المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة الشاعر محمد بنيس

بواسطة | ديسمبر 27, 2016 | دراسات

يتطلب التعامل مع شعر محمد بنيس زادًا نظريًّا واستبصارًا بالأوضاع النصية التي تستقبل تلك المعرفة وتتحاور معها. ولهذا الحوار تاريخُه النصيُّ الذي يبدأ مع ديوانه الأول «ما قبل الكلام» (1969م)، من حيث طبيعة الاختيار الشعري، ذات الصلة بأوضاع التجارب المغربية والعربية في مطلع السبعينيات. وبتقدم الممارسة نحو سؤالها الخاص، ضمن تلك الأوضاع، كان التعدد أفقًا وسمةً تميز كتابة هذا الشاعر الذي ربط بين الممارسة والتنظير كفعل متوازٍ، له إستراتيجيته المعرفية المتواشجة مع الجغرافيات الشعرية في العالم. ويبدو أن ما نشره من نصوص في مجلة «مواقف» سنة 1969م، لم يكن من قبيل الاستثناء الاعتباطي أو العرضي الذي رافق المشهد الشعري المغربي بالأفق التقليدي في بعض المراكز المشرقية الأخرى، وإنما كان مغامرةً عمقت الوعي عنده بمرحلة السبعينيات، من حيث هي حالة فارقة في الثقافة المغربية، من أجل معرفة طموحاتها، وحاجاتها، ومستوى قدرتها على اقتراح ثقافة جديدة في الشعر وغيره. ولا شك أن البحث المتقدم عن الأسئلة العميقة، وبخاصة بعد اللقاء مع نتائج ثورة الطلاب بفرنسا سنة 1968م، كان عاملًا في إغناء الاختيار الشعري عند بنيس(1).

ومع نتائج أطروحته الجامعية «ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب» (1978)، وما خلقته من ردود أفعال متباينة، كان نصه يختبر أبنيةً في اللغة والخط والصفحة، فتعمق الوعيُ بضرورة استئناف المغامرة بقيم وأسئلة شعرية تزيد من تأزيم الأسئلة الأيديولوجية التي وسمت نقد الشعر بالمغرب. ومن اللافت للنظر أن اشتغاله بالتركيب وبناء الآية، في الثمانينيات، أفسح المجال أمام شعراء آخرين لالتماس مبدأ حرية الاقتراب من المختلف والمتعدد، رغم محدودية ذلك المطلب وقدرتهم على الصوغ المفهومي لذلك المنجز. وقد كان لـ»بيان الكتابة» الصادر سنة 1981م بمجلة الثقافة الجديدة، الأثرُ العميق في فهم وضع الشعر المغربي الحديث والمعاصر، ورفع الالتباس عن أوجه التحديث التي اختلط فيها السياسي والثقافي، وهيمن على آفاقه وأسئلته التي كان من المفترض أن تجد مسوغها الإبداعي منذ الخمسينيات، بعيدًا عن المؤسسة وأيديولوجياتها المتكررة.

ولم يكن نقل هذا السؤال إلى الدرس الجامعي هيِّنًا، بل واكبتْه إشكالات عديدة، أبرزها صعوبة الحديث عن شعر مغربي معاصر لا يزال في طور التشكل والبحث عن هوية ممكنة بخصائص غير معلومة ومحددة؛ كي يكون موضوعَ درسٍ أكاديمي في مختلف المسالك. وقد تبلور الحوار الأكاديمي مع جيل الثمانينيات، من خلال الإنصات إلى رؤيةٍ مختلفة تقرأ المنجز المغربي الحديث بوسائل منهجية جديدة، وتضع كل الآراء موضع تساؤل، بدءًا من عملية توثيق النصوص، وإعداد ترجمات للشعراء، ثم وضع الأسئلة الممكنة للدراسة. وأول سؤال وضعه بنيس هو: «ماذا نعني بالشعر المغربي الحديث والمعاصر؟ وأين هي نصوصه الدالة عليه؟»؛ لكي ينجز المقدمات الأولى لحفريات الشعر المغربي. ولذلك كان هذا العمل من صميم اهتمامه بوضع الكتابة؛ لأن الرؤية المختلفة التي شيدها عن هذا الدرس لم تكن تجاوزًا للبيداغوجيات السائدة، بل كانت عملًا آخرَ ذا توجه نقدي، مكَّن الطالب/القارئ من مقاربة نسقية ومنهجية، في غياب اهتمام الجامعة بدراسة الشعر المغربي الحديث قبل السبعينيات، اللهم ما تناثر من كتابات تهم تاريخ الأدب.

وبقدر ما انشغل محمد بنيس بحفريات الشعريات العالمية، انكبَّ -في هذه المرحلة- على وَسْمِ نصه الشعري بإيقاع اللغة والبياض والصفحة المتعددة، فكان ديوان «مواسم الشرق» وديوان «ورقة البهاء» عملين مؤرِّخين لمشروع الكتابة، من حيث هو إبدالٌ واضحُ العناصر في التصور والبناء النصي. ورافق هذا المشروعَ سؤالُ الترجمة من جهة توسيع انفتاح الشعرية العربية على ما هو كوني في التاريخ والذات واللغة والمجتمع. ولما كانت الترجمة رهانًا ثقافيًّا وإبداعيًّا، كان التماسُ شرط الإبداع قيمةً مضافةً لفهم خاصية اللغة المترجَم إليها، سواء أكانت اللغة العربية أم غيرها. وللفعل الترجمي تاريخه الشعري الذي أنتج نصًّا باذخًا بإقدامه على ترجمة قصيدة «رمية نرد» للشاعر ملارمي؛ تلك القصيدة التي عاشت مع مشروع بنيس سؤالَي الكتابة والترجمة لأكثر من عشرين سنة، اقترن خلالها نص محمد بنيس بالفرنسية والتركية والإسبانية والألمانية وغيرها، إقامةً في المسكن الحر، مع مترجمين -شعراء وباحثين- من أجل قصيدة للعبور بين اللغات. هكذا عبر ديوان «كتاب الحب» وديوان «المكان الوثني» وديوان «نهر بين جنازتين» بنَفَسِ الكتابة وهي تحتمي بنقصانها وقلقها.

الكتابة والتأريخ

bbb-1أقدِّم، في مقاربة هذا الموضوع، بعضَ الاعتبارات المنهجية التي تُسيِّجُ الوضع الإبستمولوجي الوارد في صيغة الكتابة والتأريخ، وأختار مقدمتين متصلتين كما يلي:

1- لا تنظر الكتابة، في شعرية محمد بنيس، إلى تاريخها من حيث هو مُعطًى، بل تسعى إلى المعرفة التأثيلية، وتترك المعرفة التحصيلية به؛ وبهذا تكونُ الكتابةُ نفيًا لأي سلطة كيفما كانت.

2- وبتحقيقها لهذا الشرط تغدو موردًا لإنتاج السؤال في الممارسة والتنظير معًا؛ وبهذا تكونُ فعلًا نقديًّا.

وفي ضوء الصلة القائمة بين النظر والصوغ البنائي لفعل تأمل الكتابة، تضطلع أسئلة بنيس الكبرى بوضع هذه الكتابة ضمن مجال معرفي، لا تنفصل فيه الذاتُ عن المجتمع وعن التاريخ؛ وذلك هو مجال نقد منظومة المتعاليات في كليتها. ونقطة الانطلاق هي بيان الكتابة، بما هو إعلانٌ كشف التخلف المضاعف لمختلف الأنظمة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية.

يتعمق الدرسُ مرة أخرى، بعد خمس وثلاثين سنة من تجميع الشعرية المغربية لأعطابها؛ فيما الحاجة إلى سؤال تمثيل البيان في الثقافة العربية محسومة بتغيير جهة النظر، عندما نعلم أن لا شيء تغيَّرَ في المشاريع المجتمعية والثقافية، بل لا تزال الأنظمة الفكرية مقتنعة بتحيين المشاريع في غير زمنها. لم يكن سؤال الوعي بالزمن شرطًا أخلاقيًّا بقدر ما كان شرطَ وجوبٍ لممارسة الحرية والمغايرة والاختلاف، وبه يمتلك الشاعرُ لُغَتَهُ، تلك التي تتكلم عن اللغة، وتبينُ ما يفعل ويصنع بها الشاعرُ؛ كي يغدوَ هو وغيرُه محتوى هذه اللغة. وبهذا المحتوى يفك بيان الكتابة الارتباط بفكرة البداهة والارتجال. ولم تتغير ردودُ الأفعال، ولم تزد على ثلاثة مواقف: موقف يقوم على منطق التجريب ولا يستوعب مفهوم الإبدال فينتج فكرة التعطيل، وموقف يقوم على استعادة التاريخ ولا يستوعب حركية التاريخ فينتج فكرة عودة الماضي إلى ماضيه، وموقف يقوم على الحاجة إلى التنظير ولا يستوعب آلية الانتقال من اللغة إلى الخطاب فينتج وهم التماثل بشروط مغايرة.

وإذا كانت أهميةُ بيان الكتابة ماثلةً في وضع سؤال المعرفة داخل حركة التاريخ وليس على هامشها، فإن الوعيَ الذي استقبله كان وعيًا في حال اشتباه؛ لأن الممارسة النصية مشروطةٌ بوعيها بالزمن من حيث كونُه محركًا لفعل الإبداع بالمعنى الحداثي. وفي هذا المعنى يتأسس الاختلاف الذي يجلبه البيانُ إلى مختلف الخطابات، عبر إعطائه فاعليةَ التحديث، وعبر إدخاله إلى دائرة الحوار. ولكن هذه الخطابات حدست تهديد البيان لمركزيتها، فأنتجت الكثرةَ بدل التعدد.

لم تكن تاريخية الممارسة، في وضع الكتابة، توصيفًا أو استقراءً، بل حركةً تتفاعل بها في الزمن والتاريخ؛ وهو ما يفيد أن الكتابة، منذ البيان، غير معزولة عن التمثلات الفكرية، والتأويلات المرافقة لها، في امتدادها الذي يجعلها قوةً معرفية أساسًا. ولذلك فهي قارئة يقظة تجاه ذرائعية الوقائع في التاريخ، والبحث عن شرعية وهمية. وما لم ينتبه إليه نقد الشعر بالمغرب وغيره، هو أن الحقيقة في البيان هي الانفتاح الذي لا يعني الاستدراك والحاشية بمسمى الحوار والنقد والتوسيع. ولما كان فعل التنظير وفعل الممارسة متلازمين في مشروع بنيس، أمكن النظر إلى الانفتاح أفقًا نصيًّا تحتفل به القصيدة عبورًا للغة في الجسد، وللتاريخ في الممكن واحتمالاته في الخطاب.

يمكن أن نلامس ثلاث حركات كبرى في شعرية بنيس. وأستعمل الحركة هنا بالمعنى الذي يقدمه جيل دولوز، أي الحركة في الطية؛ حيث لا وجود لمقاطع ثابثة، ولا إعادة تشكيل الحركة مرة ثانية(2). ويبدو أن هذه الحركات هي: تفضية الكتابة -إعادة الكتابة- مادية الكتابة؛ وهي حركات غير منفصلة عن بعضها، بل متداخلة وفق مفاهيم إبداعية مؤطرة هي: النقصان، والمحو، والحبسة، بحيث تصير تجاذبًا نصيًّا، يجلّيه البناء وإنتاج الدلالية. وعلى الرغم من أن مصطلح القصيدة أضحى يضيق عما بدأه بنيس في التماس الكتابة وَسْمًا لممارسته النصية، فإن هجرة النصوص كانت مغامرةً لمستمر الإيقاع وممكنه؛ لأنه مستمرٌّ يضع تاريخية الكتابة ذاتًا تفكر في مَسِيرِ القلق باللغة وفي اللغة، ولذلك تسم هذه الهجرة فعل القراءة من جهة تقريب النصوص من بعضها مع مراعاة اختلافها في البناء.

تقوم الكتابة، إذن، على تجربة الفعل؛ إذ تتبنَّى اللغة ما يحدث أثناء الكتابة، وخاصة المفاجئ وغير المتوقع الذي يقتحم هذا الحدوث. ويأتي المفاجئ من عوالم، ومن فضاءات، ومن فنون مختلفة في آليات البناء والعرض، سواء أكان تشكيلًا، أم موسيقى، أم وثيقة… ولهذا الانفتاح لغته الثانية: لغة الحواس؛ حيث الدال النصيّ إيقاع شخصي يحيا في مناطق النسيان، ويتجاوب مع ما تتذكره العين والأذن والأدمة في غفلة عما تخطه يد الشاعر. ويتم صوغ هذا التقريب في مختلف دواوينه بدءًا من ديوان «وجه متوهج عبر امتداد الزمن»، علمًا بأن مقامات التقريب غير متماثلة وغير متشابهة، فقد تلتقي نوبة أندلسية مع لوحة فان جوخ، أو فيرير، وقد تلتقي صيرورة حجر مع سكون الفراغ في صفحة متعددة، وقد يلتقي صوت مع موال جبلي أو أمازيغي في مكان وثني يحتفل بجنازة الذات وجنازة اللغة.

لا شك أن مادية الكتابة ليست صيغة تجريدية لممارسة نصية، إنها تنأى عن أن تكون عرضًا يُحْمَلُ على فعل الكتابة نفسه؛ فهي إبدال مستمر وفاعل في مجال تاريخية الشعر. ويعني ذلك أن مادية الكتابة تستوعب إعادة الكتابة ولا تنفيها، إنها تصحبها إلى صوغٍ مغاير؛ كي تتيح للقراءة عناصر نظرية خاصة بها، تسمي ذاتيتها. ثم إن مادية الكتابة، بعدُ، هي في وضع حيادٍ مع التمثيل مهما تكن صوَرُهُ وأشكاله؛ لأن مادية الكتابة في أعمال بنيس قائمةٌ على الاختبار الموسوم بالمحو؛ أما التمثيل(3) فقائم على تمجيد الاستضافة؛ استضافةِ الآخر، والغريب، وتاريخه ولغته بالعربية وأفقها.

وبما أن مقول الفكر لا يعثر على وجوده إلا إذا صار عاجزًا عن قول ما يجب أن يبقى متعاليًا على الكلام، فإن الكتابةَ تفكيرٌ وتأملٌ في هذا العجز، لكي تجعلَ منه طاقةً فاعلةً أمام الأشياء؛ وتلك هي حُبسَةُ محمد بنيس؛ لأن كل شيء عدا الشعر قولٌ. تفيدنا كلمة ليفناس هذه في تعرف الكتابة خارج القول، أي خارج المشابهة والمعارضة اللتين تمثلان صيغةً من صيغ مقاومة دخول الآخر إليها. ولكن الكتابة تحمل الاختلاف إلى دائرة الآخر كي تتحقق صيغة الاستضافة. فمثلما استضاف بنيس نبيذ أبي نواس، استضاف نبيذ أبولينير، ونبيذ بوردو وبغداد؛ إنه مبدأ الكتابة بماديتها، وأفقٌ لحياة اللغة العربية التي عاشت في النص رحلة دانتي، ورمية ملارمي، وأناشيد عزرا باوند. فحينما يعترضُ النص حركةَ الإحالةِ نحو الإظهار، تكفُّ الكلمات عن الانمحاء أمام الأشياء، فتغدو الكلماتُ المكتوبةُ كلماتٍ لِذاتها. وعندما تبدأ اليدُ في خط أول حرف، وتتضامن بما يسري وبما يصنع الحدث، تقوم الكتابةُ بممارسة المجاورة، مجاورة النقطة العمياء، والنقطة الخرساء، وتقوم بمجاورة آثارهما. فبنيس يهيئ تجربة العمى كي لا تتعينَ الأشياءُ في حيز الاستعارة فقط، بل بالتركيب من حيث هو محاورة ومجاورة للأشياء في تناقضاتها وغيرِيّتِها. إن الغيريَّةَ تماسٌ في الكتابة يراهنُ عليها محمد بنيس كي تجعلكَ تراها من حيث هي رائيةٌ أيضًا، لتملك الكتابة قارئًا بوجهة نظر.

رهانٌ يعدِّدُ صيغ المساءلة، فتعددت أنماط الامتلاك؛ ومن أفق تداول السؤال بين القراءة والنظر، تحمي الكتابة تاريخيتها؛ لأنها إنصاتٌ وتعلمٌ دائمان: تتعرفُ بها مكانَ القدامةِ وحدودها، ومغامرة اللغة في متغير نسق اشتغالها، ومكان الحداثة وممكن الإقامة في المستقبل، ومنعقد أهوال العثور على الطريق نحو الطريقِ.

الكتابةُ بمُمْكِنِها

bbb-2ممكنُ الكتابة من ممكنِ النص من حيث هو مختبرٌ منفتحٌ على إيقاعه المتبدل. وليس لهذا الممكن جهةٌ يتعيَّنُ بها، أو عنصرٌ يحتمي به في البناء، وإنما هو دالٌّ في اللغة وما يحيط بها أثناء الكتابة. وحينما تختبر الكتابةُ نحوَ الشعر، أي بالانتقال من اللغة إلى الخطاب، يغدو مجهولُ فكر الشعر أحدَ ممكناتها. يكتبُ محمد بنيس هذا السفرَ بما تقدمه القصيدةُ -وهي تضيقُ عن هذا الاصطلاح متجهةً نحو الكتابة- من استشراف لأهوال الحواس:

أنا الذي سافرتُ في ليل القصيدة

وابتهاج المحوْ

أدعو الخطوطَ لمجدِ هاويةٍ

لها الهذيانُ

والهذيانْ (4)

سؤال الشعر سؤال كوني

لا يرتبط الشعر بالهويات والوطنيات، وإنما يشتغل بما هو إنساني وكوني، كي يغدوَ لسؤاله الحيوي معنى. ويبدو أن القرن الماضي دشن عهد الكونيِّ في مجالات معرفية وإبداعية مختلفة، من الفلسفة والعلوم المعرفية، إلى التشكيل والنحت والموسيقى. وما يقوم به محمد بنيس من حوار مع الشعريات العالمية، هو توسيعٌ لمداخل هذا السؤال، وتقريبٌ لوضع اللغة العربية من مبدأ الانفتاح والاستضافة. ولم تكن استضافة دانتي، وملارمي، وعزرا باوند، من قبيل الاستعارة، بل قراءة واعية لمعنى الحداثة في الثقافات واللغات، من حيث هي مطلبٌ إنساني يستجيب لإبدالات الزمن والذات والتاريخ. ولما كانت «حداثة السؤال» اختيارًا شعريًّا، يروم تغييرَ وجهات النظر، أصبح مبدأ حرية الكتابة عضُدَ السؤال وقوامَه في صوغ طرائق الكتابة، بما تتيحه اللغةُ العربية من إمكانات وآفاق، بدءًا من محاورة تاريخها وأوضاعه، وتوقًا نحو وضع البدهيات والمتعاليات ضمن السيرورة التاريخية للإبداع، من حيث هو ممارسة قبل كل شيء.

لغة الكتابة نمط حياة

ليست لغةُ الكتابة هي المكتوب فحسب، بل هي صيرورة تنظيمٍ للمبدأ المحرك للتركيب والمعجم والبناء؛ لذلك تكون هذه اللغة مشروعًا يتنامى في الاختلاف والتعدد. وإذا كانت اللغة ممارسةً خاصةً للإيقاع، بما هي ممارسة خاصة للذات، فإن الكتابة، لدى الشاعر بنيس، معرفةٌ تضطلعُ بمهمة الحفر خارج «التعبيرية» وبعيدًا عنها، أي ضد التصور الرومانسي بكل تجلياته.

وأن تكون اللغة نمطَ حياة، هو أن تعيش زمنها مستشرفةً مستقبلَها، بما يؤهلها وضعُها الاعتباري والاختباري لإعادة النظر في كل ما يأسرها ويحنطها، سواء أكان متعلقًا بالصياغة والبناء، أم بالمحمولات التي تَثْوِي بداخلها. وقد كانت المقدمة التي وضعها بنيس لأعماله الشعرية دالةً على نمط الحياة الذي لا يُقيِّدُ اللغةَ بالشخصي وغير الشخصي في الممارسة النصية. ومن الجلي أن «حياة في القصيدة» هي حياةٌ للكتابة التي ترى في اللغة ممارسةً للنقد تجاه لغاتٍ تدَّعي الوحدةَ في منظومة كلية. وبهذا تكون مصاحبة القصيدة غير منفصلة عن تجربته التنظيرية؛ فهي فعلٌ متكاملٌ للبحث عن الكتابة والذات والعالم، بما هي أمكنةٌ تولِّدُ سؤالَ المعرفة. وبقدر ما تمس «حياة في القصيدة» حياةَ الشاعر، تمس حياةَ القصيدة أيضًا، من حيث هي كائنٌ يتبدَّل جسدًا، ولغةً، ورغباتٍ، وأسئلةً. إنها تحيا إذ تسكنها قصائدُ أخرى، بلغات أخرى تهاجر فيها.

bbb-3أولًا: تتبنى سؤالها خارج التجريب؛ لأنها مرتبطة بالمعرفة الشعرية التي تنتجها لا التي تستدعيها. إن منطق التجريب منطقٌ أحادي؛ لأن الممارسة تظل مرتهنةً به، ويغدو هذا التجريبُ موضوعَها بوعي أو بدون وعي. وعندما اختارت ممارسة بنيس الإبدالَ صوغًا بنائيًّا في اللغة والذات والتاريخ، فإنما اختارته معرفةً شعريةً بالأساس؛ فارتبط النص بسؤاله في أوضاع مغايرة، وأماكن نظرية تنبع من داخله. ومن الصعب الحديث عن استدعاء لمعرفة تجريبية خارج نصية؛ لأن أي مقاربة ترومُ فصل الممارسة عن التنظير، لن تقوى على فهم حوارية النص بمعرفته، إزاء مبدأ التقريب الشعري الذي يسوغ، لدى بنيس، مبدأَي الضيافة والحوار. أما التداخل النصي فليس شرطًا ماديًّا لإنتاج شعرية العمل- الأعمال، إنما هو صيغةٌ من صيغ التقريب ليس غير. ولكن حينما يتحول إلى فعل إعادة الكتابة، فإنه يتلبس سؤالها بالنص وبأفقه الشعري في آنٍ.

ثانيًا: تبرز فاعليتها في القيمة والتداول من خلال لغتها، دون أن تنفصل عنها في ذاكرتها وفي أفقها التلفُّظي. وهذا الفعل الشعري هو ما دعوتُه بذاتية الكتابة، من حيث هو توقيع شخصي يمس كلية العمل؛ لأن تحقُّق تلك الذاتية ليس سمة إضافية تلحق بالنصوص لكي تسميَ عملًا أو ديوانًا دون غيره، بل هي قيمة وتداولٌ في تاريخية البناء الشعري لشعرية محمد بنيس؛ ففي اللغة يكون سؤال الكتابة اختبارًا لهذه المعرفة، أي أن الكتابةَ هي كلٌّ لا يظهر في اللغة ويحضر من لدن الذات حضورًا غيرَ مسبوق؛ لذلك تتضمن ممارسة بنيس شرطَ تجددها في بناء النصوص. ولم تكن هذه المغامرة تجريبًا لأشكال وأدوات نصية، بقدر ما كانت ممارسة ذات توقيع شخصي يتميز بقوة الفعل والأثر في المعرفة الشعرية وإمكاناتها أثناء تتبع القارئ لها. وبقراءته للمتن لا يحس بالمختلف، بل يعيه، وذلك هو رهان شعرية بنيس.

ثالثًا: لا تنجذب، في الممارسة النصية، إلى المقولات، بل تخلق وتبني باستمرار صِيَغاً لما يمكن أن يُكتب. قد يتعارضُ الممكنُ النصيُّ مع تلك المقولات، سواءٌ أكانت فلسفية أم شعرية أم جامعة بينهما؛ إذ تغدو -في هذه الحال- متعالية على جوهر الكتابة نفسِها، فتلغي فاعليتَها التي حفرتها بلغتها الخاصة. ولهذا السبب كان الممكن، في ممارسة بنيس، متعددًا وغير متعين بشكل أو صيغة، وإنما يتخذ من الصيغ ذلك المستمرَّ الذي يتأصَّلُ في المحو والنقصان. والحركاتُ الثلاث التي تحدَّثنا عنها آنفًا: تفضية الكتابة، وإعادة الكتابة، ومادية الكتابة، نابعةٌ من روح الإبدال الذي تخلقه النصوص أثناء البناء، بطريقة متداخلة ومتفاعلة مع بعضها؛ فكل حركة تفضي إلى الأخرى من غير أن يكون لإحداها الأسبقية أو الأولوية على الأخريين.

هي فعلٌ وليست ردَّ فعل

وهذا ما يفسر أنها نفيٌ لأيِّ سلطة كيفما كانت طبيعتها؛ ولا يأتي هذا النفي تَبَعًا أو ردَّ فعل بعدي لما يمكن أن تمارسَه تلك السلطة، بل هو مبدأ جوهرٌ وثابتٌ، يتحرك بهذا الأفق كلما كانت السلطة مهيأةً لتخريب أداة من أدواتها المنتجة.

وقد تكون هذه السلطةُ شعريةً وذاتَ خطاب يناقض خطابَ الكتابة من جهة النظر إلى الشعر في طبيعته ومآله، وإلى اعتباره سؤالَ حياة حديثة وحداثية. ولذلك فهي تشرعن الانفتاحَ سلطةً للشعر، بما هو حوارٌ له تاريخيته الكونية، وفعلٌ مثبَتٌ في النصوص القديمة والحديثة.

وبما أن الكتابة فعلٌ، فهي مراجعةٌ، بالقصيدة ومآلها، لهذا التاريخ الذي يظل مسكونًا باعتباراتٍ قد لا تكون شعريةً في أصلها، ومن الطبيعي ألا تكون ردَّ فعل تجاه بنية قَبْلية، سواء في النظر أم في الممارسة؛ ويعني ذلك أنها في غنى عن أي تبرير يمس أفق اختيارها إزاء بنية شعرية كالتقليدية أو الرومانسية؛ فقد تكون مناقضة لهما في التصور والبناء لكنها ليست ردَّ فعل تجاههما سلبًا أو إيجابًا؛ لأنها تروم سؤالًا مختلفًا لا يوجد في البنيتين معًا. وبهذا الاختلاف تنأى عن مسيرهما لتبنيَ فعلها الخاص دون إي إلغاء.

حوار‭ ‬الكتابة‭ ‬والنأي‭ ‬عن‭ ‬التعبيرية

bbb-4كلما اختبرت الكتابةُ شعريتَها في الأبنية النصية، تضاعفَ بحثُها عن ممكنها؛ غير أنه بحثٌ لا يتقصَّى النظريات ويسقطها قسرًا على النصوص، بل يكشف العناصر النظرية من داخلها عبر الحوار والمراجعة والتقريب. ذلك هو مناطُ سؤال الكتابة عن ذاتها لدى بنيس، الذي أقام عميقًا مع المتغيرات النظرية في الشعريات العالمية، سواء تلك التي اختارت الكتابةَ بديلًا مفهوميًّا عن الأدب، أم تلك التي رأت الكتابةَ نسقًا خاصًّا بإمكانه أن يغدوَ جنسًا في الشعر والنثر على السواء. وبالابتعاد عن التعبيرية أصبح «الانكتاب» أفقًا نصيًّا يضاعف احتمالات التركيب بكل تجاوباته لإنتاج الدلالية. وبهذه الصيغة توافقت «اليد الثالثة»، التي استشعرها بنيس في ممارسته، مع مجهول موريس بلانشو، ومع محتمل نيتشه، وغائب جورج باطاي. ولكنه توافقٌ يحتمي باللغة العربية، باعتبارها عنصرَ حوار يمجدُ ماء الكتابة عبر إعادة قراءة تاريخ منجزها الشعري وغير الشعري.

ومن اللافت للنظر أن النص المتعدد لدى بنيس، بعيدٌ كل البعد عن أي تمثيل كيفما كانت موارده وصيَغه. ويعني ذلك أن الكتابة ليست موضوعًا مباشرًا في نصوصه، وليست تمثيلًا موجِبًا لأي تصنيف موضوعاتي تحت مُسمَّى التجربة، ولكنها سياقٌ متجددُ الحضور من خلال نصوصٍ متجاورة ومتحاورة ومهاجرة بين مختلف الدواوين، لا تقف عند وضع واحد أو عنصر واحد ضمن آلية المشابهة. إنها بعيدة، في الآن نفسه، عن الترميز بحكم ماديتها التي تَحُولُ دون المجاز، علمًا بأنها تستدعيه لتبينَ حدودهُ المحمولةَ بالقول؛ ولهذا يفرق محمد بنيس بين القول والكتابة؛ التماسًا لذاكرة الحواس في حيويتها، بعيدًا عن قصيدة الذاكرة، وقصيدة المعادل الموضوعي والقناع وغيرها.

هذه بعض عناصر الاقتراب من مادية الكتابة، بما هي ذاتيةٌ تتشكل أثناء البناء، لا قبله ولا بعده. وفيه يجد محمد بنيس تاريخية ممارسته الشعرية بالحوار مع السلالات الشعرية الباذخة، عبورًا بين جنازة الذات وجنازة اللغة؛ حيث يرتفع نداء المنافي إلى بذرة المجهول وماء الكتابة في كتاب يسْطُره المستقبل.

———————————-

الهوامش:

(1) عز الدين الشنتوف: شعرية محمد بنيس: الذاتية والكتابة، دار توبقال للنشر، ط1،  2014، ص99.

(2) Gilles Deleuze, L’image-Mouvement, éd.Minuit, Paris, 1983, P9

(3) لا نقصد بالتمثيل الاصطلاح البلاغي الفج، بل نقصد به: représentation inconditionnée، كما صاغه بول ريكور في كتابه: la métaphore vive؛ أي ما تنتجه النصوص من إمكانات خاصة بها، في المعجم والتركيب والخطاب؛ التماسًا لخصيصة الكتابة. وقد أكدنا في نهاية المقال على غياب التمثيل بالمعنى الأول.

(4) محمد بنيس، الأعمال الشعرية، ورقة البهاء، ج1، ص 24.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *