كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فيديل كاسترو واستقلالية القرار
في تأسيس الدوَل التي اتّخذت الاشتراكية فلسفةً وتطبيقًا، سوف يأخذنا التاريخُ إلى معاينة أنموذجَين متفرِّدَين:
الصين
كوبا
وأعتقدُ أنّ لهذا التفرُّدِ اليدَ الطولى في ديمومة الخيار الاشتراكيّ، في هذين البلدَين، بينما انهارت منظومةٌ كاملةٌ لما كان يُسمى المعسكر الاشتراكيّ، وعلى رأسه (كما كان يقال) الاتحاد السوفييتي.
ما السبب؟
الصينيّون اختاروا سبيلهم في تطبيق نظرية ماركس، أي أنهم أخضعوا ماركس لقراءةٍ محلّيّةٍ:
بدلًا من الطبقة العاملة، جاء الفلاّحون.
الفلاّحون هم الذين شكّلوا الجسمَ الأساسَ لمسيرة ماو الكبرى.
والسبب بسيطٌ: لم تكن الصين ذات طبقة عاملةٍ يُعتَدُّ بها.
انتفاضة شانغهاي (الكلاسيكية) في الثلاثينيّات، قُمِعَتْ بسهولةٍ، لتكون درسًا بليغًا تعلّم منه الشيوعيّون الصينيّون الكثيرَ. (انظر « الوضع البشري » لأندريه مالرو).
٭٭٭
في كوبا يكاد الوضع، من الناحية النظرية، يتماثل مع الخيار الصينيّ في المَـلْمح العام.
أعني فيما اتّصلَ بالطبقة العاملة.
في كوبا، كما في الصين، شكّل الفلاّحون، لا العمّالُ، بِنْيةَ الحركة الثوريّة، التي تبنّتْ فيما بَعْدُ، تسمية «الحزب الشيوعيّ الكوبيّ»، ربّما بضغطٍ رفاقيٍّ من السوفييت.
٭٭٭
أهميّة فيديل كاسترو، النظرية، والتنظيمية، هي في أنه تغلّبَ على ما أعدُّه شِبْه مستحيلٍ، في التوفيق بين المتطلّباتِ السوفييتيّة، والخصائص المحليّة للثورة الكوبيّة.
لقد أطلقَ العِنان لتشي غيفارا في القارة اللاتينية.
وحافظَ، هو، على كوبا، حرّةً، مستقلّةً، اشتراكيّةً حتى هذه اللحظة!
٭٭٭
على أن هذا، كلّه، لن يفي الرجلَ حقّه.
في زعمي أن فيديل كاسترو نجحَ في أن يحفظَ للشعب الكوبيّ، كيانَه، وفي أن هذا الكيان لا يقوم على الأيديولوجيا وحدَها، التي قد تعصفُ بها ريحٌ ما، وإنْ لم تكنْ هذه الريح عاتيةً.
الكيانُ الذي كان لفيديل كاسترو فضلُ إرسائه الراسخ، هو ذو مقوِّماتٍ ليس من اليسير أن تخضِدَها عادياتُ الدهر.
من هذه المقوِّمات، تقويم الشخصية الكوبيّة، أي الانتقال بها من شخصية التابع إلى شخصية الحُرّ.
معروفٌ أن كوبا الجزيرة، كانت، قبل كاسترو، مَقْصفًا وملهًى، ومُرتبَعَ ما خَدّرَ وأسكرَ.
كانت أرضَ خدمٍ وخدَماتٍ. أمّا أهلُها، فهم ضحايا، سُعَداءُ بما يُلقى عليهم من فُتاتٍ، ضحايا يجهلون في أيّ مباءةٍ هم.
كاسترو، أعادَ إلى الناسِ كرامتَهم.
ليس عن طريق الخُطَبِ العصماءِ، مع أن فيديل كاسترو كان خطيبًا مفوّهًا، يستحوذُ بسهولةٍ على مخاطَبيه.
كاسترو أعادَ إلى الناسِ كرامتَهم، بالمنجَز الملموسِ:
توفير العمل الشريف.
توفير التعليم الشامل المجّانيّ.
توفير الخدمات الصحيّة المتقدمة.
٭٭٭
إلّا أن ما جعلَ الفردَ الكوبيّ ذا شخصيةٍ مرموقةٍ، هو في شعورِه بأنه يتحدّى:
يتحدّى الشظفَ.
يتحدّى المشقّة.
يتحدّى العوَزَ.
لكنْ، قبل ذلك كله، شعورُه بأنه يتحدّى، في جزيرته الصغيرة، وبوسائله المحدودة، مقايَسةً، أعتى قوّة استعماريّة، لا تبعدُ عنه أكثر من مئة ميلٍ!
٭٭٭
سوف تظل حياة الرجل، فيديل كاسترو، ولأمدٍ طويلٍ، موضعَ تأمُّلٍ وأملٍ!
لكنّ للدهر أحكامَه…
إذْ ذكرَ مَن زاروا كوبا، أعني العارفينَ منهم، زمنَ راؤول كاسترو، أن الأمورَ تعود، تدريجيًّا، سَجِيّتَها الأولى، أي قبل 1959م؛ سياحة، بغاء،… إلخ
الآن، مع رحيل فيديل، ومجيء ترمب…
هل سيعودُ العالَمُ القديمُ إلى جزيرة الحرية؟
لندن في 26/11/2016م
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق