أبرز نموذج على ذلك النوع رواية الكاتب بافل باسينسكي المسماة «ليف تولستوي. الهروب من الجنة» وفيها يتخيل الكاتب وفق قصة هروب الكاتب العملاق تولستوي منذ مئة عام من بيته في ضيعته «ياسنايا بوليانا» ليلًا، وهي من الأحداث العائلية القليلة جدًّا التي أصبحت جزءًا من تاريخ الأدب العالمي واهتماماته. وقد أصبحت هذه الرواية أفضل كتاب بيع في معرض الكتاب الدولي الروسي بموسكو عام 2010م.
وتشارك أجيال مختلفة في خلق «أدب ما بعد الواقعية» من بينها أدباء جيل الستينيات الذين عاصروا الحقبة السوفييتية مثل: فاضل إسكندر، وفالنتين راسبوتين، وفاسيلي أكسيونوف، وغيرهم، وأدباء جيل السبعينيات مثل: فيكتوريا تاكورييفا، وأندريه بيتوف، وغيرهما. أما الجيل الثالث فهو جيل الأدباء الذين ظهروا بعد زوال الاتحاد السوفييتي، مع سياسة إعادة البناء (بيرسترويكا) وفي مقدمتهم تاتيانا تولستايا بمجموعاتها القصصية «الجدران البيضاء» ومجموعة «الدائرة»، وأيضا الكاتب فيكتور بيليفن، وفلاديمير سوروكين، وغيرهم. وهو الجيل الذي بدأ يكتب في عصر لا يعرف الرقابة على الأدب، فاستهواه ما يسمى بتحطيم الطواطم المقدسة، أي الخوض في كل ما كان محظورًا بشأن الجنس والعقيدة والسياسة.
الخروج على النظرة التقليدية
عند نهايات القرن الماضي تألق أدباء من جيل آخر تمامًا، لعلهم أكثر أبناء الجيل الحديث موهبةً واقتدارًا، مثل: سيرجي شارغونوف، والروائي كوتشيرجين، وأيضًا الكاتب المبدع زاخار بريليبين الذي فازت روايته «الخطيئة» بجائزة «البوكر الروسي» التي تأسست عام 1991م في روسيا وفقًا لنموذج جائزة البوكر البريطانية بصفتها أول جائزة أدبية ضخمة في روسيا منذ عام 1917م، وقد لاحظ النقاد أن الجائزة تولي اهتمامًا خاصًّا لأولئك الذين خرجوا عن طوع النظرة التقليدية. عند أبناء ذلك الجيل الذي بدأ الإبداع من دون رقابة، وفيما يكتبونه، سنشهد بقوة تلك المرتكزات الفكرية التي تتقاسمها حركات أدبية عديدة في العالم، وفي مقدمة تلك المرتكزات الإيمان بأن عهد الأيديولوجيا والقضايا الكبرى قد ولى من زمن، وأن معنى الوطن قد اهتز وتبدل، ولم يعد من الممكن التعلق بنموذج أو مثال يحتذى، ولا الحلم بعالَم فاضل، فقد سقط كل المثل، وأن معركة الأدب الوحيدة تدور ما بين الإنسان وداخله، وفي عالم من ذكرياته الحميمة، وهواجسه، ولهذا كثيرًا ما يُركَّز على الشكل في تلك الأعمال، والأنا، والدوران المنهك حول الذات كنقطة انطلاق لأي شيء، مع إدارة الظهر للعالم الواقعي بمعناه القديم الاعتيادي، فإن كان ثمة صراع قد تبقَّى فإنه الصراع بين حرية الذات الإنسانية والنظم الشمولية التي تسحق الإنسان أينما كانت، ولعل أبرز ممثلي ذلك الاتجاه هو فيكتور بيليفين رغم انتمائه لجيل سابق. وسينتبه من يتابع إلى أن الرؤى الفكرية والفلسفية العامة التي امتاز بها الأدب الروسي الكلاسيكي قد غربت تمامًا في أدب «مرحلة التحول»، فلم يعد يلوح أديب مثل ليف تولستوي صاحب الحرب والسلام ونظرته الأخلاقية والفلسفية للعالم، وكيف ينبغي أن يكون، ولا دوستويفسكي الذي حسب أن «الجمال سينقذ العالم» وأن «الشفقة» وحدها هي القانون الذي يحكم الكون. لن نرى في أدب «مرحلة التحول» نظرة شاملة للإنسان والكون إنما مجرد السير المنهك بحثًا عن نور وأمل، وبحثًا عن هوية في عالم تتداعى فيه الهويات القومية والفكرية.
التفاعل الثقافي العربي الروسي
يبقى التحدي الأكبر أمام الجيل الجديد من الكتاب متمثلًا في العثور على الطريق الذي يمتد من إنجازات الأدب الروسي الكلاسيكية العظيمة مفضيًا في الوقت ذاته إلى مسارات جديدة وآفاق رحبة، تضيف الجديد إلى دفتر التفاعل الثقافي العربي الروسي الذي كتبت أول سطوره مع دخول الإسلام آسيا الوسطى المتاخمة لروسيا في القرن السابع الميلادي، وجنوب روسيا نفسها في داغستان والشيشان بالقوقاز، ثم جاءت بعد ذلك رحلة ابن فضلان إلى روسيا مطلع القرن العاشر (922م) حين وصلها مبعوثًا من بغداد لنشر الإسلام، وكتب كتابه المسمى «رحلة ابن فضلان إلى الفولغا»، وقدم فيه صورة الشعب الروسي للمرة الأولى إلى العرب. وفي المقابل قدم الرحالون الروس صورة العرب إلى روسيا لأول مرة في كتاب «رحلة إيغومين دانييل إلى الأراضي المقدسة في القرن 12». وكان ذلك هو التعارف الأول بين الثقافتين، ومع نشأة الأدب الروسي ظهر أثر الثقافة العربية بقوة لدى أمير الشعراء الروس ألكسندر بوشكين (1799- 1837م) مؤسس الأدب الروسي مسرحًا وشعرًا وروايةً وقصةً، فقد قرأ بوشكين القرآن الكريم مترجمًا باللغة الفرنسية واللغة الروسية، وبلغ من تأثره به أنه طلب الاستماع إليه مرتلًا حين كان منفيًّا بين شعوب آسيا المسلمة، ثم كتب قصيدته «قبسات من القرآن الكريم» في تسعة مقاطع عام 1824م، وكتب لاحقًا «ليال مصرية» عام 1835م، وفي ذلك الوقت تحديدًا يطلب محمد علي باشا مؤسس نهضة مصر الحديثة من روسيا أن تساعده في تعليم المصريين «التعدين» لاستخراج الذهب من رمال السودان. ويتصل ذلك التفاعل في القرن 19، فيعكف الروائي العملاق ليف تولستوي على ترجمة بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الإنجليزية إلى الروسية، ويصدرها عام 1909م في كتاب بعنوان: «حكم النبي محمد» مقدمًا لها بدفاع حار عن الإسلام. وعندما حرمت الكنيسة تولستوي حقوقه كتب له الإمام محمد عبده رسالة بالفرنسية يهون فيها عليه قائلًا له: «وإن أكبر جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي يسميه الغافلون بالحرمان والإبعاد، فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين». ويرد تولستوي برسالة على خطاب الإمام.
ومع بدايات تبلور الثقافة المصرية القومية في ظل ثورة 1919م يقول الأديب الكبير يحيى حقي: إن القصة القصيرة ولدت بين جناحي موباسان الفرنسي وأنطون تشيخوف الروسي، حتى إن أدباء تلك السنوات كانوا يجلسون في المقاهي فريقين: أنصار تشيخوف، وأنصار موباسان. ولا تخلو قصص الأخوين عيسى عبيد وشحاتة عبيد (1920م) من الإشارة إلى المرأة الروسية ودورها ودعوة المصريات للاقتداء بها. وعندما بلغ نجيب محفوظ عامه التسعين وكان نظره وسمعه قد ضعفا، سألته إحدى الصحف عن الرواية التي ما زال يذكرها في هذه السن المتأخرة، فأجاب: «الحرب والسلام لتولستوي». كما تأثر نعمان عاشور في مسرحيته «الناس اللي تحت» بمسرحية مكسيم غوركي «الحضيض»، وتأثر يوسف إدريس بتشيخوف، واستمر ذلك التفاعل إلى يومنا أحيانًا بقوة وأحيانًا بضعف لكن من دون انقطاع.
وما زالت هناك صفحات كثيرة مجهولة لنا في الأدب الروسي، بعضها كتبها رحّالون إلى منطقة الخليج في القرن 17، و18، وصفحات أخرى جديرة بالاكتشاف والتعرف، مثلما أن روسيا ما زالت حتى اليوم تكتشف الدنانير والدراهم العربية الذهبية في المناطق الشمالية بها.
زوال الاتحاد السوفييتي أوقف الترجمة إلى العربية
لا شك أن حركة الترجمة قد قامت بدور كبير في التفاعل الثقافي، ورسخت العلاقات التاريخية السابقة على الترجمة، وقد بدأت تلك الحركة في روسيا فعليًّا في القرن 18 عندما أمر القيصر بطرس الأكبر (1672- 1725م) في خضم بناء دولة حديثة بنسخ بقايا الكتابات العربية المحفوظة في مدينة بلقار ذات الأغلبية المسلمة وترجمة تلك الكتابات، ثم إنشاء أولى مدارس المستعربين، ودخول اللغة العربية في مناهج التعليم الثانوي عهد يكاترينا الثانية في بعض المدن الروسية مثل أستراخان وغيرها. وفي عام 1804م بدأ تدريس اللغات الشرقية في الجامعات الروسية وأنشئ أول قسم للغة العربية. وبدأت تتسع حركة ترجمة الفكر والأدب من العربية. وشهدت تلك الحركة وثبة على يدي المستشرق الكبير أغناتيوس كراتشكوفسكي (1883- 1951م) الذي عُدت ترجمته القرآن الكريم أدق ترجمة أكاديمية مقارنة بما سبقها من محاولات، كما ترجم أعدادًا كبيرة من الأعمال العربية، وأشرف على إصدار «ألف ليلة» ونشر العديد من الدراسات والأبحاث المهمة قبل ثورة أكتوبر 1917م، منها: «تشيخوف في الأدب العربي»، و«الأدباء الروس في العالم العربي» وغيرهما، وساعده في ذلك أنه قضى عامين في البلدان العربية، والتقى خلالهما طه حسين ومحمود تيمور وجورجي زيدان وآخرين من رواد النهضة الثقافية.
ويمكن التأريخ لحركة الترجمة الحقيقية بأعمال كراتشكوفسكي، ومع ثورة 1917م وظهور الدولة السوفييتية بثقل مصالحها الاقتصادية والعسكرية تأسست عدة دور نشر في روسيا، عكفت على ترجمة الآداب العربية، وفي مقدمتها «دار التقدم»، و«دار رادوغا» (قوس قزح)، و«دار مير» (السلام)، والقسم العربي في «دار ناؤوكا» (العلم)، وقدمت تلك الدُّور ترجمات ممتازة لأعمال عمالقة الأدب الروسي: تورجنيف وتشيخوف، قام بها الأديب العراقي المعروف غائب طعمة فرمان، والدكتور أبو بكر يوسف، وغيرهما، وعلى صعيد آخر استطاع المستعربون الروس أن يقدموا للقارئ الروسي معظم الأعمال العربية المهمة بالروسية: رواية «زينب» لهيكل، وقصص محمد ومحمود تيمور، وعبدالرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، وبهاء طاهر، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وطه حسين، بل استطاعت المستشرقة الكبيرة فاليريا كيربتشنكو أن تترجم كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي وأن تنشره منذ عامين.
لكن حركة الترجمة تلك توقفت تقريبًا مع زوال الاتحاد السوفييتي وتراجع المصالح الروسية في العالم العربي؛ بسبب توقف دعم الدولة للمؤسسات الثقافية نهائيًّا، فوجد معظم المستعربين أنفسهم مرغمين على العمل في مؤسسات تجارية خارج نطاق العلم واللغة. بينما بدأت حركة الترجمة عندنا من الروسية إلى العربية في وقت متأخر، مطلع القرن العشرين، لكن الترجمات كلها كانت نقلًا من لغة وسيطة فرنسية أو إنجليزية، إلى أن ظهر في منتصف الستينيات عدد من الأساتذة العرب الذين أنهوا تعليمهم في روسيا، فأخذت تظهر للمرة الأولى ترجمات أدبية عربية مباشرة من الروسية تفادت كل أخطاء الترجمة من لغات وسيطة.
إلا أن حركة الترجمة عندنا من الروسية إلى العربية قد توقفت عندنا هي الأخرى تقريبًا، وهذا لأن سلسلة الدارسين العرب في روسيا قد انقطعت منذ نحو عشرين عامًا، بعد أن توقفت روسيا عن تقديم المنح الدراسية المجانية، مع هزال البعثات العلمية العربية إلى روسيا، بحيث لم يبق على الساحة الثقافية إلا عدد قليل من المترجمين العرب الأكْفاء ممن تعلموا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. من ناحية أخرى فإن أجور الترجمة الزهيدة نسبيًّا مع مشقة الترجمة أجبرت الكثيرين على تغيير مسارهم. ومع ذلك يظل الأمل في أن التفاعل الثقافي الروسي العربي سيعثر على طريقه لتستمر الثقافة والأدب في القيام بما قال عنه تولستوي «التعارف الروحي بين البشر»، ويتزايد هذا الأمل بعد أن تحرر الأدب الروسي من أقدام الرقابة والاستبداد التي داسته طويلًا.
ذات يوم قال الشاعر الداغستاني الكبير أبو طالب غفوروف: «لا تطلق رصاص مسدسك على الماضي لكي لا يفتح المستقبل عليك نيران مدافعه»، وقد داست المرحلة السوفييتية بعنف على زهور كثيرة، وآمال كبيرة، وسحقتها، فأخذ الأدب الروسي الحديث الآن يفتح عليها نيرانه وهو يجول بعينيه بحثًا لنفسه عن درب تستقر عليه قدماه.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
مقال رائع و تدرج سلس و رؤية شمولية في الأدب الروسي المعاصر تشكر