كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
«كلايمت فيكشن» نوع أدبي جديد… محوره المناخ والتغيرات البيئية
عندما قرُب موعد صدور روايتها الجديدة خطر ببال الروائية الدنماركية شارلوته فايتزه أمر مهم جدًّا، فاتها أن تسأل محررها عنه، فاتصلت به في الحال لتسأله عن نوعية الورق الذي ستُطبع عليه روايتُها التي حملت العنوان: «ما هو مقيت»، إنْ كانت عجينة الورق لكتابها من أشجار مجازة القطع، وإلا سيكون كل ما كتبته مداهنةً ونفاقًا! إنها قلقة بشأن ذوبان الجليد في القارة القطبية، وارتفاع منسوب مياه البحار. وروايتها التي صدرت حديثًا تقع في صنف الرواية الذي يدعى «كلاي فاي» مختصر «كلايمت فيكشن»، وهو الأدب الذي يدور محوره حول المناخ والتغيرات البيئية، وهو صنف حديث تم اشتقاقه على غرار روايات الخيال العلمي «ساي فاي» مختصر «ساينس فيكشن».
والروائية فايتزه كانت من أول الحاصلين على منحة الإقامة الممولة من منظمة «الكلمة الحرة لندن» المخصصة لتقديم الدعم للمهتمين بشؤون البيئة من الباحثين والكتاب الذين يدرسون كيفية معالجة هذه القضايا عبر الفن والأدب، وقد صدرت الرواية بعد سلسلة من البحوث التي أجرتها، والمعارض التي زارتها، والمقابلات التي خصت مشروع «أزمة المناخ».
كان صوتها ناعمًا قلقًا وهي تتحدث في المقابلة عن هواجسها، لدرجة تشعر خلالها بالحيرة، ولا شك أن الأسباب تعود لتلك الفوارق في انشغالات كتابنا عنها في هذه البقعة من الأرض. وهذا لا يعني انحسار الأصناف الأخرى، ولكن لأن مصطلح «كلاي فاي» أخذ يتردد كثيرًا في السنوات الأخيرة، ما يضطرك إلى الإحساس أولًا بالتخلي عن مسؤوليتك إزاء هذا الكوكب، هل تمسّنا حقًّا العناوين التي تتصدر عشرات المقالات والبحوث حول حرارة الأرض التي جعلناها متقلبة بشكل متطرف دون أن ندرك أنها من فعل الإنسان! ولعل أحدنا سيقول مدافعًا عن نفسه: تكفينا همومنا من الحروب والقمع والنزوح واللجوء والأنظمة القمعية لننشغل عنها أو لنوثقها أو نوظفها في أعمال إبداعية، ومن ناحية أخرى ألا نشعر حقيقة بالعجز إزاء هذه التحولات، وما الذي يمكن فعله؟
ضد الأدب السياسي
ولكننا نكتشف أن موضوع البيئة والمناخ الذي احتل هذه المساحة في الأدب اليوم، لا يمكن إبعاده عن السياسة، إن أتينا على ذكر خلفيات كل هذه التغيرات! وإن لم تصل احتجاجاتنا بشتى الوسائل إلى أصحاب القرارات في العالم لن نستطيع إنقاذ أنفسنا. الكتابة في هذا المجال ليست سهلة كما تذكر فايتزه، كما أن الإيمان بها شرط لا يمكن مناقشته على الصعيد الشخصي، وإن كانت القرارات صعبة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، تذكر فايتزه: إن كنت تريد أن تستخدم الخلايا الشمسية في بيتك كسلوك أخضر يحافظ على البيئة، عليك بالعمل بالطبع فهي مكلفة، وهل يمكنك الاستغناء عن سيارتك إن كان مكان عملك بعيدًا؟ وإن اضطررت إلى ذلك فستساهم بالتالي في زيادة نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الجو.
هذا مثال بسيط على التوازنات التي علينا أخذها في الحسبان لنؤدي الدور الذي يقع علينا في كل هذا. والأصعب -كما تقول- هو في توظيف كل هذه الأفكار والمعلومات والإحصائيات أدبيًّا. ولكنها تهدف مع ذلك إلى استخدام الفن للتحريض والتنبيه، ولكنها ضد الأدب السياسي الذي يعود إلى حقبة السبعينيات.
هذا ما يؤكده الشاعر الدنماركي المتمرد وعازف الساكسفون لارس سكيناباك الذي رفض بالمقابل تسمية ما يكتبه بالشعر السياسي كتعريف، على رغم أن ما يكتبه يشير إلى فعل سياسي. عندما يخيب السياسيون آمالنا على الشعراء أن يتقدموا، وأن يدعموا من خلال نصوصهم القارئَ ليكون فاعلًا، ذلك هو ما فعله سكيناباك حين أصدر قبل بضع سنوات مجموعة شعرية «04-09» أسماها بطبعتها الأولى «تمارين ونصوص طقسية» وكتبها بخط يده، وصدرت بطبعة أولى محدودة تفرض على مشتري الكتاب -وفق شبه ميثاق- ألا يفكر فيما ينفقه خمسة أيام سوى بـ»البيئة، والمناخ، والفقر، والنزعة الاستهلاكية، والثروات المُهْدَرة». يقول في لقاء له في صحيفة «الإنفورمشيون»: الشاعر الذي لا يتناول خطر التغيرات في المناخ حاليًّا شأنه شأن من يعزفون والباخرة تغرق. إن الوقت قصير جدًّا لتلافي التدهور السريع الذي أخذ يدمر حياة شعوب بأكملها. وهو يميل إلى تسمية شعره بـ»التظاهري» بديلًا للشعر السياسي، وهو المصطلح الذي أطلقه ناقد سويدي على نتاجه الشعري.
يقول: إنه لا يتوقع أن يغير العالم من خلال ربما 30 مشتريًا لن يستهلكوا شيئًا خلال خمسة أيام، «ولكني أشير إلى الاحتمالية التي تكمن في فن سياسي مباشر».
كسر احتكار الرجل
كما استعرضنا المثالين السابقين يدفعنا الموضوع إلى تناول أعمال أخرى تصب في هذا المجال؛ إذ إن «بولاك: اسم مشروع دنماركي جديد يجري العمل فيه» يؤكد هو أيضًا أن السياسة والأدب يظهران مترافقين في كثير من الأحيان. «بولاك» معني في البحث في موضوعه بمنطقة القطب الشمالي من خمس كاتبات دنماركيات محترفات في مقتبل أعمارهن، نتاجهن جاد وظلهن خفيف. سينطلقن في صيف العام 2016م ليكتشفن هذا المكان الأسطوري المتخيل في جانب منه، سيبحثن في سر الصراع المستفحل الآن بين الدول العظمى: كندا، وأميركا، وروسيا، حول الحدود التي تطالب كل دولة بها، وبعد أن قدمت الدنمارك مؤخرًا طلبًا أيضًا في حقها بالقاع تحت القطب! سيقفزن، ينبطحن، يغنين ويصورن، لا شيء مستبعد. الخطة أن يصدر كتاب أدبي شعري، وفلم ومعرض فوتوغرافي عند انتهاء البحث الذي اختلفت دوافعه؛ فجزء منه ينطلق من وعيهن المشترك بأهمية هذه الثيمة، ولاسيما أن كلًّا منهن قد سبق أن كان لها نتاج بهذا الخصوص، وجزء آخر من هذا المشروع هو في كسر احتكار الرجل لمجال البحث الوعر، ومن ثم الكتابة أدبيًّا عنه وبقلم نسائي.
أما الكاتب النرويجي الأصل كيم لاينه الذي درس في الدنمارك، وعمل في غرين لاند، وعاد بعدها ليستقر في الدنمارك، فستصدر له رواية دنماركية جديدة بعنوان «الأرِقون» تتحدث بدورها أيضًا عن التغيرات المناخية، وهي من الخيال العلمي أيضًا وتدور أحداثها في غرين لاند (بلدٌ مُنح الحكمَ الذاتي من الدنمارك، وهو يقع بين القطب الشمالي والمحيط الأطلنطي، شرق أرخبيل القطب الشمالي الكندي). وتتحدث الرواية عن المستقبل القريب للبلد الذي يغمره الضوء الأبدي حين لا تغيب الشمس إطلاقًا، فلا يستطيع الناس النوم حين يقتحم بيوتهم وأعينهم، ويحول دون خلودهم للراحة فيمرضون، يدورون ويعملون، وفي المقابل هم بشوق إلى الليل والنوم، يذوب الثلج وتختفي الزلاجات، وتتغير بالتالي طبيعة الحياة المميزة إجمالًا في تلك البقعة من الأرض!
ولأن ربطنا الفن بالسياسة والبيئة في المجتمعات المتطورة التي تكاد النزعة الاستهلاكية والمادية تجففها تمامًا، فلا بد للعلم من كلمة هنا. «القصة بأكملها، سرديات عن السحر والعِلم» كتاب صدر حديثًا أيضًا، وهو ثمرة تعاون على مدى أربعة أعوام بين الشاعر والموسيقيّ كريستيان ليت من فرقة «وليم بليك»، والعالم الدنماركي البروفيسور إيسكي ويلارسليف المعروف عالميًّا بتخصصه في علم الـ«دي إن أي». يدور الكتاب في بحثه حول الحدود ما بين العلم وكل ما لا يمكن وزنه أو قياسه: هل بإمكان عالِمٍ أن يُقرّ بوجود قوة غيبية ما قد تحرّك جبلاً؟! هذا أحد الجوانب التي تناولها الكتاب، وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات التي دارت حول البعد الروحي في الثقافة الدنماركية، والعلاقة بين العلم والجانب الروحي في الحياة عبر تاريخ البشرية، كما يعرج كذلك على السياسة الحالية في العالم.
ويلارسليف جريء في إعلان إيمانه بوجود الله أو «شيء ما رباني في الأعلى»، مراجعه الداروينية تؤكد أنه لو كان احتياج البشر الروحي بلا قيمة لقضت نظرية التطور على التعصب والتزمُّت منذ زمن بعيد. من ناحية ثانية يرى الشاعر ليت أن الدنماركيين –على خلاف ما يعتقدون- ليسوا بعلمانيين، والكثير من منطلقاتهم عقائدية وبروتستانتية، كما أن المتطرفين من بين المسلمين وغيرهم من الذين ننتقدهم ونريد لهم أن يتبنوا الصورة التي نحن عليها، «نحن كمجتمع متفقون على أن ما يسمى البعد الروحي لا قيمة له، نحن نسعى لكي ننفصل عن الروحانية لأنها تذكرنا بقصص حقيقية مرعبة تم استخدامها من رجال الدين على مر التاريخ، وهو ما أدى إلى أننا لا نتحدث عن شيء آخر سوى المادية أو الأرقام؛ لأنها الحقيقة الوحيدة لدينا. نحن نظن أننا لا نقوى على مواجهة المادية، وبالتالي نعتمد سياسة الضرورة، ولكنه موضع اخترناه بأنفسنا؛ لأننا نظن أننا ما بعد أيديولوجيين، نظن أننا تجاوزنا عصر الحكايات ولا يمكننا لهذا أن نتحدث بلغة غير لغة المعلوماتية».
المنشورات ذات الصلة
خوليو كورتاثر كما عرفته
كانت آخر مرة رأينا فيها بعضنا هي يوم الجمعة 20 يناير 1984م، في غرفته الصغيرة بمشفى سان لازار في باريس، على مبعدة زهاء...
عن قتل تشارلز ديكنز
عشت الثلاثين عامًا الأولى من حياتي ضمن نصف قطر بطول ميل واحدٍ من محطة ويلسدن غرين تيوب. صحيح أني ذهبت إلى الكلية -حتى...
الأدب الروسي الحديث.. الاتجاهات، النزعات، اللغة
يشير مصطلح «الأدب المعاصر» إلى النصوص التي كتبت منذ عام 1985م حتى الوقت الحالي. إنه تاريخ بداية عملية البيرسترويكا،...
0 تعليق