كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
أمازيغ المغرب.. هل هم أقلية؟
يشكل الأمازيغ مكونًا أساسًا من مكونات الحضارة المغربية، وقد أثروا فيها سلبًا وإيجابًا، في ظل أوضاع سياسية واجتماعية ودينية عرفت تحولات متعددة، ومكنت من خلال تنوعها من بناء حضارة وعلم وتاريخ ودين ومدن قديمة، شكلت هوية مغرب اليوم التي تتميز بالتنوع والتعدد والاختلاف. وتعد القضية الأمازيغية في المغرب مسألة في غاية التعقيد؛ إذ تتم مقاربتها من خلال أوجه عديدة، كما تشوبها خلفيات سياسية واجتماعية وثقافية، تنطلق من تعقيد طرح الاسم، إلى تحديد المجال الجغرافي، وصولًا إلى الأصول.
وقد عرف المسار التاريخي للأمازيغ تغيرات جذرية وبخاصة بعد الفتح الإسلامي واعتناق الأمازيغ الإسلام، ما شكل تجاذبًا مهمًّا بين باحثين وجدوا الدين الجديد عنصرًا أقصى هويتهم وطمسها، وبين آخرين رأوا أن الدين الجديد شكل نقلة ثورية وحدت المماليك الأمازيغية، وأسهم في بناء الحضارة الإسلامية، وكما قال المفكر الإسلامي طارق السويدان: «فلولا عظماء الأمازيغ ما كانت حضارة الإسلام في الأندلس وشمال إفريقيا»، ما يضع الراغب في الغوص في تركيبة الأمازيغ أمام حقائق أوضحت عمق الحضارة الأمازيغية، وانفتاحها على انتقالات ثورية نسجت للشعب المغربي هوية مركبة بين أمازيغ عُرّبوا، وعرب مُزّغوا، وهو ما شكل نسيجًا هوياتيًّا يتميز بالتنوع والتماسك والتعقيد.
حضور ثقافي عريق ووضع سياسي جديد
وردت كلمة أمازيغ في نقوش المصريين القدماء، وعند كتاب اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب القديمة التي عاصرت الأمازيغيين، وبصم الأمازيغ التاريخ السياسي لشمال إفريقيا، كما أسهموا في بلورته، وفي تطوير المجال الحضاري من خلال المساهمة الفعالة في ظهور الحضارة والتمدن، فنبغ منهم الفلاسفة والمفكرون أمثال لوكيوس أبوليس (120 -125م) وهو خطيب أمازيغي، وفيلسوف وعالم طبيعي، وكاتب أخلاقي، وصاحب روايات التحولات والتغيرات، وقد كتبها في 11 جزءًا، أما في ميدان الأدب فقد ظهر ماركوس ماتيولوس، وهو شاعر وعالم فلك. (د.محمد بن لحسن، الأمازيغ أضواء جديدة على المسيرة الحضارية عبر التاريخ، مطابع الرباط نت، 2015م، ص:11).
تعددت النظريات حول الأمازيغ وأصولهم، ويرى التيار الأول أن أصل الأمازيغ يرجع إلى الدول الإسكندنافية في شمال أوربا؛ إذ اجتازت مجموعة من القبائل الهمجية تدعى قبائل الفاندال أوربا، واستقر جزء منها في كل من فرنسا وإسبانيا، على حين عبر بعضها الآخر البحر الأبيض المتوسط جنوبًا حتى استقر في المغرب.
ويربط التيار الثاني أصل الأمازيغ بسكان المغرب الأقدمين بالمشرق، إذ يرى أن أصول الأمازيغ تعود إلى الكنعانيين الذين طردوا من فلسطين بعد قتل النبي داود لجالوت، وهو الرأي الذي انحاز إليه ابن خلدون، كما ذهب آخرون إلى أن أصل الأمازيغ من اليمن، أي من العرب العاربة الذين هاجروا بعد سيل العرم، واختلطوا بالقبط المصريين في أثناء هجرتهم غربًا. (سيل العرم، هو السيل الذي لا يطاق، والذي خرب وفرق أهل اليمن، وقد ذكر في سورة سبأ).
أما التيار الثالث -الذي يمثله الباحثون الأمازيغيون- فيرى أن جذور الأمازيغ محلية، وأنهم لم يأتوا من أي مكان آخر، بل هم أصحاب الأرض والمكان، والدليل على ذلك أن مجموعة من علماء التاريخ قد كذبوا أسطورة كون أصل الأمازيغ من اليمن، وقد ردوا كلامهم انطلاقًا من الحفريات وعلم الجينات الذي فند أسطورة قدوم الأمازيغ من اليمن، وفي السياق نفسه فقد أثبتت الوراثة أن بصمة الأمازيغ تختلف جذريًّا عن البصمة الوراثية للعرب.
إجمالًا، الأمازيغ شعوب سكنت صحراء شمال إفريقيا، وتميزت بمزيج هوياتي جمع بين قبائل جاءت من أوربا، وهي قبائل الفاندال نسبة إلى مدينة فاندال السويدية، وقبائل أخرى من المشرق كعرب اليمن، وسكان السودان، وهو ما منحها تنوعًا على مستوى الأعراق والألوان.
هل الأمازيغ أقلية في المغرب؟
لا يمكن أن يكون الأمازيغ أقلية في المغرب، فبالإضافة إلى أنهم يشكلون ثقلًا بشريًّا مهمًّا يصل إلى 60%، فإنهم يعدون أهم وأول عنصر بشري استوطن المغرب في مرحلة ما قبل الإسلام. كما أن معظم المعطيات التاريخية أثبتت أن الإسلام أسهم في بلورة الثقافة الأمازيغية، وصياغة هوية الأمازيغ، وكان فاعلًا مساهمًا في تشكيل الوعي الجمعي، وقيادة التحولات الكبرى في التاريخ المغربي، كما كان أداة فعالة ونقطة ارتكاز لتذويب الروح القبلية، وظل حضوره مستمرًّا طوال أربعة عشر قرنًا بالرغم من التقلبات والحروب، وهو ما جعل من الشق الهوياتي للمغرب مركبًا لا يمكن فصل أحد عناصره عن الآخر، والدليل على ذلك كون الأمازيغية والعربية تشكلان مرتكزات أساسية لغوية وهوياتية أسهمت في بناء نسيج خصب للتاريخ المغربي، وعلى حد تعبير العالم السوسيولوجي محمد جسوس: «هما كالرجل اليمنى والرجل اليسرى بالنسبة لأي شخص عادي، إذا فقد أي واحدة منهما فلن تكون له القدرة على المشي بشكل عادي، وبالأحرى القدرة على السير بالسرعة والوتيرة التي تتطلبها تقلبات التاريخ المعاصر. لنقل كما قال كانط في إطار آخر: إن المجتمع المغربي بدون نمو اللغة العربية أعور، وبدون نمو الثقافة واللغة الأمازيغية أعمى».
وعلى الرغم من استغلال بعض الجهات المشبوهة داخليًّا وخارجيًّا لدق إسفين الفرقة والتعصب بين العرب والأمازيغ، وزرع الفتنة بينهما، فإن التعاطي الرسمي مع الأمازيغية غير هذا المسار، وجعل الأمازيغ ثقافة وشعبًا من أولويات البلد؛ إذ لم يقتصر فقط على الاستيعاب والتفهم، بل انتقل إلى مستويات أهم، وهي تنظيم برامج لتعليم اللغة الأمازيغية في المدارس الابتدائية، كما بنى للغة مؤسسات ترعى هذه الثقافة عبر أنشطة ثقافية وأبحاث تسعى إلى التعريف بالدور التاريخي والمهم للأمازيغية كلبنة أساسية للحضارة المغربية، كالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي أُردف إنشاؤه بصدور ظهير ملكي يحدد الأبعاد المؤسساتية للحضور الأمازيغي في المغرب دون أن يطال الخصوصية الدستورية للمملكة، الشيء الذي جعل من كل الأطراف المتنازعة حول القضية الأمازيغية تفوز.
بلد التعددية
يتميز المغرب بتاريخ عريق؛ إذ مرت على أرضه أجناس مختلفة ومتنوعة، واختلط شعبه بأعراق متعددة جعلت منه بلد التنوع بامتياز، فالتعددية في بلد المغرب ثروة روحية وفكرية، جعلت من المغرب شعبًا منفتحًا على العالم. ومحبًّا لهويته في تعددها، وفي كونها عنصرًا أساسًا جعل من وعيه لذاته الثقافية والاجتماعية وعيًا يعلي من شأن الأفراد الذين تعددت لغتهم وحضارتهم وتاريخهم، وجمعهم وطن يحتوي سمات وخصائص مشتركة تميز المجتمع المغربي بأمازيغه وعربه.
ولا أحد ينكر أن المغرب عرف ازدهارًا كبيرًا مع كبار ملوك الأمازيغ، أمثال يوبا الأول، وبوكوس الأول، ويوبا الثاني، وبطليموس. وقد تمكن هؤلاء من توسيع مملكتهم، ومن تنظيم الدولة على النموذج الإغريقي، حيث طوروا آليات الحكم السياسي والتنظيم الاقتصادي. وقد حاول بطليموس توحيد القبائل الأمازيغية في الشمال الإفريقي، وتمدين مملكته حضاريًّا وثقافيًّا وعلميًّا، وتزيينها عمرانيًّا وهندسيًّا بالطريقة الجمالية اليونانية والرومانية والأمازيغية، وتوسيعها خارج النطاق المرسوم له من الحكومة الرومانية، وهو ما أدى إلى اغتياله من الإمبراطور كاليغولا، وذلك للحد من طموحاته التوسعية. كما أن طارق بن زياد، وعباس بن فرناس، وابن بطوطة، وعبدالكريم الخطابي، وهم رموز أمازيغية، لهم بصمتهم في التاريخ المغربي خاصة، والعربي عامة. (د.محمد بن لحسن، الأمازيغ أضواء جديدة على المسيرة الحضارية عبر التاريخ، مطابع الرباط نت، 2015ص:13).
وفي نهاية الطرح يمكن القول: إن الأمازيع لا يمكن جعلهم بسهولة أقلية، فهم كما سبق الذكر أغلبية عرقية، تعرب لسان جزء منهم بسبب اختلاطهم بالمدن ذات الوجود العربي، على حين بقيت الدواخل محافظة على أمازيغيتها اللسانية، مع الانتماء إلى الإسلام حضاريًّا.
المنشورات ذات الصلة
المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر
إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه،...
المرأة العربية والكتابة الروائية
يـبدو زمـنًا بـعيدًا ذاك الـذي صدرت فيه نصوص تـدافع عن حق المرأة العربية في أن تـنال الاحترام والاعتراف بدورها الأساس...
الإبداع والنسوية والنقد
حاصرتني على مديات طويلة كتابات نقاد يحيلون كل ما تكتبه الكاتبات على أنه أدب نسوي، أو أدب نسائي، وأحيانًا يجنحون إلى...
0 تعليق