كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
مترو الرياض.. في المتخيل الروائي السعودي
هل يمكن أن يتحول مترو الرياض إلى فضاء روائي وجزء من المتخيل السردي لدى عدد من الروائيين والكتاب السعوديين؟ هل سيعثر الكاتب السعودي في عربات القطار ومحطاته على مادة طازجة، عن شخصيات مميزة، تدفعه إلى استلهامها؟ هل ستجد الرواية والقصة ضالتهما في العلاقات التي تحدث في المترو، ليكشفا جانبًا جديدًا من المجتمع؟ وما التحديات التي يمكن أن يواجهها الكُتاب في هذا الصدد؟
تساؤلات طرحتها «الفيصل» على عدد من كتاب الرواية والقصة السعوديين.
يوسف المحيميد: قصص الحب والعلاقات بين الجنسين
كما أعرف، يرتبط مجد أمناء العواصم والمدن في العالم وشهرتهم، بإنشاء خطوط المترو في هذه المدن، لما يحمله المترو من أهمية كبرى في تاريخ المدن وتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولا يقتصر الأمر عند ذلك فحسب، إنما ينعكس أيضًا على فنونها وآدابها، فمحطات المترو مكان صالح للموسيقا والغناء والفنون بأشكالها، كالفن الغرافيتي، وعربات المترو أماكن صالحة جدًّا لحكايات الناس، وقصص الحب والسرقة والقتل أيضًا، هذه الخطوط والعربات والمحطات أمكنة واردة في السرديات العالمية، فكثير من الروايات المترجمة التي نقرؤها يرد فيها اسم المترو، أو اسم محطة من محطاته؛ لأنه ببساطة جزء يومي من نسيج هذه المجتمعات، فلا يمكن لأي شخصية من الشخصيات أن تتحرك دون أن تستخدم المترو أو الحافلة، فهي وسائل النقل التي تضم الجميع، ويلتقي بها الجميع، لذلك من الطبيعي أن يحضر المترو بعرباته ومحطاته في الروايات السعودية التي توظف الرياض كمدينة لأحداثها، لكن ما أخشاه هو المبالغة في استخدام هذا العنصر، وربما أتوقع كذا رواية قادمة ستجعل المترو مكانًا كاملًا لأحداثها، وبخاصة الروايات الشبابية التي تتصيد قصص الحب والعلاقات بين الجنسين، ولا عيب في ذلك؛ لأن المهم في نظري أن تكون أعمالًا مكتملة فنيًّا، وعميقة في كل مستوياتها وطبقاتها، وألا ينخدع أحد بأن استخدام هذا العنصر الجديد في المكان يضمن الجدَّة في النص الروائي، أو وسم الرواية بعنوان «مترو الرياض» يكفي لتحقيق الشهرة المجانية والمبيعات العابرة.
الكتابة الروائية شيء آخر، أكثر عمقًا؛ التوغل في أعماق الإنسان، رصد مشاعره وانفعالاته، التقاط أبسط تفاصيله اليومية، سواء في المترو، أو الباص، أو المركبة الخاصة، أو حتى في الشارع والحديقة والجامعة وملعب كرة القدم، كل هذه الأماكن وغيرها هي أماكن لتجمع الناس وتقابلهم، بمعنى أنها أماكن لوقوع الأحداث والحكايات، وفرصة لاصطياد الأفكار، ولكن علينا أن نتمثل مقولة الجاحظ: «الأفكار ملقاة على قارعة الطريق» أي أنها متاحة للجميع، لكن كيف نلتقطها ونصهرها ونعبِّر عنها، هذا هو المحك وما يميز الروائي الحقيقي ممن هو دون ذلك.
روائي سعودي
عبدالرزاق اليوسف: قيم فنية
للكتابة في الترام قيم فنية في الدلالة الإبداعية، مثل علاقتها بالواقع، والاختصار والدقة وإثارة الفضول والاهتمام. بينما الإطار الفني والتشكيل الهندسي محكوم بعوامل رسم هذا التشكيل من نسيج وبناء الشخوص والسرد والحدث. كما أن الإمكانية التأويلية محدودة بسبب عوامل التشكيل: الشخوص هم ركاب المترو وتغيرهم، حركة الترام ووقوفه في محطات معينة، عنصر المفاجأة في الحدث: دخول ركاب جدد واختفاء آخرين. إذا كانت القيمة المكانية محصورة في العربات، فإنها زمنيًّا مقيدة في توقيت الوقوف والحركة وما تحمل من شحنات التوقع عند القارئ… ولكن مهلًا.. هذا التمهيد عن فنيات الكتابة الإبداعية للقصة ربما يحدث في القاهرة أو أنقرة بسبب البعد النفسي والاجتماعي للكاتب بين مجتمعه الكبير. وهو أن يكون الكاتب حرًّا، مستقرّ الانفعال والوجدان بما يخدم كتابة النص. أما عندما تكون الكتابة في السعودية فالأمر مختلف. إن الإطار الاجتماعي الذي يعوم فيه الكاتب ومن ضمن أركانه الحرية وانسياب الوعي بدون عقبات شرط أساسي في الإبداع.
ناقد سعودي
هناء حجازي: القطار الأشهر
القطار الأشهر بالنسبة لي في الأدب هو الذي انتحرت تحت عجلاته أنّا كارنينا. في رائعة تولستوي تلك، كان القطار حاضرًا بقوة. كلما وقفت أمام قطار في الخارج حيث القطارات جزء مهم وأساسي في مواصلات الكثير من البلدان، أشعر لوهلة بخوف غامض، رهبة أو وجفة تنتابني حين أقف أمام ذلك الجرف السحيق الذي ستملؤه بعد قليل عجلات القطار القادم. والآن أتساءل: هل السبب أنّا كارنينا؟ هل يوجد بداخلي أنّا كارنينا مختبئة في زاوية ما من عقلي؟
لذلك أتخيل كيف ستمتلئ صفحات الروايات، رواياتنا من ذكر المترو القادم، هذا الذي سيصبح جزءًا من الحياة اليومية لأهالي الرياض، كم كاتب سيكتب عن المتعبين الذين يضطرون لركوبه كل يوم، أو الشبان الذين سيلتقون على ضفافه للذهاب إلى منطقة بعيدة أو مزدحمة، والفتيات اللاتي سيستغنين عن السائق المشاكس، كم سيُسهِّل لقاءات مستحيلة، وكم سيحمل حكايات معقدة. سيل عارم من البشر يستقلونه كل يوم. ولكل واحد منهم حكاية.
قاصة وروائية سعودية
ناصر الجاسم: مكان شاعري
المترو أو القطار فضاء مغلق، وهو في حقيقته مكان شاعري في الغالب، حيث تتوالد فيه أحلام اليقظة وتنمو مشاعر الحب والألفة، وبما أن الإنسان سيستقر أو سيمكث
في هذا المكان زمنًا معينًا مع إنسان آخر، سواء ذكر أو أنثى فستتكون شبكة من المشاعر أو تبنى خيمة من العواطف؛ لأن عناصر القص والروي المهمة الثلاثة البطل والمكان والزمان متوافرة، وستُهيِّئ بوجودها مناخًا صالحًا للسرد القصصي أو الروائي، وبما أن المترو مكان لالتقاء أطياف متنوعة من البشر فستتخلق أحداث كثيرة فيه، وسيرافقها عنصر الصراع، وبالتأكيد ستبحث عن حلول ونهايات، وسيأخذ السرد في المترو طابعًا واقعيًّا أو رومانسيًّا، وهذان الطابعان لا شك أنهما من معطيات المكان نفسه.
قاص سعودي
عبير العلي: لقد فعلها الكتاب المحليون
لقد فعلها الكتاب المحليون بالفعل؛ أعني الكتابة عن أمور لم يختبروها أو يجربوها مسبقًا في حياتهم، أو لم يعيشوها في بيئتهم المحلية، وربما لم يعيشوها خارجها قط، كالكتابة عن الثلج أو الأنهار التي تخلو منها بلادنا، أو الكتابة حول أمور قديمة لم يعاصروها، أو حديثة متخيلة تصل لحدّ الفانتازيا والخيال العلمي. وهنا تكمن مقدرة الكاتب الحقيقي في أن يتقمص أي دور، أو يعيش في أي فضاء، وأن يبتكر عوالمه الخاصة التي قد تجعل من المترو على سبيل المثال مكونًا في أحداث الرواية، وتجعله يخترق الجزيرة العربية من الخليج للبحر الأحمر، ويقنعنا وهو يتحدث عنه كأن وجوده حقيقة قطعية لا تقبل الشك حتى نكاد نشعر أثناء القراءة بسرعة اختراقه للكثبان والهضاب، ونرى المقاعد والممرات والحقائب، ونقف معه في محطات مختلفة نشاهد فيها وجوهًا متعددة ونشم روائح بشرات كثيرة معنا وحولنا. أما عن احتمال أن يكون المترو في السعودية فضاء للرواية السعودية -مترو الرياض تحديدًا لأنه الأقرب في الإنجاز والاستخدام- فبالتأكيد سيكون هذا، وبخاصة أن الكاتب ينتزع تفاصيل روايته من المكونات المحيطة به إذا ما أراد أن تكون محلية وأن يشعر بها القارئ البسيط.
روائية سعودية
فاطمة آل تيسان: عربات القطار ومحطاته
في الرواية يحضر المكان بكل تفاصيله وتأثيره أيضًا على الشخصيات، وكم من عمل كان المكان هو البطل الحقيقي لكونه الحافز للأحداث والصراعات داخل العمل الروائي، الأماكن تنوعت في الرواية ولم تنحصر في مدينة أو قرية بل قد يحضر المكان كلحظة عبور غير أنها ترسم خطط حياة تعج بالناس والقصص والحكايا كما هي حال عربات القطار ومحطاته، ولعل من أعظم الروايات التي بدأت وانتهت هناك رواية أنّا كارنينا للروائي الروسي ليو تولستوي التي اكتسبت شهرة عالمية وترجمت إلى عدة لغات، وفي الرواية الأماكن هي ما تفرض نفسها حسب قوة الحدث وقدرة الكاتب على توظيفها في العمل، وإن توافرت هذه العناصر فقد يكون المترو بطلًا لعمل روائي يومًا ما، عندما يصبح وسيلة التنقل المفضلة للكاتب حيث يشاهد الواقع وسحنات البشر خالية من التحسينات. قساوة الواقع تحفر بإزميل قوي لا يرحم، وهنا ستولد أعمال روائية لا ترسم الواقع فقط بل تصور إفرازاته المستقبلية على أناس تقلبت بهم الظروف من صحراء قاحلة وجمل إلى مدينة يتضخم فيها كل شيء حتى ضجيج المترو الذي شطرها بكل قسوة إلى نصفين.
قاصة سعودية
مقبول العلوي: الرواية والمكونات المحيطة
كان المترو والقطار والسفينة مسرحًا لأعمال روائية مبهرة مثل رواية «فتاة القطار» و«مترو حلب»، وليس في الرواية فقط، فهناك مثلًا أعمال سينمائية رائعة ومؤثرة كان مجال أحداثها هو القطار والمترو ووسائل مواصلات أخرى، وسؤالك هذا يعود بي إلى حقبة الثمانينيات الميلادية عندما كنت شغوفًا بقراءة روايات أغاثا كريستي، وأذكر أن هناك رواية من أعمالها، قرأتها، ولم أنسَها منذ ذلك الحين، هذه الرواية اسمها «جريمة في قطار الشرق السريع» وبالمناسبة تعد هذه الرواية من أجمل روايات أغاثا كريستي من حيث الحبكة والصياغة الروائية المذهلة، وبالعودة إلى السؤال أودّ أن أقول: إن صياغة مثل هذه الأعمال الروائية التي تحدث في المترو أو القطار تحتاج إلى دُرْبة عالية في صياغة الأحداث؛ لأن أي عمل إبداعي يعتمد في تشكيله وصياغته على عنصرين مهمين هما: الزمان والمكان، وهما فضاءان مهمان في صياغة الرواية، ونحن بصدد الحديث عن عمل روائي يتم داخل هذه المساحة الضيقة، مما يعني أن تكون كل كلمة في موضعها، وكل حدث لا بد أن يكون مقنعًا؛ لأن المساحة محصورة داخل هذا الحيز الضيق.
روائي سعودي
جبير المليحان: مترو منيرة
نعم، ممكن جدًّا، وربما أكثر؛ فمجتمعنا لم يعد معزولًا عن العالم بعد أن تهاوت الحواجز. نحن نتأثر، ونؤثر. وإذا كانت البنية التحتية متماشية مع متطلبات العصر، فسيكون تأثيرها كبيرًا على المجتمع، وسينعكس على إبداعه.
لنتخيل (منيرة) في هذا المشهد، بعد سنوات قليلة، في مدينة ضاجّة بالحركة، والتغير كالرياض:
مترو منيرة
٭٭٭
– هيا يا أبي. لقد تأخرنا عن موعد (المترو)!
شرب الكهل بقية (بيالة) الشاي بسرعة، ووضع (شماغه) وعقاله فوق رأسه، ولبس نعليه، وحرك السيارة، وابنته منيرة تكاد تصفق بابها. أسرع في الطريق الضيق حتى وصل الشارع العام. كان مدخل (المترو) هناك. لم يجد موقفًا لسيارته. نزلت منيرة، وركضت وهي تلملم أطراف عباءتها. الأب كان ينظر إليها، وسيارته تمشي ببطء. كاد أن يصدم السيارة التي تقف أمامه. قال لنفسه:
– لم أعد أحتاج هذه السيارة الكبيرة!
منبهات سيارات أخرى تزعق خلفه، وفي كل اتجاه. مشى بسيارته وهو يحس بتوتر. بعد اختفاء ابنته في مدخل المترو. نظر في ساعته، وقال:
– باقٍ سبع ساعات ونصف لتعود منيرة.. الله يعين على الزحمة!
٭٭٭
– لا بد أن نبيع بيتنا هذا، ونشتري بيتًا قريبًا من محطات (المترو) يا أبي.
هكذا ضج الأولاد، وهم يناقشون والدهم. الأب يهز رأسه، ويمسد لحيته، ويقول لهم:
– هيا فقد أذن للصلاة.
يلتفت إليهم ويقول:
– سأفكر بالموضوع.
الولد الصغير يقول:
– بع البيت يا (بابا)، واستأجر لنا شقة.. اشترِ لي سيارة (جيب) مثل صديقي.
نذهب بها إلى البر!
٭٭٭
منيرة تلبس عباءتها، تغلق باب شقتها، وتنزل مسرعة من درج البرج، وتركض إلى السيارة، عند محطة المترو القريبة، تقف السيارة فوق الدائرة المعدنية أمام طوابق عمارة مواقف السيارات، وتضع البطاقة الممغنطة، ترتفع السيارة إلى الدور العشرين؛ حسب العقد الموقع بين مالكتها وبين شركة المواقف.
٭٭٭
منيرة تركض من موقف السيارة في عمارة المواقف الممغنطة. تخرج إلى الشارع العام حيث مدخل المترو.. أثناء مشيها السريع تعدل لبس عباءتها، ثمة رجال ينظرون شزرًا إليها. امرأتان تُحَوقِلان. شاب يبتسم. رجل أمن ينظر بحياد. تختفي منيرة في مدخل (المترو)، وطرف عباءتها يرفرف كجناح حمامة مسالمة.
٭٭٭
خطوط شباب وشابات، تتراكض إلى مدخل المترو، وخطوط أخرى تخرج وتتوزع في الاتجاهات. الكل راكض، وحقيبته الصغيرة فوق ظهره، البعض يقضمون وجباتهم وهم يمشون، ويلقون ببقايا الأكل والورق في الحاويات التي صممت كأكف مبتسمة. المكان نظيف، ورجال الأمن واقفون لحراسة القانون.
٭٭٭
طائرات فردية صغيرة، تتقاطع بانتظام في الأجواء. تنقل أصحابها إلى المهابط في أعلى أبراج البنوك والشركات، التي تلمع واجهاتها في الشوارع.
قاص وروائي سعودي
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق