كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
القطار في الأدب الألماني أدباء عدوه إنجازًا.. وآخرون وصفوه بـ«المارد الجبار»
منذ ظهوره في بدايات القرن التاسع عشر، أثار القطار، أو «الحصان المحرّك بالبخار» إعجاب وفضول كبار الشعراء والكتاب في ألمانيا التي لم تكن قد توحدت بعد تحت راية بسمارك. وجميعهم عدّه إنجازًا هائلًا، قادرًا على أن يحقّق للبشر السعادة والرخاء، وصورة مشرقة للتقدم الصناعي والحضاري، و«ثورة تاريخيّة» فتحت بعض البلدان على بعضها، وسهّلت المبادلات التجارية على أوسع نطاق. قليل منهم فقط أظهروا نفورا منه، ورأوا فيه «ماردًا جبّارًا يهدّد حياتهم، وقيمهم، وتقاليدهم القديمة». وقد كتب أحدهم يقول: «غيّر القطار حياتنا، وغيّر الطبيعة من حولنا. كما غيّر وعينا بالزمان والمكان».
وكان الشاعر هاينريش هاينه الذي أمضى شطرًا مديدًا من حياته مرتحلًا، ومسافرًا بين البلدان، من بين الذين اهتموا بـ«الثورة» التي أحدثها القطار في حياة المجتمعات في القرن التاسع عشر. وقد كتب يقول: «أثار تدشين خطّي القطار الحديدي هزّة أحسّ بها الجميع. أحد الخطّين يصل إلى مدينة «أورليان»، والآخر إلى مدينة «روّان» (مدينتان فرنسيّتان). وبينما يحملق العامة ببلاهة المخدرين في تلك القوى الضخمة المتحركة، ينتاب المفكرين رعب موحش يشعرون به دائمًا إزاء الجبار واللامعقول. وهم لا يدركون عواقبه، إنما يلمسون عدم قدرتهم على التنبّؤ به، أو السيطرة عليه. ما نلحظه هو أن وجودنا بأكمله يندفع، بل ينزلق إلى مجرى جديد، تترقّبنا فيه وضعيّة جديدة تحمل في طيّاتها السعادة، والشقاء في الوقت نفسه، ويجذبنا المجهول بسحره المخيف، ويغرينا ويرهبنا دفعة واحدة. وأكيد أن هذه الأحاسيس هي نفسها التي انتابت آباءنا عندما اكتُشفت القارة الأميركية، أو حين أعلن عن اكتشاف البارود، أو عندما توصّل الناس بفضل الطباعة إلى كتابة صفحات من الكتب السماوية».
ويضيف هاينريش هاينه أن القطار «فصل جديد من فصول التاريخ الإنساني». وهو «يقتل المكان فلا يتبقّى سوى الزمان». ومتخيّلًا التحولات التي سيحدثها القطار، فيكتب قائلًا: «يتهيّأ لي أنّ جبال العالم وغاباته تزحف كلّها نحو باريس. وها رائحة الزيزفون النابتة في ألمانيا تتسرّب إلى أنفي. وها أمواج البحر الشمالي تطرق بابي» (كتب هاينريش هاينه هذا وهو منفي في باريس).
حذر غوته
وثمة من يشير إلى أن شاعر ألمانيا الأكبر غوته سبق له أن تحدث عن القطار. حدث ذلك عام ١٨٢٥م. ويبدو أنه كان من بين الذين أبدوا نوعًا من الحذر إزاءه. فقد كتب يقول: «قطارات وسفن بخاريّة، ووسائل اتصال أخرى، يهدف جميعها إلى تسهيل التبادل، هذا هو الشغل الشاغل للمثقفين راهنًا. كلّ واحد منهم يبالغ ويغالي، وفي النهاية يظل أسيرًا للرداءة». أما لودفيك بورنه فلم يكن على اتفاق مع غوته. فقد أظهر تحمسًا للقطار؛ لأنه «سيكسر شوكة الطغيان، وستصبح الحروب من المستحيلات». كما أنه سيكون «محرِّكًا للتطورات الاجتماعية والسياسية». وفي رباعيته «طرق حديدية»، كتب الشاعر الرومانسي فون أرنيم أول قصيدة عن القطار في الشعر الألماني، التي تقول:
يفتح السيف الطريق للبعض
للبعض الآخر يفتحه المجراف
نترك آثارًا حديديّة في
الطريق الرديئة
ونمدّ جسورًا في تلك التي
تقطعها الأنهار
الإرادة الحديديّة تشقّ دائمًا
لنفسها طريقًا.
وفي قصيدة بعنوان: «الحصان البخاري»، كتب الشاعر ألبرت فون شاميسو يقول:
يا حصاني البخاري
أنت مثال للسرعة
وراءك تترك الزمن يعدو
وتسرح الآن متَّجهًا نحو الغرب
بينما بالأمس كنت قادمًا من الشرق
سرقت سرّ الزمن
أرغمته على أن يتراجع بين الأمس والأمس
أضْغطُ عليه يومًا بعد يوم
حتى أصل ذات يوم إلى يوم آدم.
إلّا أن الشاعر نيكولاس لينار يرى أن القطار قد يفسد حياة الناس. وهذا ما نستشفه من قصيدته التالية التي تعكس تشاؤمه:
في وسط الغابة الصغيرة الخضراء
مسرعة ومندفعة
تفترس القطارات ما حولها
ضيف بشع يحلّ عليك
ستسقط الأشجار يمينًا وشمالًا
أمام اندفاعها إلى الأمام
حتى جمالك الرائع
لا يمكن أن تحميه من حدّتها.
مع ظهور السيارة ثم الطائرة في مطلع القرن العشرين، أصبح القطار وسيلة عادية، ولم يعد يثير الحيرة والفضول والحماس مثلما كانت حاله خلال القرن التاسع عشر. وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية، برزت تيّارت فكرية وأدبية تسخر من المنجزات التي حققّها التقدم الصناعي والعلمي في جميع المجالات. بل إن هذه المنجزات كانت ضالعة بشكل واضح وجليّ في كارثة الحرب الكونية التي قتلت الملايين من البشر، وخربت مدنًا، وأحرقت مساحات واسعة من الغابات ومن الأراضي الزراعية، ودمرت أمل الشعوب في الرخاء، وفي حياة أفضل.
وفي القطارات اعتاد الناس أن يروا كل يوم جرحى ومشوهين عائدين من جبهات القتال، و«توابيت داكنة». ومرة أخرى أثبتت الحرب الكونية الثانية أن التقدم الصناعي والتكنولوجي يفضي في الحقيقة إلى مزيد من الكوارث والأوجاع. وها هو الشعب الألماني الذي ظن أنه سيستعيد أمجاده القديمة بقيادة هتلر كان مشردًا في الشوارع، «يعيش فوق القضبان الحديدية، ويسكن المحطات والأرصفة، ويحاول من خلال آلاف المناقشات أن يبرهن على حقه في الوجود» بحسب هانس فِرنر ريشتر مؤسس «مجموعة ١٩٤٧» التي لعبت دورًا مهمًّا في تطوير الأدب الألماني بعد الحرب الكونية الثانية. وفي إحدى قصصه، يصف فولفغانغ بورشرت تلك المرحلة القاتمة من التاريخ الألماني المعاصر قائلًا: «مخلوقات رثة، كائنات أشبه بأشباح، لاجئون بلا وطن وبلا مأوى، منهم من أنقذ نفسه من الموت في آخر لحظة، ومنهم تاجر السوق السوداء منعدم الضمير. هؤلاء جميعًا يجمعهم أمل واحد: العودة إلى الديار».
ويصف ماكس فريش ما شاهده في محطة القطارات في فرانكفورت بعد الحرب قائلًا: «اللاجئون مضطجعون في كلّ مكان على سلالم محطة القطار. يخيّل للمرء أنهم لن يرفعوا أنظارهم حتى لو وقعت معجزة في وسط الساحة. إنهم يعلمون علم اليقين أنه لا شيء سيحدث. فلو قيل لهم: إن هناك بلادًا ما وراء القوقاز مستعدة لإيوائهم لجمعوا صناديقهم وبقايا أمتعتهم وارتحلوا دون أن يصدقوا كلمة واحدة مما سمعوه. حياتهم ليست حقيقية، بل انتظار من دون أمل».
القطار يصل في موعده
ويحضر القطار في «القطار يصل في موعده» لهاينريش بل الذي كان من أبرز رموز «مجموعة ١٩٤٧» والحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٧٠م. بطل هذه الرواية القصيرة جنديّ ألماني مأذون يركب القطار في عام ١٩٤٣م ليلتحق بالجبهة الروسية. فجأة تستبدّ به فكرة أنه لن يصل أبدًا، وأن تلك الرحلة هي رحلته الأخيرة، وأن القطار سينقله إلى قرية حيث ينتظره الموت. وفي القطار يواصل حياته العادية، يأكل وينام، ويلعب الورق مع أصدقائه الجنود. وهو يتذكر فصولًا من حياته، ووجوهًا من الماضي، ويحاول أيضًا أن يصلي. ويتقدم القطار في رحلته عبر ألمانيا ثم بولندا. وعندما يلتقي فتاة بولندية يتوهم أنه سيفلت من المصير الذي ينتظره، فيهرب معها في سيارة، إلّا أن السيارة يسحقها قطار، فتكون النهاية كما توقعها!
وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي، أسّس هانس ماغنوس إنسنسبرغر، وهو أيضًا من أبرز وجوه «مجموعة 1947» مجلة «Kursbuch» (جدول القطارات) الشهيرة. وهو يعتقد أن هذا الجدول يثبت أن العمل الأدبي بات عديم الفائدة؛ لذا يجب أن يستبدل به الأخبار والتحقيقات الصحفية والمقالات: «لا تقرأ القصائد يا بني… عليك أن تقرأ جدول القطارات فهي أكثر دقة!».
المجد للقطار
قصيدة للشاعر الفرنسي فاليري لاربو
امنحني صخبَكَ الكبير وسرعتك اللذيذة
وانزلاقك الليليّ عبر أوربا المغمورة بالضوء
آه يا قطار البذخ!
امنحني أيضًا تلك الموسيقا المُغمّة المدمدمة
في معابرك الجلديّة المذهّبة
بينما خلف الأبواب «المبرنقة» ذات المزاليج النحاسيّة الثقيلة
ينام أصحاب الملايين
أجتاز معابرك وأنا أعني
وأتبع عدوك باتجاه فيينا وبودابست
مازجًا صوتي بأصواتك المئة ألف
آه يا هارمونيكا زوغ!
أحسست لأول مرة بلذّة الحياة
في مقصورة من مقصورات قطار الشمال السريع
بين «فيربلان»، و«بسكاو»
كان القطار ينزلق عبر سهول
حيث يستند إلى جذوع أشجار ضخمة كما الهضاب،
رعاة يرتدون جلود خرفان قذرة
(كان الوقت خريفًا، وكانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا، وكانت المغنية الجميلة ذات العينين البنفسجيتين تغني في المقصورة المحاذية لمقصورتي)
أنت أيتها المرايا الكبيرة التي عبرك
رأيت سيبيريا وجبال سامنيوم وهي تمرّ
وأيضًا قشتالة الوعرة الخالية من الزهور
وبحر مرمرة تحت مطر دافئ.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق