كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
حكاية القطار الذي جمع بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة (فيصل دراج)
لا تنفصل الرواية، من حيث هي جنس أدبي حديث، عن ظواهر الأزمنة الحديثة، سواء أكان ذلك في حقلي الاقتصاد والسياسة، أم في حقل العلوم الإنسانية. فقد صعدت في القرن الثامن عشر إلى جانب غيرها من الظواهر الصاعدة، الممثّلة بالثروات القومية والصناعية والعلمية والفلسفية؛ ما أعطى المجتمع الإنساني ملامح جديدة، وجعل من القرن الثامن عشر «عصر التاريخ»، بلغة المؤرخين.
أرادت «الحداثة الأوربية»، بلغة معينة، أو «رأسمالية الغرب المنتصرة»، بلغة أخرى، أن تروّض الجغرافيا، وأن تربط بين أقاليم الأرض المختلفة، مقصِّرة المسافات، وفاتحة الحضارات الإنسانية بعضها على بعض. وسواء صدرت «الجغرافيا الإنسانية الجديدة» عن تحديث أملته «الثورات العلمية»، التي واجهت المجهول بالمعلوم، أو عن طموح الإنسان الأوربي بأن يكون سيدًا على العالم، فقد أسست لبيئة إنسانية جديدة، مختلفة الأعراق والأديان والتقاليد. ارتبطت البيئة الجديدة بوسائل اتصالات غير مسبوقة، احتل فيها «القطار» مكانًا مميّزًا. وما حكاية القطار إلّا حكاية القوة والمعرفة، وحكايات الفضول الإنساني الذي جمع، طواعية أو غصبًا، بين شعوب لا تتكلم لغة واحدة.
لا غرابة أن يظهر القطار في روايات أوربية، اتخذت من الشعوب «المكتشفة» موضوعًا لها. فللقطار مكانة في الصفحات الأولى من رواية ريديارد كبلنغ «كيم» عن الهند حيث يتحرك «السيد الإنجليزي» متوسلًا القطار، ومتحدثًا عن وسيلة نقله باطمئنان لا ينقصه التبجح. وإذا كان كبلنغ، الذي لا يقتصد في عنصريته، رأى في القطار أداة انتقال وسيطرة، فإن مواطنه إي. إم. فورستر في روايته «ممر إلى الهند»، يأخذ بمنظور مغاير، كارهًا الاستعمار الإنجليزي، متعاطفًا مع ثقافة «أصيلة» غريبة عن الموروث الإنجليزي، دون أن ينسى القطار.
أداة سفر وإشارة ثقافية في آنٍ واحد
أخذ القطار لدى كبلنغ وفورستر، كما في روايتي الفرنسي جول فيرن (حول العالم في ثمانين يومًا وميشال ستروغوف) دلالتين: فهو موضوع مباشر من ناحية كونه أداة انتقال وسفر، وإشارة ثقافية في آنٍ واحد، عنوانها إنسان أبيض متفوق يواجه «ألوانًا» أخرى في أقاليم بعيدة من وطنه. ولعل هاجس السرعة، الذي يحايثه اللهاث، كما التنوع البشري في أداة نقلٍ تَلتهِمُ المسافات، هو الذي أقنع أغاثا كريستي، بأن تتخذ من القطار عنوانًا لروايتها البوليسية «جريمة في قطار الشرق السريع»، حيث احتمالات ارتكاب الجريمة من احتمالات طبائع المسافرين.
بيد أن القطار، في دلالتيه، لم يختصر في شخص الأوربي، بل توزّع على العالم كله. فرواية الأميركي ثيودور درايزر «الأخت كاري» تستهل بقطار ينقل فتاة ريفية إلى المدينة، تعيد صوغ أقدارها، كما لو كان القطار يبدّل المسافات والمصاير معًا. وربما دور القطار كجسم حديدي فاعل يتجسّد، أكثر وضوحًا، في رواية تولستوي الشهيرة «أنّا كارنينا»، حيث الزوجة التي وقعت في عشق لا يراهن عليه، تنتهي إلى موت تراجيدي تحت عجلات القطار. وإذا كان في القطار ما «يبدّد» المسافات، بلغة طليقة، كان مفترضًا، اعتمادًا على التبادل اللامتكافئ، أن يغدو «موضوعًا أليفًا» في البلدان التي فاتتها الثورة الصناعية، شأن العالم العربي. ولهذا احتل القطار مكانة في الرواية العربية. فللقطار دوره في رواية عبدالرحمن منيف «الأشجار واغتيال مرزوق»، حيث المثقف المغترب يلتقي، في القطار، آخرَ عاثِرَ الحظِّ يسرد له مسار حياة عامرة بالمشقة. وللقطار هنا دلالتان: يحقق لقاء بين غريبين، فيتبادلان الكلام والحكايات، وهو الإطار المعبّر عن العارض والمؤقت والصدفة «الحزينة – الطيبة»، فالغريب يجد ملاذًا في غريب آخر، يأنس إليه ويبوح له بأسراره على غير توقع.
أعطى المصري الراحل محمد البساطي القطار موضعًا في روايته «أصوات الليل»، كاشفًا عن معنى الزمن في القطار؛ يصل بين جنوب العراق والريف المصري، ويلامس أسئلة عن تواتر الأزمنة؛ ذلك أن الرواية، في صفحاتها القليلة (نحو مئة صفحة)، تسرد وقائع تمتد من «سقوط فلسطين» إلى سقوط العراق، وتسرد معها حكاية «ريفي بسيط»، منعته حياته الصعبة «تذكّر» عشق قديم. أما السوري ممدوح عدوان فأنجز، قبل رحيله، رواية تاريخية عنوانها «أعدائي»، سرد فيها سقوط العهد العثماني ومجيء الاستعمار، وقرأ «الحضارة الوافدة» في قطار بين تركيا والداخل العربي، يُقِلُّ امرأة تكرّس ذكاءها لخدمة القضية العربية.
القطار حكَّاء صامت
أخذ القطار، في الروايات السابقة، شخصية حكَّاء صامت، يروي بالإشارة والحركة، أو شخصية سارد يعبِّر عن سيولة الأزمنة. وإذا كان البساطي، المعلّم في اقتصاد الكلمة، قد أطلق لسان قطاره، وهو يكشف عن ذاكرة متعددة الطبقات، فإن جمال الغيطاني، في عمله «دنا فتدلى»، جعل من القطارات مجازًا لسيرة ذاتية متأسية، تميل إلى التصوف: «تمضي القطارات هادرة، مختالة، لكنها على القضبان وحيدة، في الخلاء منطلقة بمفردها مهما ثقلت الحمول لا تدوم الصلة إلا مقدار لقاء العجلات بالقضبان عند اكتمال السرعة» (دنا فتدلى- دفاتر التدوين. جمال الغيطاني). التبس القطار بشخصية إنسان يميل إلى الكآبة، له زهوه واختياله، ووحدته الباردة. ولعل «نزف الزمن»، الذي استغرق الغيطاني، في روايات متعددة، هو الذي جعله يرى القطار في «محطاته» المتواترة؛ إذ لكل محطة صفة وسمة، «تتلامعان»، قليلًا، قبل انطلاق القطار إلى محطة جديدة.
عبّر القطار عن غرب متفوق ينأى عن مركزه وينتشر في العالم، وعن «عالم تابِع» يريد أن يحاكي غيره ولا يصل. في مقابل ذلك فإن «المترو» صورة عن المدينة الحديثة، اللاهثة، العاملة، اللاهية، التي تضيق بالسطح العلوي المحدود وتذهب إلى عالم سفلي، هو امتداد للأول ونقيض له. والمترو، في الحالين، تجسيد لشرايين المدينة، يصل بين «قلبها» والأطراف المختلفة، ويؤمّن انتقال أهلها إلى مواقع قريبة أو بعيدة. فإذا أصابه عطل أشلَّ المدينةَ (حال أهل باريس) وأربك حياتها، كما لو كان آلة مطيعة ومستبدًّا واسع النفوذ معًا، ذلك أن حياة المدينة لا تنفصل عن «المترو»؛ ما يجعل من إضراب عماله حدثًا اجتماعيًّا في المدن الكبيرة.
ومـع أن للمتـرو سائقـه ومفتشه ورجـال أمنه، وهؤلاء العاثرين النائميـن فـوق مقاعـده -حتى منتصف الليل- والمتسولين بعزف على آلة موسيقية أو بيع «بضاعة فقيرة وغريبة»، فإن له، في ساعات الصباح والمساء، حشوده، أو تلك «الجموع»، التي تميّز المدن الحديثة، كما أشار والتر بنيامين في أكثر من مكان، التي تجمع بين أخلاط من البشر، لهم هيئاتهم ولغاتهم، والفضول الإنساني الذي يصل بين غريب وآخر، وبين «عامل أجنبي» وسيم الطلعة وامرأة عجوز نسيت عمرها، أو تذكّرته حين كانت مُقبلة على الحياة. سئل الروائي الفرنسي اليساري «روجيه فايان» عن البشر الذين تحتفي بهم كتاباته، فأجاب: «ركاب المترو في ساعات الصباح المبكّرة»، قاصدًا بذلك «العمّال» الذاهبين إلى المصانع.
كتب روجيه فايان عن فئة اجتماعية تركب «الدرجة الثانية»، وابتعد الروائي الفرنسي الكبير «سيلين» الذي اتهم بالفاشية، عن الطبقات وانصرف إلى دلالة الحركة وجمالية الأسلوب. ففي روايته «رحلة إلى آخر الليل»، التي هي من ذُرا الأدب الفرنسي في القرن العشرين، اتخذ فرديناند سيلين من المترو، أو مجاز المترو بشكل أدق، موضوعًا، قرأ به «عالمًا سفليًّا، وتأمل وجودًا إنسانيًّا واسع الاضطراب». اقترب من الفيلسوف باسكال، الذي قبض على ما هو جوهري في الوجود، وأعرض عن الظواهر النافلة: «في المترو الانفعالي، الذي أتعامل معه، لا أدع شيئًا للسطح»، يقول سيلين، محاولًا الإمساك «بأعماق» الواقع، وجاعلًا من الأعماق مبتدأ لقراءة كل شيء. ذلك أن السطح «مطروق» وقريب من الابتذال، يبتلع حركة ما فوقه ويشوّه دلالته، ويصيره إلى وجود رتيب فقير المعنى، على مبعدة من منظور سيلين الذي يحايثه انفعال حي ينجذب إلى الجوهري و«باطن الأمور». ولهذا رأى في «المترو» عتمته وغموضه وعمقه، أو «ليله الملتبس»، الغريب عن الليل والنهار العاديين. «كل ما أريده أراه في القاطرة العجيبة» ( Celine: Voyage as bout de la nuit, gallimard, «pleiade», 1981, p: 104, 102.)، يقول سيلين، بعد أن يقول: «لا إمكانية للوقوف، مهما تكن ضآلته، في أي مكان»، بل إن في لغة الروائي ضجيجًا يذكِّر «بعويل القطار». بلغة عبدالوهاب البياتي ذات مرة.
مترو مدينة تثير الأعصاب
تحيل الهاوية والأعماق والحفرة السوداء، وغيرها من مفردات سيلين، إلى «مترو» مدينة تثير الأعصاب وتقتات بالضجيج، يخترقها نظام يحدد التفاصيل ووظائفها، ويستدعي عقلانية باردة شديدة الحسبان. لا شيء من هذا في مدن عربية «تصحّرت» تسمع عن «المترو» ولا تعرف عن صناعته الكثير. ولأن الرواية العربية تعكس واقعًا تعرفه وتعيه، فهي لا تلتقي «المترو»، إلا نادرًا، حال مدينة القاهرة. فلم ينتبه إليه محفوظ، ولم يعره الغيطاني والبساطي ومحمود الورداني وغيرهم الكثير من الاهتمام. حتى لو انتبهوا إليه لكان، بالضرورة، مرورًا «عارضًا». فالمترو، الذي يترجم الدقة والنظام واحترام الزمن..، لا يأتلف مع «العشوائيات» والجموع المتداخلة؛ لأن في «العشوائي» ما يمحو غيره.
ربما يكون عمل مجدي الشافعي وعنوانه «مترو»، صورة عن استقبال «قطار الأنفاق» في الكتابة الأدبية المصرية، ومجازًا عن «هيئة القاهرة» في تعاملها مع «أداة نقل جديدة»، تخفّف من «كابوس المرور». فهذا العمل الذي طبع مرتين، كما يقول غلافه، قدّم نفسه «كرواية مصورة»، تصلح «للكبار فقط»، وذلك في طبعة جماهيرية عشوائية الملامح، تلتبس بالسخرية. تقوم «الرواية»، في صفحاتها المئة، على رسم بالأبيض والأسود قوامه «الكاريكاتير»، حيث الصور الساخرة و«كتابة عامية» متشكية، تزجر القائم وتشتكي من الزمن، يصبح «المترو» إطارًا خارجيًّا للعمل؛ إذ تختلط اللغة العامية بمحطات المترو الملاحقة: محطة المعادي، ومحطة محمد نجيب، ومحطة أنور السادات، ومحطة السيدة زينب، ومحطة جمال عبدالناصر،… وفي كل محطة شكوى تستأنف شكوى محطة سابقة،… والسؤال هو: ما الذي جعل الشافعي يدرج «المترو» في فضاء كاريكاتيري عامي اللغة؟ والسؤال الثاني: هل أراد في ركونه الساخر إلى «مترو الأعماق»، أن يعلن عن أعماق القهر الشعبي المصري، الذي يدور حول ذاته بلا أفق؟ ربما كان القهر الشعبي الذي يطغى على غيره هو ما أعطى «المترو» حضورًا ومضيًّا، محتملًا، في روايات مصرية أخرى، مثل «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، التي مرت على حياة عشوائية لا ينقصها الكاريكاتير، و«البحث عن دينا» لمحمود الورداني التي تحدثت عن ركام التداعي والإخفاق، ورواية يوسف القعيد «قسمة الغرباء» التي عالجت الوعي الطائفي الماسخ؛ تستدعي هذه الروايات، كما غيرها، مفهوم الشكل، الذي يبدو واضحًا في عالم عقلاني تبنيه الأشكال، بعيدًا من عشوائيات يكسوها السديم.
أدار جبرا إبراهيم جبرا حوارًا رحيبًا بين غرباء في روايته «السفينة»، كما لو كانت تقلّ ركابًا لا يعرف بعضهم بعضًا، وتقلّ معهم ثقافاتهم المختلفة، ووضع عبدالرحمن منيف في قطار «الأشجار واغتيال مرزوق» غريبين يتبادلان القصص، ولم يعثر المصري مجدي الشافعي في «مترو» القاهرة، إلا على بقايا الكلام وهيئات مشوّهة.
في كتابه المثير للإعجاب «كل ما هو صلب يتحوّل إلى أثير»، تكلم مارشال بيرمن عن الإنسان الحديث ملمحًا إلى الطرق الواسعة والقطارات و«المتروات العجيبة»، مؤكدًا أن حداثة الآلة التي يستعملها الإنسان لا تستقيم إلا بإنسان له وعي حديث.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق