كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
صادق جلال العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء – فتحي المسكيني
بدأ هيدغر ذات يوم أحد دروسه عن أرسطو قائلًا: «لقد وُلد، وعمل، ومات». كان القصد هو أنّ علينا أن نهتمّ بأعماله وليس بسيرته الذاتية. بل أكثر من ذلك أنّ الفيلسوف ليس له حياة يوميّة، وأنّها بالتالي لا تعني من يؤرّخ لفكره بوصفه مقطعًا من تاريخ العقل البشري أو من تاريخ حقيقة الكينونة. يأتي الفلاسفة كي يقولوا كلمة واحدة للإنسانية -كما كان يردّد جبران- ويذهبوا، إلا أنّ المشكل الصامت هنا هو أنّ الثقافات لا تكون جاهزة بالقدر نفسه للقاء معهم. وهم يتقاسمون هذا القدر الخاص مع عظماء الإنسانية الآخرين في كون الحديث عنهم أو معاداتهم أو مصادقتهم.. هو موضوع يسيل لعاب العقل اليومي وكل من يقف وراءه، سواء أكان فقهاء الملة أو موظّفي الدولة الحديثة.
في هذا السياق الدقيق تأتي تهمة «الإلحاد» التي تصاحب الفلاسفة، وبخاصة كلّ من أخذ ادّعاءات العقل البشري حول نفسه أو حول عالمه مأخذ الجدّ. الإلحاد ليس تهمة شخصية لأيّ فيلسوف، بل هي إزعاج داخلي يحمله العقل البشري في طبيعته التي جُبل عليها. هذا درس كانط الكبير. لكنّ الفلسفة ليست إلحادًا. ومن فهمها أو يفهمها على هذا المسمّى هو يتّهم عقله سلفًا، ولا يتّهم أحدًا.
اتُّهم صادق جلال العظم بالإلحاد مدّة طويلة، وحوكم بسبب كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م). وفي الواقع إنّ موضوع هذا النقد لم يكن «الدين» في ماهيته الخاصة سواء أكانت روحية أو ميتافيزيقية. لا يحتوي الكتاب على مناظرة فقهية أو فلسفية مع علماء الدين أو فلاسفة الدين. بل هو فقط نقد لما سمّاه «الذهنية الدينية» (نقد الفكر الديني. العظم) التي تشرعن لنمط معيّن من السلطة التي يدافع عنها ويؤقنمها «إنتاج فكري ديني واعٍ ومتعمّد» (نقد الفكر الديني).
كان «نقد الفكر الديني» كتابًا في نقد السلطة بعد هزيمة عام 1967م، وليس في نقد الدين بالمعنى المحصور؛ لذلك فإنّ اتهامه بالإلحاد كان اتّهامًا سياسيًّا، وليس عقديًّا. وهو نوع من تزييف النقاش حول الدين في ثقافتنا لا يزال ممتدًّا، طالما توجد دول تستفيد منه في تعميق مشروعيتها الروحية. قال العظم في مطلع الفصل الأول من هذا الكتاب: «عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث، لا أقصد الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة… إنّ بحثي يدور حول إنسان معاصر (اسمه س) ورث الإسلام بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء جوهري من تكوينه النفسي والفكري.. والسيد (س) ليس له وجود واقعي مئة بالمئة؛ لأنه يشكل حالة نموذجية، والنماذج نوع من التجريد، ولكن من جهة أخرى إن (س) هو –إلى حد ما وبدرجات متفاوتة- كلّ واحد منا ولذلك لا بد وأن يهمنا أمره للغاية». إنّ نقد الفكر الديني هو إذن «نقد للذات» بالمعنى القوي للكلمة، وهو «نقد للإنسان المعاصر» الذي هو «كلّ واحد منّا» بدرجات متفاوتة. هذا هو لبّ الفلسفة؛ أن تفكّر في الإنسان بما هو إنسان، وإنْ كان ذلك سوف يتمّ دومًا بوسائل ومشاكل ثقافة بعينها.
طريق متسق وعميق
من كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م) إلى تأييد الثورة السورية (2011-2016م) يبدو لنا طريق الروح في كتابات العظم متّسقًا وعميقًا. طبعا علينا أن نتساءل للتوّ: ما الرابط النسقي والأخلاقي بين عناوين «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) أو «ذهنية التحريم» (1997م) حتى «الحب والحب العذري» (1981م)، وموقف المؤلف من الثورة السورية راهنًا؟ لنقل بسرعة: إنّ هذا الرابط ليس سياسيًّا. إنّه رابط فلسفي وأخلاقي عميق. فمنذ عام 1968م (هزيمة الدولة القومية أمام عدوّها الاستعماري) إلى عام 2011م (هزيمة الدولة الأمنية أمام شعوبها)- من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) إلى كتاباته الأخيرة حول الثورة السورية (منذ 2011م)، ظلّ العظم يكتب كي يقاوم أو ينقد نمطًا معيّنًا جدًّا من السلطة العميقة؛ إنّها السلطة التي تشرعن إهانة الإنسان داخلنا وفق منطق محدّد هو منطق الاستبداد. ولا فرق إن كان الاستبداد دينيًّا أو سياسيًّا أو أخلاقيًّا.
في كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» كلّ ما أثبته العظم هو سؤال عميق عن المسؤولية، تحت عنوان «النقد الهادف»، أي نقد الأوهام، وليس مصنّفًا بارعًا في الهزيمة. هو كتاب في نقد المسؤولية، وبخاصة عندما تكون الهزيمة هزيمة «الإنسان المعاصر» فينا. وعلى الرغم من اعتراف المؤلف عام 2007م بأنّ «علامات التسرّع والارتباك ظاهرة في نص الكتاب»، وأنّه «كُتب تحت ضغط احتقان نفسي شخصي وجماعي هائل»، فإنّ غرض الكتاب كان بالتحديد تسجيل «الأثر الانهياري المهول الذي تركه ذلك السقوط اللحظي المريع في جيلنا- جيل الستينيات كما يسمى أحيانًا- بأكمله» (النقد الذاتي بعد الهزيمة. العظم). ضدّ الدولة المهزومة عاد العظم كي يكتب منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م، وهو لا يكتب دفاعًا عن فوضى الشعوب، بل ضدّ النمط الدكتاتوري من السلطة، الذي صار منذ عام 2011م فاقدًا للشرعية سواء نجحت الشعوب في إسقاطه أم لم تنجح.
ضد اضطهاد الحرية
وكعادة الفلاسفة يتطلّب كلّ فهم دقيق لأفكار العظم أن ينصت بحدّة وبخاصة إلى التلطّفات التي يجريها التفكير الفلسفي على المسائل التي يعالجها، فكما أنّه لم يكن ضدّ الدين بحدّ ذاته عام 1968/1969م هو أيضًا ليس ضدّ الدولة الحديثة بما هي كذلك بعد عام 2001م؛ إنّه في المرّتين ضدّ اضطهاد الحرية مهما كان شكل المعركة. إنّه مع الثورة بالمعنى المعاصر لكنّه لا يرى أي مستقبل للشرعنة الدينية لها. هو ينقد التطرّف وذهنية التحريم لكنّه يعتقد أنّ الإسلام قادر على تحمّل درس العلمانية والانسجام معها. نقدَ الفكر الديني لأنّه يخشى الإسلام السياسي وأسلمة الثورات المدنية المفرطة والمتعمّدة، لكنّه وقف مع الثورات التي خرجت من المساجد.
هو يؤمن أنّ الشعوب هي على حقّ دائمًا ضدّ الطغاة والمستبدّين. إنّه فيلسوف تحمّل مسؤوليته «النقدية» طيلة حياته، لكنّه لا يتردّد في توقّعاته بأنّ ما سوف يسود بعد كلّ هذه المسألة هو «مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة». هو علماني لكنّه مع الثورة سواء تَعلمَنتْ أو تَأسلمت.
وبكلمة أخيرة: ليس أقلّ بركة للثورة «إعادة الناس إلى السياسة»، كما قال، بل أيضًا: إنّها إعادة صادق العظم إلى الأفق الروحي لشعبه: الثورة مطهرة من كل إلحاد.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق