المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

الأقليات في مصر.. التجانس التاريخي تحول إلى فتنة

بواسطة | ديسمبر 27, 2016 | الملف

تبدو مصر للوهلة الأولى بلدًا خاليًا من الأقليات، فالتجانس التاريخي الذي عاشه الجميع في ظل دول مركزية متعاقبة جعلهم ينتمون إلى المكان أكثر من انتمائهم إلى الدين أو العرق، لكن مع توالي سنوات الضعف، وظهور الاستعمار أخذت الفتنة تطل برأسها، سواء بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية، أو أغلبية سنية وأقلية شيعية، وتسارع الجميع في الإعلان عن كونه أقلية تحتاج إلى مزيد من الاهتمام في ظل سعي القوى الغربية لتفتيت المنطقة على أسس دينية وعرقية، وتشجيع الخلافات الطائفية والإثنية، حتى إنه بات من الممكن القول: إن مصر بها نوعان من الأقلية؛ الأول ديني، والثاني عرقي.

أولًا- أقليات دينية

1- الأقباط

حسين علي النوري

حسين علي النوري

يعرف المسيحيون المصريون باسم الأقباط، وهم أصحاب المذهب الأرثوذكسي، وهو أقدم المذاهب المسيحية، تعود نشأته إلى الخلاف اللاهوتي القديم حول طبيعة المسيح؛ إذ قالت كنيسة الإسكندرية بالطبيعة الواحدة، وقالت الكنيسة النسطورية وكنيسة روما بالطبيعتين، وقد تحمل الأقباط المصريون ضريبة هذا الخلاف لسنوات طويلة، إذ عانوا اضطهاد الأباطرة الرومان لهم بسبب خلافهم المذهبي معهم، ولم تنته معاناتهم إلا بمجيء الفتح العربي، لكن حسب رؤى الأقباط فإنهم قد عانوا في ظل هذا الفتح، حتى قامت أشهر ثورة للأقباط في عهد المأمون وهي ثورة البشموريين في مصر، التي انتهت بالسحق التامّ، ومنذ هذا التاريخ والوجود المسيحي في حالة تناقص نظرًا لدخول أغلب أبنائه في الإسلام.

ويعتقد الأقباط أنهم أصحاب مصر، وأهلها، وأن الوجود الإسلامي وافد عليهم، ويذهب بعضهم إلى الاعتقاد أنه نوع من الاحتلال وليس الفتح، ورغم أن الإحساس بفكرة الأقلية لم يكن موجودًا لدى الأقباط فإن الاحتلال البريطاني لعب على شطر الأمة إلى نصفين، فرفعت ثورة 1919م لأول مرة شعار يحيا الهلال مع الصليب، وهو ما لم يكن موجودًا لا في ثورتي القاهرة أثناء مقاومة الاحتلال الفرنسي، ولا في ثورة عرابي، وقد تزايدت الهوة مع زواج الأميرة فريال شقيقة الملك فاروق من رجل قبطي يدعى رياض غالي، ومع صعود التيارات الدينية في السبعينيات شهدت مصر عددًا من حوادث الفتنة، كان أشهرها حادث الدرب الأحمر الذي تحدث عنه الرئيس أنور السادات في خطاب شهير، ومع ضعف الدولة تحولت الكنيسة إلى الحضن الواسع للأقباط، وحدث الصدام الشهير بين السادات والأنبا شنودة، ورغم هدوء الأمور عقب رحيل السادات فإن التيارات السلفية أخذت في التزايد، فطالب بعضها بأن يدفع الأقباط الجزية، وقد ظهر ما يعرف بأقباط المهجر كلوبي في المجتمع الخارجي يمارس ضغوطه لصالح الأقباط في الداخل، لكن دستور 2014م أقرّ للمسيحيين بحقوقهم الكاملة، كما صدر مؤخرًا قانون دور العبادة الجديد الذي منحهم الحق في بناء كنائس جديدة بمقدار زيادتهم السكانية، ويقدر المسيحيون سواء أقباط أو من مذاهب أخرى بنحو ثمانية ملايين مواطن، أي أن المسيحيين في مصر يشكلون ما يقرب من 10% من المجتمع.

2- الشيعة

يعود الوجود الشيعي في مصر إلى الدولة الفاطمية التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمان، وهي الدولة التي وضعت حجر الأساس لما يعرف الآن بالقاهرة، حيث اختطّها وبناها جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله، وقد تركت العديد من الآثار المهمة، بداية من الجامع الأزهر، ومسجد الحسين، ومسجد السيدة نفيسة، ومسجد السيدة زينب، وسور مجرى العيون وغيرها، وفي ظلها انتشر مذهب الشيعة الإثني عشرية، وتكاد تكون مصر كلها في ذلك الوقت شيعية، حتى جاءها صلاح الدين الأيوبي فأغلق الأزهر وطارد الشيعة ومذهبهم، ورد الدعاء للخليفة العباسي السني في بغداد، لكن بانقضاء الدولة الأيوبية جاء المماليك وأعادوا فتح الأزهر على أن يكون قبلة للجميع، وبدأ عصر التسامح مع الشيعة وغيرهم، لكن القاهرة لم تعد إلى المذهب الشيعي، وظلت على مذاهبها السنية.

لا توجد إحصائيات واضحة للوجود الشيعي في مصر، لكن أفضل التقديرات لا تذهب به إلى أبعد من 15 ألف مواطن، ينتشرون في العديد من المحافظات ولا يتمركزون في مكان واحد، ولم يكن لوجودهم حضور يذكر حتى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، التي اتخذ السادات موقفًا عدائيًّا منها، وفي عام 1987م رُصد تنظيم يضم العشرات من المتشيعين الذين حاولوا نشر مذهبهم في عدد من قرى الدلتا، وفي عام 1988م قُبض على أربعة عراقيين وكويتيين وبحريني ولبناني وفلسطيني وباكستاني بتهمة الدعوة للشيعة، وأُغلقت دار نشر البداية التي كانت تنشر كتبًا شيعية، ووُجهت إليها تهمة تمويل من إيران، وكذلك أُغلق فرع لدار نشر لبنانية تسمى البلاغة عام 1996م، وكُشف عن تنظيم يضم 55 عضوًا في 5 محافظات، وفي عام 2002م قُبض على تنظيم بزعامة مدرّس في محافظة الشرقية بتهمة الدعوة للمذهب الشيعي، وبعد ثورة 25 يناير هوجم بيت لرجل شيعي كان يمارس فيه هو وأصدقاء له طقوس التطبير، وذلك من جانب جيرانه السنة. ويطالب الشيعة في السنوات الأخيرة باحترام طقوسهم، والسماح لهم بممارستها علنًا.

3- البهائيون

هم أتباع حسين علي النوري المعروف في إيران باسم بهاء الله، وقد دخل مذهبه أو طريقته البهائية إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر مع تجار السجاد الإيرانيين، ولا توجد تقديرات رسمية حول عدد البهائيين في مصر، حيث إنها تعدّ ديانة غير معترف بها من الشارع والمشرِّع المصري، فقد صدرت عام 1925م فتوى من المحكمة الشرعية بأن البهائية إلحاد، وأمر القاضي بتفريق ثلاثة بهائيين عن أزواجهم، ورغم ذلك استطاع البهائيون أن يؤسسوا عددًا من المحافل والمراكز الخاصة بهم، وهو ما استدعى صدور قرار جمهوري عام 1960م بإغلاق محافلهم، وذلك بعد دعوى اتهمت عددًا من البهائيين بنشر دعوتهم في مصر، منذ ذلك التاريخ والبهائية تكاد تكون جماعة سرية لا يسمع بها الكثيرون، لكن مع ثورة 25 يناير ظهر العديد من المدافعين عن حرية العقيدة، مطالبين بإثبات البهائية في خانة الديانة، أو رفع خانة الديانة من بطاقة الهوية للجميع، وهو ما رفضته المحكمة، لكنها أقرت بأنه يحق للشخص البهائي أن يضع شرطة (-) أمام خانة الديانة، لكن الأزهر ما زال رافضًا للبهائية، ويرى أنها خروج على الملة، رغم أن لجنة صياغة الدستور عام 2013م قدمت دعوة رسمية لوفد من البهائيين مستمعة إلى مطالبهم الدستورية.

ثانيًا- أقليات عرقية

1- النوبة

النوبيون هم مجموعة من القبائل التي تسكن في شمال السودان وجنوب مصر، وقد كانت لهم حضارة عريقة عرفت بالحضارة النوبية الكوشية، وكانت في ثلاث ممالك هي: نبتة، وكرمة، ومروى. ويتحدث النوبيون اللغة النوبية، وهي تنقسم إلى قسمين أساسيين؛ الكنزية والفاديجية، وتتفرع إلى خمس لهجات أو أكثر في مناطق مختلفة ما بين مصر والسودان. ويتحدث السكان الحاليون بجانب اللغة النوبية اللغة العربية بطلاقة مع لغات أخرى كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية بحكم اختلاطهم بالسائحين والزوار الأجانب.

يتوازى وجود النوبي مع الوجود المصري القديم، حيث عصر الفراعنة، هذا الذي تذهب بعض الدراسات إلى أن عددًا من ملوكه كانوا نوبيين، نظرًا لتطابق البشرة السمراء والملامح الزنجية والشعر والأنف مع الملامح النوبية، ويتحدث أبناء الشمال منهم الكنزية، على حين يتحدث أبناء الجنوب الفاديجا.

وحتى بداية القرن العشرين لم تكن هناك إشكالية خاصة بالنوبيين، فقد كانوا جزءًا من نسيج المجتمع الذي ضم الدولتين السودانية والمصرية تحت تاج واحد، لكن حين فكرت مصر في بناء خزان أسوان عام 1933م ظهرت المشكلة؛ إذ إن المياه التي حجزها الخزان خلفه جاءت على حساب القرى النوبية، لكن الأمر لم يكن بقوة ما حدث بعد بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، ورغم أن الدولة المصرية طالبت النوبيين بالخروج من أرضهم، وقامت بتجهيز أماكن لإقامتهم في أسوان، فإن بعضهم رفض الخروج، وفضل أن يصعد إلى أعالي الجبال على أمل انحسار الفيضان، لكن ذلك لم يحدث، ومن ثم انتقلوا جميعًا إلى قرى في الشمال، وبعضهم تفرق في مدن وبلدان كثيرة. ومن النوبة رموز مهمة في الفنون والآداب، من بينها المطرب الشهير محمد منير الملقب بالملك، والكاتب الكبير محمد خليل قاسم صاحب رواية «الشمندورة»، وغيرهما.

وفي نهايات عصر مبارك غازلت الضغوط الخارجية بعض أبناء النوبة كي يطالبوا بالعودة إلى أرضهم القديمة، بدعوى أنهم حضارة منفصلة، لها أرض ولغة وتاريخ منفصل، وذهب بعضهم إلى المطالبة بتكوين وطن منفصل، وهو ما تعاملت معه الحكومة المصرية بحزم، فمثلما سمحت بوجود تمثيل نوبي جيد في الثقافة والفن، فإنها لم تسمح بهذا التمثيل السياسي، وما زالت حتى الآن بعض الأصوات تطالب بحق العودة إلى الديار التي خرجوا منها؛ بسبب تعلية خزان أسوان أو بناء السد العالي.

2- الأمازيغ

لم يكن المصريون يعرفون أن في بلادهم أمازيغ، وكانوا ينظرون طيلة الوقت إليهم بوصفهم عربًا أو بدوًا، لكن مع الصحوة التي قام بها الأمازيغ في بلدان المغرب العربي، وظهور الحركات المطالبة بالانفصال عن البلدان القديمة سواء في المغرب أو الجزائر أو ليبيا، فقد أثر ذلك في المجموعات القليلة المقيمة في مصر، وبخاصة في منطقة واحة سيوة، حيث تعد الامتداد الطبيعي للأمازيغ المقيمين في الصحراء الليبية، والأمازيغ لا ينفصلون عن الكيان المصري، مثلهم مثل النوبة، فعمق التاريخ جامع بين العناصر المقيمة على الأرض في هذا المكان، ويرجع بعض الأمازيع تقويمهم إلى اليوم الذي دخل فيه ملكهم شيشنق أرض مصر واعتلى عرشها، ويقدر تعداد الأمازيغ المقيمين في سيوة وما حولها بنحو 25 ألفًا، لكن ذلك لا ينفي وجود أمازيغ انتشروا في جنوب البلاد وشمالها بحكم الهجرات الداخلية بحثًا عن الرزق، وفي مصر كيانان يهتمان بالشأن الأمازيغي، هما: «الشبكة المصرية من أجل الأمازيغ»، ومركز «ميزران للثقافات المحلية»، أسستهما الناشطة أماني الوشاحي، وهي مستشار رئيس منظمة الكونغرس العالمي الأمازيغي. وقد استمعت إليها لجنة إعداد الدستور عام 2013م؛ إذ طالبت بتعيين عضو في مجلس النواب عن الأمازيغ وثقافتهم.

3- الغجر

ليس معروفًا على وجه التحديد تاريخ ارتباط الغجر بمصر، رغم أن بعض المراجع ترجع وجود الغجر في مصر إلى ما بين عامي 1546 و1549م، على حين ربطتهم مصادر أخرى بقصة جساس والزير سالم؛ إذ ذهبت إلى أنهم عرب جساس الذين لقوا الهزيمة على يد الزير سالم، فتفرقوا في البلاد وأقاموا على هوامش المدن والقرى… وقد اعتاد الناس على اتهامهم بالسرقة وتسميتهم بالنَّوَر، وهم يقيمون في أماكن متواضعة، مع أغنامهم وماشيتهم، ويحتكمون إلى مجلس يسمى بمجلس المغارمة، وهو مكون من كبير يعاونه ثلاثة من رجاله، ولا يتزوجون من الغرباء، وأغلب أغنياتهم تدور عن الذين عشقوا من الغجر ولم يتزوجوهن، وتعد المرأة هي العائل الأول للأسرة؛ لذا فمهرها غالٍ، وتقام الأفراح حين تولد أنثى في بيت غجري، ويعد لون الشعر الأصفر من علامات الجمال لديهم؛ لذا فأغلبهن تقمن بصبغه، ويتركز وجود الغجر في بعض المناطق مثل: حي غبريال بالإسكندرية، وقرى طهواي بالدقهلية، وكفر الغجر بالشرقية، وحوش الغجر بسور مجرى العيون، وقرى سنباط والمقطم وأبو النمرس ومنشية ناصر، ويقيم في الدقهلية وحدها نحو أربعة آلاف غجري، وفي قرية العصيا بطلخا نحو 1500 غجري، وفي المنصورة نحو 500 غجري، إلا أنه لا يوجد تعداد واضح وشامل للغجر المقيمين في مصر حتى الآن، ربما لترحالهم الدائم، وربما لأنهم ينكرون هويتهم ولا يرغبون في إثباتها، وهم في العموم ليست لهم أية مطالب سياسية، ولا يشكلون مأزقًا للدولة ولا للمجتمع المصري.

لم يبتعد كثيرًا مسلسل «حارة اليهود» عن الواقع في إظهاره اليهود جزءًا من المجتمع المصري، وأن ثمة علاقات طيبة كانت تجمع أبناء الديانات الثلاث في مصر؛ فاليهود كانوا جزءًا من نسيج الواقع الاجتماعي، حتى أنهم لم يكونوا متمركزين في مكان بعينه كي نتحدث عن ثقافة الجيتو، ولم يحدث ارتباك في هذا النسيج إلا مع ظهور الصهيونية، ووقوع نكبة 1948م. وهو ما سعى المسلسل الذي عرض مؤخرًا للتعبير عنه، وقد لاقى قبولًا واسعًا لدى الأوساط الشعبية، ربما لشهرة اسم «حارة اليهود»، وربما لنعومة الأحداث وجماليات التصوير، لكن النخب لم تستطع قبوله، فقد وصفه ألبير أريه (يهودي مصري) في حوار معه بأنه مسلسل للاستهلاك الإعلامي، ووصفه المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم بأنه مجرد تأليف من الخيال. وبعيدًا عما أثاره المسلسل من جدل فإن اليهود في مصر يكادون ينقرضون، فحسبما قالت رئيسة الجالية ماجدة هارون: إنهم لا يستطيعون إقامة الصلوات في المعبد، لأن الصلاة تحتاج إلى عشرة رجال على الأقل، وكل اليهود المصريين الآن عشرون سيدة، فما الذي حدث؟

يرى قاسم عبده قاسم أن الهجرات التي حدثت في القرن الثالث عشر سواء من المشرق العربي بسبب الغزو المغولي، أو المغرب العربي بسبب سقوط الأندلس، زاد من هجرات اليهود إلى مصر، وبعدما كان تعدادهم لا يصل إلى عشرة آلاف أصبح عشرين ألفًا مع بداية الدولة المملوكية، وقال: إن المصادر التاريخية حددت تعداد اليهود قبل الإسلام في مصر بنحو 70 ألفًا، لكن هذا الرقم تناقص بعد الإسلام في ظل عصر الولاة ودولتي طولون والإخشيد حتى وصل إلى 1% من تعداد السكان، وذلك إما للدخول في الإسلام، أو للهجرة إلى عواصم الخلافة سواء في دمشق أو بغداد أو حتى الأندلس، ولا توجد إحصائيات واضحة لهذه الحقبة حتى مجيء الدولة الفاطمية، حيث نشطت فيها التجارة بشكل ملحوظ، فضلًا عن كونها صارت عاصمة خلافة جديدة، وهذا رفع التعداد إلى نحو مئة ألف يهودي، وقد ذكر المقريزي أن القاهرة في أيامه كان بها خمسة معابد، اثنان لطائفة الربانيين، واثنان للقرائين، وواحد لطائفة السامرة، وذهب قاسم إلى أن الأسرة اليهودية لم تكن تزيد على أربعة أبناء، وأن عامل الهجرات كان المؤثر الأول في زيادة تعداد اليهود أو قلته، فضلًا عما كان يقع على المصريين جميعًا من أوبئة ومجاعات.

في العصر الحديث

كانت الثلاثينيات والأربعينيات هي مرحلة الازدهار للوجود اليهودي حسبما يقول الدكتور محمد عفيفي، فقد أدى اليهود بجالياتهم المختلفة وانتماءاتهم الأوربية دورًا في ربط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي، وكانت لهم محلات شهيرة من بينها شيكوريل، و شملا، وعدس، وإريكو، و بنزايون، وقد كان لبعضهم دور مهم في السياسة المصرية، مثل قطاوي باشا، وأدى آخرون دورًا بارزًا في الثقافة المصرية، كيعقوب صنوع الملقب برائد المسرح المصري، الذي أسس جريدة «أبو نضارة»، وحين نفاه الخديوي إسماعيل إلى باريس ظل يدافع عن حرية مصر من هناك. وكان المخرج توجو مزراحي من أهم المخرجين في مصر، وهو أحد المؤسسين للسينما المصرية، وعرفت السينما المصرية شخصيات يهودية شهيرة من النساء، من بينها ليليان ليفي التي اشتهرت باسم كاميليا، وراشيل إبراهام ليفي التي عرفت باسم راقية إبراهيم، والممثلة نجمة إبراهيم التي مثلت مسرحيات تبرعت هي والممثلة نجمة إبراهيم بدخلها للجيش المصري، ونظيرة موسى شحاته التي عرفت باسم نجوى سالم، التي حصلت على درع الجهاد المقدس لدورها الوطني في حرب الاستنزاف، والمغنية الشهيرة ليلى مراد، وكان في بداية السينما المصرية شخصية يهودية تدعى «شالوم»، كان أول من قدم سلسلة أفلام بهذا الاسم، لكنه اختفى.

حارة اليهود

bnmتقع حارة اليهود الشهيرة على مقربة من شارع الموسكي في القاهرة، وهي تتبع إداريًّا حي الجمالية، وهي بمثابة حي كامل يضم 360 حارة، وكانت مقسمة إلى شياختين إحداهما لليهود الربانيين، والثانية لليهود القرائين، وكانت تشتمل على 13 معبدًا لليهود، لم يبق منهم إلا معبد موسى بن ميمون، ومعبد أبو حاييم كابوسي، ومعبد بار يوحاي. ويقول الدكتور محمد أبو الغار صاحب كتاب «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات»: إن الحارة لم تكن تقتصر على اليهود فقط، فسكانها كانوا من اليهود والمسلمين والأقباط، ولم يكن هناك حي مقتصر على اليهود فقط، وإن كان قد وجد في هذا المكان عدد أكثر كثافة عن غيره من اليهود، لقرب الحارة من شارع الحرفيين، حيث كان اليهود يعملون في الحرف، ما جعلها على مقربة من مصدر رزقهم، وعندما كانت حالتهم الاقتصادية تصبح أفضل كانوا يتركون الحارة ليقيموا في باب الشعرية، أو باب اللوق، أو العباسية، أو مصر الجديدة.

الخروج من مصر.

تعددت أسباب خروج اليهود من مصر، لكن ليس من بينها الإجبار بحال من الأحوال؛ إذ يرى الدكتور قاسم عبده قاسم أنهم خرجوا على مراحل، المرحلة الأولى مع النكبة وقيام دولة إسرائيل، والثانية مع العدوان الثلاثي الذي جاء بعد عملية سوزانا التي اشتهرت باسم فضيحة لافون، والتي قبض فيها على عدد من اليهود بتهمة التجسس والقيام بأعمال تخريبية، والمرحلة الثالثة وكانت الضربة القاضية والتي كانت بعد التأميم عامي 1961، 1962م. وأكد الدكتور محمد عفيفي على أنه من الصعب القول بعودة اليهود مرة أخرى إلى مصر في ظل الأوضاع الحالية؛ فالحياة الاجتماعية والاقتصادية المصرية لا تمثل لهم الآن أي عامل من عوامل الجذب على الإطلاق.

طوائف  وخلافات

norbert-egypt-jews1يوضح أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الدكتور محمد عفيفي أن يهود مصر  كانوا من أكبر الطوائف، وأن التركيبة السكانية الأساسية لهم تتكون من الناطقين بالعربية وهم الربانيون والقراؤون، ومن انضم إليهم من السفارديم القادمين من الأندلس، ثم الأشكناز الذين جاؤوا من أوربا في أعقاب المذابح التي دبرت لليهود في نهايات القرن التاسع عشر. وذهب عفيفي إلى أن اليهود عملوا في مختلف الحرف وشتى أنواع التجارة، لكنهم لم يكونوا مزارعين، ولم يعملوا بالزراعة حتى وإن امتلك أثرياؤهم ضياعًا وعزبًا. وأضاف أنهم تمتعوا بمختلف الامتيازات، بخاصة أن كثيرين منهم كانوا يحملون جنسيات أخرى، فقدر عدد اليهود من أصول مصرية بنحو 11 ألفًا، واليهود المصريين الذين يحملون جنسيات أخرى بنحو 75 ألفًا، واليهود الأجانب المقيمين في مصر بنحو 40 ألفًا. وذلك في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات.

وتكونت الجماعة اليهودية في مصر والعالم العربي من ثلاثة أطياف، هم الربانيون والقراؤون والسامرة، وكان الربانيون هم الأكثر عددًا، ومن ثم كان غالبًا ما يكون رئيس الجالية اليهودية من بينهم، وتعود التسمية إلى كلمة رباني أو أوريانيم التي تعني الإمام أو الحبر أو الفقيه، وهم يؤمنون بالتوراة والتلمود، أما القراؤون فهم أقل عددًا من الربانيين، لكنهم كانوا أكثر غنى، ومن ثم كانوا في المناصب والوظائف العليا، وتأتي تسميتهم من كلمة قرأ، أي نادى ودعا، وهم لا يعترفون بالتلمود، ولا يؤمنون إلا بما جاء في النص التوراتي فقط، ويعرفون باسم أهل الدعوة لأنهم يدعون إلى طريقتهم. ويرجع بعض الباحثين ظهورهم إلى زمن أبي جعفر المنصور، إذ  تأثر زعيمهم عنان بن داود بأفكار المعتزلة الذين رفضوا جعل الحديث النبوي من مصادر التشريع، وتشككوا في التراث الشفوي الإسلامي، ومن ثم رفض عنان وطائفته الإيمان بالتلمود وما جاء فيه، وزاد الخلاف بين الفريقين إلى درجة تحريم الزواج والاختلاف في كثير من الطقوس والأعياد. أما الطائفة الثالثة فهي السامرة، وهم أقلية، ولا يعدهم الربانيون ولا القراؤون طائفة، لكن المصريين حكامًا ومحكومين تعاملوا معهم على أنهم طائفة، و تعود نشأتهم إلى زمن السبي البابلي، حيث تم نقل يهود القدس وفلسطين إلى شمال إيران، وإحلال يهود آخرين محلهم، وكانت مدينة السامرة هي عاصمة مملكة داود وسليمان، وهي المدينة القديمة التي تسمى الآن «نابلس»، وقد بنى فيها اليهود الجدد هيكلهم على جبل جزريم، وحين أمر قورش بعودة اليهود الذين كانوا في السبي سعى هؤلاء المقيمون في السامرة إلى تعطيل عودتهم، كما سعوا إلى تعطيل ترميمهم لهيكلهم القديم في القدس، فنشب الخلاف بين الطائفتين، وهم لا يؤمنون إلا بالأسفار الخمسة إلى جانب سفر يوشع والقضاة، ولا يؤمنون إلا بنبوة موسى وهارون ويوشع، ويخالفون الربانيين والقرائين في القبلة؛ إذ يتوجهون إلى جبل جزريم، أما الآخرون فيتوجهون إلى القدس.

وعرفت مصر الطوائف الثلاث، وكانت مركزًا مهمًّا لجذب الكثيرين، لكن القيادة الروحية لهم كانت في العراق وفلسطين، حيث مدارس التلمود هناك، وكان مبارك بن سعديا أول رئيس للطائفة اليهودية في مصر عام 1056م، وخلفه ابنه موسى، وكان اختيار رئيس اليهود يسمى الناجد، ويتم اختياره من السلطان أو الخليفة، ويعهد إليه بتدبير شؤون الطوائف الثلاث في فصل المنازعات والقضاء، وكان لكل طائفة رئيس يخصها، لكننا لا نعرف على أي أساس يتم الاختيار سوى أن صاحبه يكون متقاطعًا مع بلاط الحاكم.

المنشورات ذات الصلة

صناعة النخب في الوطن العربي

صناعة النخب في الوطن العربي

صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *