كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الأقليات في الأردن: يحرسون الملك ومنهم رؤساء حكومات ووزراء وفنانون وروّاد في الأدب
تبدو الأقليات في الأردن مختلفة عنها في أنحاء من الوطن العربي، فكثير ممن ينتمون إلى الأقليات كان إسهامهم عميقًا وجذريًّا في مختلف مؤسسات الدولة، من دون أن يثير أحد هؤلاء أي أسئلة من أي نوع. إذ إن من المعروف أن رشيد طليع هو أول رئيس للوزراء في إمارة شرقي الأردن (1921م)، لكنّ قلّةً من الأردنيين يعرفون أنه درزيّ، فمثل هذه المعلومة قد تبدو ثانوية، وخارج اهتمام الناس ما دام الرجل (وهو لبنانيُّ الأصلِ) عروبيًّا وذا نزعة وطنية واستقلالية.
عندما تولّى سعيد المفتي رئاسة الحكومة عام 1952م، لم يلتفت أحد إلى كونه شركسيًّا ينتمي إلى عائلةٍ مهاجرة من روسيا، وانصبّ التركيز بدلًا من ذلك على رجلِ دولة نجح في نيل موافقة مجلس الأمة بالإجماع على وحدة الضفتين، ولم يكن مستغرَبًا إسناد هذا المنصب له ثلاث مرات أخرى من دون أن يؤثر هذا في تقديمه بوصفه زعيمًا للشركس. أما سعد جمعة الذي تولّى رئاسة الحكومة عام 1967م مرتين، وذلك في مرحلة عصيبة شهدت اضطرابات متتالية في تاريخ الأردن المعاصر، فكان الكثيرون لا يعرفون أنه من أصلٍ كرديّ، وحسْبُهم أنه أول رئيس وزراء يحصل على الثقة بالإجماع من مجلس النواب.
هذه النظرة التي لا تفرّق بين مواطن وآخر بسبب المذهب، أو العرق، أو القومية، أو الدين، هي التي جعلت تعبيرًا مثل الأقلية، يبدو إلى حدّ كبير محض تعبيرٍ وصفيٍّ يشير إلى العدد ونسبته، ولا علاقة له بالحقوق أو الواجبات من قريب أو بعيد، فالأردنيون أمام القانون سواءٌ. ويقدَّر عدد سكان الأردن بنحو ثمانية ملايين نسمة، معظمهم من العرب المنحدرين من قبائل هاجرت إلى المنطقة على مر السنين، إضافة إلى ذلك، هناك الشركس الذين هم من أحفاد اللاجئين المسلمين من جراء الغزو القيصري الروسي للقوقاز في القرن التاسع عشر، وهناك الشيشان الذين يشكلون مجموعة أصغر مقارنة بالشركس. وثمة أعداد قليلة من الأكراد والدروز والأرمن والبهائيين.
عند الحديث عن دولٍ التهمتها نيرانُ النزاعات والحروب الأهلية، يشار إلى الأردن الذي يشهد تنوعًا عرقيًّا ودينيًّا، بوصفه حالةً متقدمةً في تجانس التركيبة الاجتماعية، وصهر الفوارق في مكوّناتها، دون مسٍّ بحرية العقيدة الدينية، أو حرية تكوين الجمعيات، أو حرية التعليم أو الحق بالعمل. فأبناء الأقلّيات، يتحركون في الفضاء العام من دون أن يواجهوا مشكلات الهوية المركّبة، أو تعدّد الولاءات، أو ازدواجيتها، وتشارك فِرقهم الفولكلورية في المهرجانات الثقافية والفنية، لتعبّر عن موروثهم في إطارٍ من الخصوصية التي تُغني المشهد، وبما يحقق المثاقفة مع بقية المكونات.
فنانون وشخصيات اعتبارية
هذا الوعي بأهمية دمجِ المكونات المختلفة، وصهرها لتصل إلى الدرجة الكافية من الاتفاق مع محيطها المتنوع، بدأ مبكرًا، ويكفي أن تتأمل صورةً لأحد ملوك الأردن محاطًا بالحرس الخاص للقصور الملكية لتتأكد من هذا. فقد جرت العادة أن يُختار معظم أفراد هذا الحرس من الشركس، بالنظر إلى ما عُرف عن هؤلاء من ولاءٍ، وما يتمتعون به من أمانة، بل إن الزيّ الخاص بالحرس الملكي هو زيّ فولكلوريّ شركسي! واشتُهر أفراد في العائلة المالكة بعلاقتهم الوثيقة بالشركس، وبخاصة الأمير علي الذي ما زال الناس يتداولون مقطعَ فيديو يَظهر فيه وهو يشارك الشركس إحدى رقصاتهم الفولكلورية.
ويسهل على المرء استذكار عشرات الشخصيات الاعتبارية من الشركس، مثل: الفنان المسرحي الرائد أشرف أباظة، وشكيب الداغستاني الذي كان من أوائل المعلّمين في مدرسة السلط الثانوية، والكاتبة زهرة عمر صاحبة الرواية الشهيرة «الخروج من سوسروقة»، والأكاديمية لانا مامكغ التي تولّت وزارة الثقافة، وإحسان شقم الذي عمل مديرًا عامًّا للإذاعة والتلفزيون، والشاعر فيصل قات، والكاتب الصحفي المعروف باتر وردم، والروائي والمخرج السينمائي العالمي محيي الدين قندور، والروائي محمد عمر أزوقة، ونانسي باكير التي تولّت وزارة الثقافة ومنصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، وعلياء حاتوغ التي تولت وزارتي السياحة والبيئة، ونبيه شقم وزير الثقافة الحالي.
وللبلقان حضورٌ رمزيٌّ بين الأقليات في الأردن كما يقول الدكتور محمد الأرناؤوط، أستاذ التاريخ في جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمّان، فهناك جزء من الشركس استقروا في ولاية قوصوة (جنوب صربيا وجمهورية كوسوفو الحالية) وبنوا نحو خمسين قرية جديدة بعد هجرتهم من موطنهم الأصلي، ولكن مع اندلاع الحرب الروسية العثمانية (1877م) وقيام القوات الصربية بتجريف المنطقة هاجروا من جديد إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام، واستقر بعضهم في شرق الأردن حيث عُرفوا باسم شراكسة قوصوة، وكان من أبرزهم اللواء ميرزا وصفي الذي أصبح قائدًا لسلاح الفرسان في إمارة شرق الأردن. وعندما قامت النمسا باحتلال البوسنة سنة 1878م هاجر مئات الألوف من المسلمين إلى داخل الدولة العثمانية التي وزّعتهم على ولاياتها، فقدم بعضهم إلى فلسطين وأصبح بعد عام 1948م جزءًا من الأردن، حيث تميَّز بكنية «بشناق» التي تدل على موطنه الأصلي. وقد أعاد بعض هؤلاء تواصله مع الموطن الأصلي بعد استقلال البوسنة. ومن أبناء البشناق الذين عُرفوا في مجالات الثقافة والإدارة عبدالرحمن بشناق (1913-1999م) عضو مجمع اللغة العربية الأردني، والمدير العام السابق لمؤسسة عبدالحميد شومان.
وإلى جانب هؤلاء المئات من البشناق، يلفت الأرناؤوط إلى أقلية صغيرة أيضًا تُعدّ بالمئات من الألبان الذين هاجروا من موطنهم بعد حرب البلقان (1912/1913م) وبعد قيام صربيا باحتلال ولاية قوصوة، حيث استقر قسم منهم في فلسطين وبعد عام 1948م أصبحوا جزءًا من الأردن. وأسوة بالبشناق عُرف هؤلاء بكنية تميّزهم هي الأرناؤوط. وقد برزت منهم شخصيات معروفة في الإدارة والطب والتعليم، مثل نوري شفيق وزير التربية الأسبق، والطبيب المعروف المختص بالغدد وأمراض السكّري محمد الأرناؤوط.
أما الشيشان فقد هاجروا للأردن من غروزني ـ القوقاز في أواخر القرن التاسع عشر. ويُعزى إليهم بناء مدينة الزرقاء في التاريخ المعاصر، ويبلغ عددهم نحو عشرة آلاف نسمة. وقد اندمجوا في المجتمع والتزموا بمنظومة التقاليد العربية والإسلامية مع حفاظهم على لغتهم الأم «ناخ» أو «ناخ داغستان»، وما زالوا يتمسّكون بعاداتهم وتقاليدهم التي تعكس هويتهم وشخصيتهم واعتزازهم بقوميتهم، مثل تقليد خطف العروس برضاها وضد إرادة أسرتها، وهو التقليد الذي يمارسونه إلى اليوم تمثيلًا، بوصفه تعبيرًا عن الفروسية والرجولة والشجاعة.
ومن أبرز الشخصيات الشيشانية في الأردن: بهاء الدين الشيشاني، وهو أول رئيس لبلدية الزرقاء (1928م)، وقاسم بولاد الذي رَأَسَ بلدية الزرقاء أيضًا، وانتُخب عضوًا في البرلمان، وسعيد بينو الذي عُين وزيرًا للأشغال العامة وأصدر كتابًا مرجعيًّا عن الشيشان، ومحمد بشير إسماعيل الشيشاني الذي عُين وزيرًا للزراعة وأمينًا للعاصمة، وسميح بينو الذي تولّى منصبًا وزاريًّا، وانتُخب في مجلس النواب، واختير في مجلس الملك (الأعيان) وكان أول مدير لهيئة مكافحة الفساد.
زهد في المشاركة السياسية
وبما يخص البهائيين، فقد استقرّوا في الأردن منذ أواخر القرن التاسع عشر (1890م)، بعدما فرّوا من الاضطهاد الإيراني القاجاري، وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى منهم تنتمي إلى أصول إيرانية، فإنها لا تعبّر عن ثقافة فرعية خاصة بها، ولا تعدّ نفسها مجموعة إثنية، بل جزءًا من نسيج المجتمع الأردني، حتى إنه ليس لها زيّ فولكلوري يميزها من سواها.
ويقدّر عدد البهائيين الذين يتوزعون في جميع أنحاء البلاد، بنحو 1000 شخص، وقد خصصت بلدية إربد في الخمسينيات من القرن الماضي، جزءًا من المقبرة الإسلامية لهم، وكانوا قد بنوا في ذلك الوقت مدرسة ومكانًا للاجتماع والعبادة في العدسية يسمّونه حظيرة القدس، قبل أن يشيدوا بناءً مماثلًا في عمّان، ثم بناءً ثالثًا في إربد في مطلع الثمانينيات. ولهم كذلك مقابر في منطقتي طبربور (عمّان) والعدسية (الأغوار)، وهو ما يشير إلى اعتراف واضح بهذه الطائفة، وبحريتها في التعبير عن معتقدها.
ووفقًا للباحثة والأكاديمية نسرين أخترخاوري، فإن البهائيين يزهدون في المشاركة السياسية، لكنهم فاعلون في الشؤون العامة وقضايا المجتمع المدني، وينصبّ اهتمامهم على تحفيز الشباب والناشئة على الانخراط في خدمة مجتمعاتهم المحلية.
ويتركّز وجود البهائيين في منطقة العدسية، ويعود لهم الفضل في تطويرها عبر استصلاح مساحات واسعة من الأراضي، واستخدام آليات وطرق زراعية حديثة، إلى جانب إدخالهم عددًا من المحصولات التي لم تكن معروفة في المنطقة، مثل الموز والحمضيات والباذنجان الذي يسمى العجمي نسبة إليهم.
وبرز من بين معلمي مدرسة السلط الثانوية «أم المدارس في الأردن» حسين روحي، وعلي روحي الذي أسهم في تطوير المناهج المدرسية، وكان على علاقة طيبة بالملك عبدالله الأول. كما أن محمود سيف الدين الإيراني، رائد القصة القصيرة في فلسطين والأردن «صدرت مجموعته الأدبية الأولى أوّل الشوط سنة 1937م» كان بهائيًّا. ومن الشخصيات البهائية المشهورة أيضًا د. نسرين أخترخاوري التي تقيم الآن في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعمل في إحدى الجامعات هناك وتتولى التعريف بالأدب العربي عبر استضافة كتّاب عرب وترجمة أعمالهم.
بروتوكولات حكماء صهيون
وفيما يتصل بالدروز (بنو معروف)، فمن أهم رجالاتهم الذين كانوا أعضاء في حزب الاستقلال والذين وفدوا إلى الأردن قادمين من دمشق بعد انتهاء الحكم الفيصلي؛ فؤاد سليم الذي شغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش، والأمير عادل أرسلان الذي عُين رئيسًا للديوان الأميري، وعجّاج نويهض الذي كان مؤرخًا وأديبًا ومترجمًا تولّى إدارة الإذاعة العربية في القدس في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم إدارة المطبوعات والنشر بالأردن، والذي نال كتابه «بروتوكولات حكماء صهيون» شهرة كبيرة. وكان استقرار الدروز بوصفها جماعة في الأردن بدأ في عام 1918م عندما وصلت 22 عائلة درزية من جبل العرب بعد خروج الأتراك من المنطقة، وسكنت القصرَ الأموي في واحة الأزرق، قبل أن يتوجه أبناؤها لتشييد مساكنهم حول القصر.
وكان استخراج ملح الطعام وتكريره من أهم مصادر دخلهم، وقد نشطوا في تأسيس الجمعيات الخيرية والتعاونية والنوادي الثقافية والرياضية، ومن أبرزها منتدى الأزرق الثقافي الذي ينظم مهرجان الأزرق للثقافة والفنون سنويًّا في قلعة الأزرق الأثرية. أما الأرمن فيبلغ عددهم في الأردن نحو ثلاثة آلاف نسمة، وهم يدينون بالمسيحية، وينتمي معظمهم إلى كنيسة الأرمن الأرثوذكس، كما يحافظون على لغتهم الأم، إلى جانب تحدثهم بالعربية. ولهم حيٌّ باسمهم في جبل الأشرفيّة بالعاصمة.
في ضوء ما سبق، يمكن القول: إن الثقافة العربية والإسلامية لا تزال هي السائدة والمسيطرة، وهي التي تمنح المجتمع الأردني الصبغة الغالبة في تقديم نفسه للعالم بالرغم من التنوع الغريب والعشوائي في تشكيلته، وبموازاة ذلك، لا تتردد الأقليات في التعبير عن نفسها في مناسباتها المختلفة، من خلال التمسك بالزي الفولكلوري، وممارسة طقوسها المتوارثة في الأفراح والأتراح، واستخدام لغاتها القومية في التواصل بين أفرادها، وإحياء عاداتها وتقاليدها في مهرجاناتها الفنية والثقافية.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
لم تتم الأجابة عن السؤال المطلوب