كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فهد اليحيا: على السينما السعودية تناول مشكلات مجتمعها في سياق فني
ليست السينما شاشة، وأجسادًا، ولغة تتحرك في مواقع مختلفة، إنها رؤية تصيب أغوار الإنسان وقضاياه الاجتماعية والنفسية والوجودية بأكثر الطرق تأثيرًا. إنها شغف كاد يجعل الدكتور فهد اليحيا الذي يعمل في مجال الطب النفسي بصفته استشاريًّا في المستشفى العسكري في الرياض أن يغير مسار تخصصه في أيام شبابه؛ لأنه وجد هناك عوالم مليئة بالدهشة والمتعة. يتطرق اليحيا في حواره مع «الفيصل» إلى السينما في السعودية وصعوبات صناعتها، مشيدًا بها تارةً، وناقدًا إياها تارةً أخرى. شارك اليحيا في عدد من لجان التحكيم، وسافر إلى العديد من البلاد الأوربية لمراقبة تأثير أفلام سعودية عرضت هناك. يقول اليحيا: إن شرط العمل الفني الأساس هو المتعة، إضافة إلى تناولها الظواهر الاجتماعية في سياق قوانين العمل الفني؛ كي لا تتحول إلى بروباغندا فجة أو خطاب مباشر وجاف.
● بداية، طبيب نفسي وفي الوقت نفسه مهتم بالسينما وعالم الأفلام، بل يتجاوز ذلك ويقدم دليلًا تأليفيًّا تحت عنوان «مدخل إلى الفنون السينمائية» فلماذا السينما تحديدًا هي من وقع عليها شغفك؟
– لا اختيار في الشغف! هو قدر كما يقول شوقي: «يا لائمي في هواه والهوى قدرٌ * لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلمِ». وفي الكتاب الذي أشرت إليه في سؤالك فصل بعنوان «السينما وأنا» حكيت فيه عن طفولتي في الطائف، ودخولي عالم مشاهدة الأفلام منذ نعومة أظفاري، واستمر ذلك في الرياض حيث كانت منطقة تأجير الأفلام وآلات السينما عامرة في المربع. كنت أقرأ بعض الكتابات عن الأفلام في مجلات: أسرتي والنهضة والحوادث، بيد أن معظمها كان مجرد عرض للفلم، ورؤية شخصية وليست نقدًا فعليًّا. لكن عندما ذهبت إلى القاهرة لدراسة الطب اكتشفت عالم النقد السينمائي الحقيقي على يد رواد أذكر منهم سامي السلاموني، وخيرية البشلاوي، ويوسف شريف رزق الله، ورؤوف توفيق، وسمير فريد وغيرهم. بل اكتشفت أن صناعة السينما عالم كامل، وكان انضمامي لنادي السينما نافذة للاطلاع على السينما العربية -المغاربية تحديدًا- والعالمية عمومًا.
في السنة الثانية أو الثالثة فكرت في هجر دراسة الطب والتوجه لدراسة السينما، لكن عارضني في توجهي بعض أصدقائي ممن كانوا يدرسون علوم السينما، وكانوا يحبون فيَّ هذا الشغف، ومنهم عادل عبدالمطلوب، وبسام الذوادي المخرج البحريني المعروف حاليًّا!
● في كتابك شرحت ما يتعلق بالأدوات المختصة بصناعة الأفلام، لكنك لم تتطرق إلى ما يتعلق بجانب الرؤية وهو الأهم كما يقول كثير من المخرجين العالميين؟
– كل الأفلام العظيمة تحمل رؤيةً ما؛ اجتماعية أو فنية أو أيديولوجية أو فلسفية… لكن الرؤية شيء مغروس في الذات كالموهبة، ولا يتم تدريسها أو تعليمها! الكتاب المتواضع المشار إليه موجه للمبتدئين لتقديم مبادئ الحرفة بصورة مبسطة؛ هذه حدوده!
ردود فعل الأوربيين
● شاركت في لجان تحكيم، وقيّمت كثيرًا من الأفلام المحلية التي عرضت في السفارات الأجنبية، ومنها السفارة الألمانية، فما ردود أفعالهم؟
– ردود أفعال الأجانب من أوربيين وعرب أكثر احتفاء مما نتوقع، ولا ننسى أنهم تعودوا على دخول دور السينما منذ طفولتهم، لذا ذائقتهم الفنية بصورة عامة متميّزة عنا ومتقدمة. حتى الأفلام السعودية الموغلة في الرمزية التي لم تعجب عددًا كبيرًا من مشاهديها السعوديين مثل «فيما بين» (3:30 د) لمحمد السلمان لقي صدًى كبيرًا عند عرضه في السفارة الفرنسية في أثناء مهرجان السينما الأوربية الذي يُقام سنويًّا. وقد اقترحته عليهم لأن الفلم قد فاز ذلك الوقت بجائزة أحمد خضر للامتياز في صناعة الفلم العربي، وذلك ضمن مهرجان الأفلام الأوربية المستقلة بفرنسا (إبريل 2015م). بالمناسبة مهرجان الفلم الأوربي الذي تقوم به السفارات الأوربية سنويًّا يقدم 14 فلمًا تقريبًا من أنحاء أوربا. وسأعمل على أن يعرض فلم سعودي قصير قبل عرض الفلم الأوربي في مهرجان 2017م. ولكن هذه المرة لن أقوم بهذا بشكل فردي، بل سأشرك الجمعية السعودية للثقافة والفنون لتكون المشاركة تحت مظلتها، وتتحمل نصيبًا من هذا العمل المرهق.
● في ظل وجود كُتاب مقالات أصبحوا فجأة كُتّابًا للسيناريوهات الدرامية، فكيف تقيم السينما السعودية؟
– السيناريو هو الهيكل العظمي للفلم الذي ينسج فوقه اللحم والشحم، وتزرع فيه الأعصاب، وتجري في عروقه الدماء السينمائية، والأغلبية العظمى من الأفلام الشهيرة والناجحة إنما قامت على سيناريو متقن. ومعظم الناس ظنّ في وقتٍ ما من عمره أنه سيصبح شاعرًا أو قصاصًا أو روائيًّا، وربما رسامًا، الآن أضف إليها الإخراج والسيناريو، وهذا أمرٌ مشروع، وهناك من استمر، وكثيرون تغيرت وجهتهم، أو تخلوا بصورة واقعية عن أحلام بداية الشباب. أقصد من يجد عنده الرغبة في الكتابة، ويتوسم في ذاته القدرة، فيجب أن نساعده للقيام بالمحاولة، فربما نشهد مولد كاتب سيناريو بارع يصقل موهبته بالتدريب والتعليم والمران. من ناحية ثانية الريبورتاج الصحافي شبيه جدًّا بالفلم الوثائقي، إلا أن الأخير يختلف عنه في الصورة والحركة والصوت، وقدرات الفلم التعبيرية الجبارة في يد مخرج قدير. كذلك المقالة الصحافية ليست قصةً أو قصيدة، ولكنها تحمل رؤية ما لكاتبها عن قضية معينة أو موضوع يتناوله من زاويته الخاصة، وهذا أمر شبيه بالسينما؛ فالسيناريو ليس عملًا أدبيًّا، ولا يصنف ضمن القصص أو الروايات أو المسرحيات، إنه عمل فني مستقل بذاته، ولا يخلو من الجفاف!
● محليًّا ما نقدمه على الشاشة غالبًا ما يغرق في القضايا المحلية، كالطائفية، أو حقوق المرأة، أو الإرهاب؛ ألا تعتقد أن السينما أكثر عمقًا من ذلك؟
– هناك الموضوع وهناك الشكل! قد يُتناول ذات الموضوع في قصة أو رواية أو فلم. الشكل هو الأسلوب الخاص لعرض الموضوع بشروطه الفنية الخاصة! أهم شرط للفن هو المتعة، وبعدها تأتي القضايا الأخرى! فإن لم يحقق الأسلوب الفني شرط المتعة تحول إلى خطاب وعظي مباشر. أحيانًا تكون المحلية عالمية في جوهرها الإنساني إذا كانت خبرة نفسية عامة، عرضها هو ما يحدد، فالطائفية، وحقوق المرأة، والإرهاب، قضايا عالمية، وعاناها كل مجتمع في زمنٍ ما.
خطاب مباشر وجاف
● هل تعتقد أنه من الممكن أن تعالج السينما في المملكة بعض الظواهر الاجتماعية والأمنية التي يتعرض لها المجتمع كالإرهاب مثلًا، وما تقويمك لبعض الأعمال التي حاولت الخوض في هذا الجانب: على سبيل المثال «سيلفي»؟
– الدراما تكون في المسرح والفلم والتمثيلية التلفزيونية. و«سيلفي» كان عملًا دراميًّا موفقًا إلى حد كبير. وسؤالك هذا يعيدنا إلى السؤال السابق وجوابه! شرط العمل الفني الأساس هو المتعة، وأحد موضوعات السينما – كما موضوعات الشعر والقصة – هو تناول المشكلات والظواهر الاجتماعية! ولكنه ليس موضوعها الوحيد. ويجب أن تكون خاضعة لشروط العمل الفني كي لا تتحول إلى بروباغندا فجة، أو خطاب مباشر وجاف.
● الفلم السعودي هل سيصل قريبًا إلى الجوائز العالمية، وما الذي ينقصه لبلوغ ذلك؟
– قبول فلم ما في المسابقة الرسمية يُعد إنجازًا بحد ذاته. فلم «وجدة» و«بركة يقابل بركة» قبلا في مسابقات دولية عدة، وفازا بجوائز. فلم «حرمة» قُبل في مهرجان برلين. وسبق أن ذكرت الفلم القصير «فيما بين»؛ الحصول على جوائز عالمية يتطلب إنتاجًا سخيًّا، ولغة سرد سينمائية متميزة، وهذا لا يتوافر إلا بوجود جهات إنتاج كريمة لا تنتظر مردودًا ماليًّا كبيرًا، مع أن هذا قد يحدث، ويتطلب دراسة وممارسة وتجريبًا، لكن عندي أمل يشبه اليقين أن فلمًا ما سيصل قريبًا إلى العالمية!
الأفلام السعودية لن تسود
يرى الدكتور فهد اليحيا أن وجود دور عرض «سيؤدي إلى التسريع في صناعة السينما، فالسينما في كثير من البلدان بدأت بصالات عرض قبل أن تظهر فيها حركة سينمائية أو صناعة وتعليم وتدريب. في مصر وهي رائدة صناعة السينما في العالم العربي كانت البدايات على يد عربٍ متمصرين أو أجانب، وعمل أبناء البلد مساعدين أو في مهام ثانوية. بالطبع هناك استثناءات في البدايات مثل محمد كريم وعزيزة أمير. لكن ليس هذا كل شيء، فمنطق التطور ليس البدء من حيث بدأ الآخرون، ولكن من حيث انتهوا».
ولفت إلى أنه من المهم أن يتواكب مع فتح دور عرض سينمائية افتتاح معاهد وكليات متخصصة، «بل تأسيس بنية تحتية ليتم تصوير عدد من الأفلام العالمية عندنا. هذا ليس حلمًا أجوف، ولكن التنوع الجغرافي الباذخ في ربوع المملكة يجعل منها مواقع تصوير عبقرية. جغرافيتنا من الساحل إلى السهل، فقمم الجبال، فالصحراء والواحات. هناك أماكن تصلح أن تكون مواقع لتصوير أفلام خيالية عن غزو الفضاء، والعيش في الكواكب الأخرى. لكن هنا ملاحظة نضعها في الحسبان: وضع أسسٍ لصناعة سينمائية ودعمها من ناحية، وإفتتاح دور عرض من ناحية أخرى لا يعني أن الأفلام السعودية ستسود، فكل الدول التي سبقتنا سواء بزمن كبير مثل شمال إفريقيا وسوريا، وبزمن متوسط مثل الكويت، أو زمن قريب مثل البحرين ودول الخليج الأخرى؛ كل هذه الدول ما زالت السيادة للأفلام الأميركية والأوربية».
وقال: إن السينما وسيلة تعبير فني «شأنها شأن المسرح والشعر والتشكيل والرواية! لها لغتها وخطاباتها السردية الخاصة وكذلك أدواتها! وميزتها أنها لا تشترط معرفة القراءة والكتابة، في غير الأفلام المترجمة؛ بل هي تخاطب المتفرج بالرؤية والسمع: عين وأذن! وكما نجد في الأدب والمسرح والتشكيل مدارس مختلفة من الواقعية والرمزية والسوريالية! نجد هذا في السينما. ومع إيماني بحق كل زهرة أن تتفتح، بل من واجبنا توفير المناخ لها والاحتفاء بها؛ إلا أني أنظر إلى أن على السينما – في العالم النامي – دورًا اجتماعيًّا. أقصد أن حصيلة الأفلام سهلة الهضم – مع توافر الشروط الفنية الراقية – والتي تنطلق من قضايا المجتمع يجب أن تكون الأكبر. من ينظر إلى السينما على أنها مجرد ترف في تقديري قاصر الرؤية، ويجب أن ينسحب رأيه إذًا على كل الفنون».
المنشورات ذات الصلة
التشكيلية السعودية غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد... والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة
تصف الفنانة التشكيلية السعودية غادة الحسن، المتلقي الواعي بأنه شريك للفنان بتذوق العمل الفني وتحليله وإضافة أبعاد أخرى...
تجربة التشكيلي حلمي التوني خريطة رؤيوية لمسارات محددة نحو بلوغ الحياة الحقيقية... وقنص جوهرها الصافي
على امتداد رحلته الثرية في حقول الفن المتنوعة، تمكّن التشكيلي المصري البارز حلمي التوني، الذي ترجّل عن دنيانا في...
المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائمًا هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين... وفي الجزائر المقاومة كانوا يُعدون بعشرات الآلاف
يملك المخرج الجزائري سعيد ولد خليفة تصوّرًا مختلفًا للسينما، تشكّل من خلال تقاطع حياته الشخصية المصقولة على نار الغربة...
0 تعليق