كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سؤال الهوية الأقليات في الوطن العربي سلاح ذو حدّين
تكتسب موضوعة الأقليات في المنطقة العربية حرارةً طاغية، وأهمية استثنائية بعدما باتت في قلب الأحداث الساخنة، بل الملتهبة في المنطقة العربية، وهي أحداث شبيهة بحرب عالمية تختلف عن الحربين العالميتين السابقتين، باتخاذها طابعًا مختلفًا ووجوهًا مختلفة، وأبرز هذه الوجوه الحرب التي تشنها المنظمات الإرهابية على الأقليات في الدول العربية المكتوية بلظاها. غير أن أسئلة كثيرة تحيط بمسألة الأقليات في الوطن العربي: لماذا يكون التعدد الثقافي في نسيج الدول الاجتماعي أمرًا إيجابيًّا، ودليلًا على الديمقراطية يستحق الثناء في المجتمعات الغربية، ويصبح أمرًا سلبيًّا ومدعاةً للرثاء، ويستوجب التقسيم بجعل هوية سياسية مستقلة لكل أقلية، يتشكل منها نسيج الوطن العربي الاجتماعي؟ وقبل ذلك، ما معنى أقليات؟ وكيف يكون لكل منها هوية ثقافية، حتى يستوجب الأمر الكلام على هوية سياسية؟
قبل الحرب الداعشية، كانت موضوعة الأقليات موضع حوار ومناقشات بين المفكرين والسياسيين والمثقفين والباحثين، تجري على صفحات المجلات والجرائد، وفي سجال يحتدّ حينًا ويخفت، وكان في جميع الأحيان يستند إلى نظريات ومبادئ فكرية استمدها العائدون من المعاهد والجامعات الأوربية والأميركية؛ فالدولة/الأمة الحديثة التي تكوّنت في الغرب، قامت على أساس من تطابق الهوية السياسية مع الهوية الثقافية كما نادى به فلاسفة السياسة والاجتماع منذ عصر الأنوار. لكن بقيت هناك خلافات بين المدرستين الفرنسية والأميركية حول تعريف الهوية الثقافية الناشئة عن الاختلاف في تعريف مفهوم الثقافة نفسه. هذا الاختلاف كثير التشعب، ويحتاج إلى دراسة لا يتسع لها المجال هنا والآن. ونكتفي بذكر ما هو مشترَك بين المدرستين، وهو توافر معايير عدّة في الهوية الثقافية لقوم من الأقوام، أقلُّها لغة مشتركة، ودين مشترك، وتاريخ مشترك، وطموح مشترك. إذ تتداخل علومٌ كثيرة في دراسة الأقليات كالسوسيولوجيا السياسية، والأنثروبولوجيا الثقافية، وتاريخ الحضارات، وعلم الوراثة. فهذه الموضوعة القديمة الجديدة تتجدد مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحدث في الحقب التاريخية المختلفة، كما تنطوي على صراعات سياسية واجتماعية واقتصادية تتخذ شكل صراعات عرقية إثنية، أو دينية مذهبية.
التواطؤ مع الإمبريالية
ومع أنه يجب أن يُنظر إلى تصنيف الأقليات الدينية والإثنية واللغوية في ضوء هذه العلوم، فإن النخب الفكرية والسياسية في الوطن العربي قلّما تتناولها، مخافةَ اتّهامها بالتواطؤ مع القوى الغربية والإمبريالية حتى الصهيونية الساعية إلى تفتيت المنطقة العربية وتقسيمها، إذ لا بد أن نلحظ أن مسألة الأقليات كانت موضع اهتمام الدول الخارجية لاستخدامها في مشروعات الاحتلال والهيمنة والتقسيم؛ فقد كانت الدولة العثمانية في مرحلة صعودها وقوتها، تميز بين الطبقة الحاكمة والرعايا، وتقسم الرعايا على أساس نظام الملل العثماني الذي أعطى لكل طائفة حق إدارة شؤونها الدينية بنفسها، وبناء مؤسساتها التربوية، والثقافية، والاجتماعية، وإدارة أوقافها عبر مجلس لكل منها دون تدخل مباشر من جانب الدولة، ثم ما لبث نظام الملل العثماني الذي استمرّ العمل فيه طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أن تحول في مرحلة انحدار السلطنة وضعفها، إلى سبب لتفسُّخها من الداخل بعد هزائمها العسكرية منذ أواسط القرن الثامن عشر، أمام هجمات الدول الأوربية، وبخاصة مع حملة نابوليون بونابرت في أواخر ذلك القرن من أجل احتلال مصر وبلاد الشام تمهيدًا لاحتلال الأستانة وإنهاء الدولة العثمانية، مستخدمًا أسلوب التعاطف مع طوائف بلاد الشام ومصر، واستمالة زعماء الأقليات الدينية والعرقية واللغوية، ومساعدتهم على إقامة أنظمة ديمقراطية على النمط الغربي، وإنقاذهم من الحكم العثماني الاستبدادي. وعلى الرغم من فشل مشروعه السياسي والعسكري، فإن الدولة العثمانية واجهت مطالب تلك الأقليات التي عُرِفَت بالـمسألة الشرقية بالمزيد من القمع والإرهاب من جهة أولى، والقبول ببعض الإصلاحات والتنظيمات المفروضة من الخارج الأوربي من جهة ثانية. لكن تلك التدابير زادتها ضعفًا وباتت تُسمّى الرجل المريض، والجثة شبه المهترئة، فخسرت كثيرًا من ولاياتها البلقانية والعربية، وتحولت مسألة الأقليات الدينية، والعرقية، والقومية، واللغوية، والجماعات القبلية والعشائرية، إلى منطلق لتدمير الدولة من الداخل، وقيام أنظمة من الحكم المحلي تحت السيطرة الأوربية.
كانت لمسألة الأقليات في الشرق الأوسط تسمية أخرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهي: المسألة الشرقية، وقد أطلقت الدول الكبرى آنذاك (بروسيا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا) هذه التسمية على الملل التي كان نظام الحكم العثماني يقرُّ بها، ولكن منضوية تحت حكم السلطان وسلطته المطلقة. هذه الملل هي التي أصبحت فيما بعد تُدعى أقليات، وكانت خليطًا من العرب والكرد والأرمن والشركس والسريان والمسيحيين بطوائفهم المختلفة، واليهود والمسلمين بمذاهبهم المتعددة، علاوةً بطبيعة الحال على الترك وغيرهم.. والحق أن مجموع هذه الأقليات أو الملل كان يكوّن النسيج الاجتماعي الفسيفسائي المتنوع والمتعدد، فهو خليطٌ من الأقوام والقبائل والأديان والمذاهب والأعراق والألسن.
قبل الحكم العثماني وقبل المسألة الشرقية، كان هناك ما عُرِف بعصر الدويلات حينما كان الحكام يستقلّون في مساحة جغرافية يسمونها باسم القبيلة التي ينتمون إليها، كدولة بني حمدان، ودولة بني بويه… تمامًا مثلما كانت الدول الإسلامية نفسها تتسمّى باسم جد القبيلة، كدولة بني أمية (الدولة الأموية)، ودولة بني العباس (الدولة العباسية)، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية. حتى الدولة العثمانية نفسها تسمّت باسم جد القبيلة التركية عثمان.
معان سلبية وإيجابية
ومع أن الدول التي تخلو من الأقليات نادرة جدًّا، فإن مفهوم الأقليات في بلادنا بات يحتمل كثيرًا من المعاني السلبية والإيجابية، في ظل مشروعات تفكيك الأرض والهوية والشعب، إذ تصبح هويات الأقليات من دون هوية جامعة، ويطغى فيها الخاص دومًا على العام: إذا كانت الهوية الجامعة هي الوطن يصبح المواطنون جميعًا أكثرية مطلقة، ولاؤهم للوطن، من دون أن ينتفي وجود أقليات ذات انتماءات ثقافية مختلفة؛ أما إذا انتفت الهوية الجامعة انفتح باب هويات الأقليات على مصراعيه، وانتفى الولاء للوطن الجامع، واستأثر الانتماء الثقافي وحده بهذا الولاء. فأسوأ ما في الكلام على الأقليات في العالم العربي هو السعي إلى إلباس هذه الأقليات لبوسًا سياسيًّا يؤدي إلى إقامة كيانات سياسية بعدد الكيانات الثقافية، وتذرير العالم العربي إلى أقصى حدّ؛ وأفضل ما في الكلام على أقليات العالم العربي هو إحقاق حقوقها الثقافية في إطار وحدة سياسية جامعة، إذ يذهب كثير من الدراسات إلى أن الغالبية العظمى من سكان الوطن العربي (80 %) يتحدثون اللغة العربية كلغة أصلية، ويدينون بالإسلام، وينتمون سلاليًّا إلى العنصر السامي الحامي، وأن الأقليات الإثنية في المجتمع العربي تختلف عن الأغلبية في أحد المتغيرات الأربعة الآتية: اللغة، والدين، والعرق، والعادات والتقاليد والسلوك، أو ما يُعرَف في علم أنثروبولوجيا الثقافة بالـعقلية. السؤال البديهي الذي يطرح نفسه في سياق الكلام على حقوق الأقليات هو: ماذا عن حقوق الأكثرية؟
كانت للدين في منطقة الشرق الأوسط أهمية فائقة في الحضارات المختلفة التي سادتها. وهناك أديان ومذاهب في هذه المنطقة غير متحدرة من الأديان التوحيدية الثلاثة، بل هي من أديان أخرى. فمن المهم إذًا من الناحية التاريخية والثقافية النظر إلى هذه المنطقة على أنها ملتقى الديانات، والبوتقة التي انصهرت فيها الانتماءات الدينية والعرقية المختلفة بين آسيا وإفريقيا وأوربا. فإذا اعتمدنا الدين معيارًا وجدنا أن هناك وثنيين ومسلمين ومسيحيين ويهودًا ومجوسًا، وصابئة وأزيديين وعبدَة الشيطان.. وإذا اعتمدنا المذاهب الدينية معيارًا وجدنا مسيحيين عربًا (روم كاثوليك، وروم أرثوذكس، وموارنة، وأقباطًا، وبروتستانت، وإنجيليين، وفرنسيسكان، ومريميين)، ومسيحيين غير عرب (أشوريين، وسريان، وكلدان) وسنّة (مالكية، وشافعية، وحنفية، وحنبلية) وشيعة (جعفرية وإثني عشرية، وسبعية، وعلويين، ودروزًا، وإسماعيليين، وأباضيين، وزيديين) وفرقًا مختلفة داخل هذه المذاهب. وإذا اعتمدنا الأعراق واللغات تحصلت لدينا الأقليات الآتية والموزعة على مختلف المجتمعات العربية: كرد، وفرس، وترك، وتركمان، وشركس، وشيشان، وهنود، وبلوش، وأفغان، ويونان، وأرمن، وبربر، أو أمازيغ (وفيهم شاوية، وقبائلية، وشلوح، ومزابيون) وغجر، ونور، وطوارق، ونوبيون بجا (ومنهم البشارية) وسيويون، وهوسا، وقبائل صحراوية، وقبائل نهرية وشبه نهرية، وبدو، ورُحَّل، وبانتو، وأفارقة وزنج، ومولّدون (في موريتانيا) أحباش، وباكستانيون، وفيلبينيون.
فإذا كان الوطن العربي موطن الأقليات لأنه مهد الحضارات القديمة، وقلب العالمين المسيحي والإسلامي، فإن مسألة الأقليات ليست عربية فقط، بل هي ظاهرة عالمية؛ فمع ظهور أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير في النصف الثاني من القرن العشرين أصبح من الصعب إنكار حق الأقليات العرقية أو الدينية في المساواة. في القرن الماضي كانت عملية التخلي عن هوية الأقلية لصالح هوية الأغلبية أمرًا شائعًا، لكن الأقليات ترفض اليوم التخلي عن هويتها الثقافية، ولا سيّما تلك الناشئة عن الهجرة، سواء كانت طواعية بدوافع اقتصادية أو اجتماعية، مثل هجرة الأتراك للعمل في ألمانيا، وهجرة الهنود والباكستانيين وغيرهم إلى دول الخليج العربي، وهجرة أبناء مستعمرات آسيوية وإفريقية سابقة إلى بلدان الاستعمار السابقة (المملكة المتحدة، وفرنسا وهولندا)، أم كانت قسرية (تهجير)، حين يُطرد سكان من ديارهم بالقوة إلى مكان آخر يصبحون فيه أقلية، مثل تهجير الأرمن من شرقي الأناضول، والشركس من القفقاس الشمالي، والمسلمين من مينمار (بورما) إلى بنغلادش، والمسيحيين إلى تايلاند. وهناك أيضًا الأقليات الناشئة عن الغزو والاحتلال والاستعمار الاستيطاني، كالغزو الاستيطاني الصهيوني لفلسطين؛ إذ كان اليهود أقلية بين العرب، الذين تحولوا بعد قيام الكيان الصهيوني إلى أقلية في بحر المستوطنين الصهاينة. كما تحوّل سكان أميركا الأصليون من أكثرية مطلقة إلى أقلية تكاد تنقرض بعدما احتل الأوربيون أرضهم، وأبادوا معظمهم. والولايات المتحدة نفسها هي خليط من الأقليات، ففيها ممثلون لجميع أعراق العالم تقريبًا. كما تضم أجناسًا وفئات مختلفة الهويات الإثنية. وفيها أكثر من 250 طائفة دينية مذهبية مسيحية إضافة إلى الأقلية اليهودية (1٫8 %) والإسلامية، والسيخية، والبهائية، والبوذية، وغيرها. وتعد مسألة التمييز العرقي بين البيض الأوربيين والسود والأفارقة والمكسيكيين من أهم المشكلات في الولايات المتحدة. كذلك تضم الصين 55 أقلية قومية، علاوةً على الأقليات الدينية كالبوذية والكونفوشية والطاوية واللامية – التبتية، والمسيحية والإسلامية. كما يضم الاتحاد الروسي أقليات قومية عرقية يصل عددها إلى أكثر من 128 أقلية كالتتار والأوكرانيين والتشوفاش والبشكير والروس البيض والموردوف والألمان، ومن الداغستان والشيشان والأوسيت والأديغة والشركس. وفي تركيا أقليات عرقية تصل نسبتها إلى أكثر من 30 % من السكان. وفي المملكة المتحدة وكذلك في فرنسا، أقليات أوربية وأخرى وافدة من مستعمراتهما السابقة، كالعرب والهنود والأتراك وغيرهم، إضافة إلى عشرات الطوائف المذهبية والعرقية الأخرى. وقد حصل الويلزيون والأسكتلنديون على حكم ذاتي، وأصبحت لهم برلماناتهم الخاصة بهم. وتواجه فرنسا ضغوطًا لمنح البريتانيين والكورسيكيين حقوقهم الثقافية. كذلك يطلق الكاتالونيون في إسبانيا اسم الدولة على إقليم كاتالونيا. وفي تركيا أقليات تصل نسبتها إلى أكثر من 30% من السكان.
حق اختلاف البشر
فإذا كان هذا الاختلاف بين الجماعات طبيعيًّا، فمن الطبيعي إذًا أن يكون الاعتراف بحق اختلاف البشر طبيعيًّا أيضًا، ولذا فإن الدساتير والقوانين تُقِرُّ هذا الحق في أول سلّم الإنسان. وهذا ما يجعل التعايش ممكنًا، بل سببًا للرقي والتحضر والتقدم، بالتفاعل بين الجماعات البشرية، وتبادل خبراتها، خلافًا لما هو قائم بين جماعات الحيوان من صراع وتوحش وتنابذ. والحضارات الإنسانية هي بالضبط ثمرة هذا التعايش والتلاقح الفكري الذي تُسهِم فيه جميع الجماعات والشعوب والأقوام على مرّ تاريخ التعايش فيما بينها. وبمقدار نجاح إدارة الاختلاف بين الأقوام والشعوب يُقاس مدى الرقي الإنساني وتطوّر الأمم؛ فالصراع بين الأقوام المختلفة هو موروث عصور بائدة من الاجتماع البشري.
وإذا كانت الأمم المتحدة هي الشكل الذي تصبو إليه في طريق تقدمها الحضاري، فإن الأمم المتحدة ما زالت دون المستوى الذي تطمح إليه الإنسانية، وهو أعلى سقف جامع، وتوجد دونه سقوف جامعة أخرى، كسقف الاتحاد الأوربي الذي صنع هوية مشتركة لأوطان خاضت فيما بينها أعتى وأعنف حربين متتاليتين في النصف الأول من القرن الماضي، ثم انضوت تحت هوية واحدة. ويسعى أقوام آخرون في أماكن من العالم إلى خوض التجربة نفسها في الاتحاد الإفريقي والاتحاد الروسي والاتحاد الأميركي. ودون هذا السقف هوية أخرى جامعة هي الهوية الوطنية التي تعترف لجميع مواطنيها بحق المعتقد الديني وبحق التعبير والانتماء، شريطة أن يبقى الولاء لهذه الانتماءات دون الولاء للهوية الجامعة، وأن يبقى الالتزام بواجباتها تحت سقف الالتزام بالقانون الجامع.
في الأوطان الاتحادية أو الوحدوية ذات السقف العالي في هويتها الجامعة التي توزّع على جميع المنضوين تحتها حقوقًا متساوية وواجبات متساوية، تنضوي هويات أخرى كثيرة جماعية وفردية، لا تخرج على الهوية الجامعة، ولا يكون لها أي تأثير سلبي فيها، ما دام الجميع متساوين في الخضوع لقانون واحد، يرعى حقوقهم وواجباتهم جميعًا، ويصونها من دون تمييز. هذا القانون يتصف بصفات هي خلاصة الفلسفات السياسية التي نمت وتطورت منذ عصر الأنوار الأوربي، وتلخّصت في تسميات تستحق الشرح والتفسير: المواطنة والعلمانية والديمقراطية؛ فهذه جميعًا تهدف إلى صون الهوية الجامعة، وعدم السماح للهويات المتنوعة التي تنضوي تحتها بأن تخرج على القانون الذي يرعاها. والخروج على هذا القانون الوطني الجامع لجميع الهويات يُفضي إلى تمزّق الوطن الجامع، وإلى ما بات يسمّى بالبلقنة أو باللبننة بالنظر إلى ما حدث في البلقان من صراعات أدّت إلى تقسيمها إلى دول تبعًا للانتماءات الدينية والمذهبية والعرقية، وكذلك بالنظر إلى الانقسامات الطائفية والمذهبية التي حصلت في لبنان في أثناء الحرب الأهلية من دون أن تؤدي إلى تقسيمه.
مشروعان سياسيان في المنطقة العربية
في بداية القرن العشرين سار مشروعان سياسيان في المنطقة العربية جنبًا إلى جنب، وكل منهما نقيض الآخر: مشروع كيان سياسي للأقلية اليهودية، ومشروع الكيان السياسي للأكثرية العربية. ومعلومٌ كيف دُعم المشروع الأول وأُخفق المشروع الثاني من الدول الظافرة في الحربين العالميتين بعد دحر الدولة العثمانية عن سائر المنطقة العربية. فالأقلية اليهودية التي أقامت كيانًا سياسيًّا لها في إسرائيل هيمنت، إلى هذا الحدّ أو ذاك، على المنطقة العربية عسكريًّا ودبلوماسيًّا. إذ لم يُنشئ انتصار المشروع القومي اليهودي وتحقيق وعد بلفور دولةَ إسرائيل فقط في المنطقة العربية؛ بل رسم أيضًا لهذه المنطقة ترسيمات وحدودًا ودولًا عربية بموجب اتفاقيات بين الحليفين الظافرَين، كان أبرزها الاتفاقية المعروفة باسم سايكس بيكو التي استبدلت بتسمية المنطقة بالمنطقة العربية تسمية أخرى هي منطقة الشرق الأوسط التي سادت في الأدبيات السياسية والإستراتيجية الدولية. وثمة فارق كبير بين النظر إلى الأقليات من زاوية الشرق الأوسط، والنظر إليها من زاوية المنطقة العربية؛ ذلك أن كلا المنظورين ينطوي على منطلقات وأهداف مختلفة: فالمنظور الأول يعد الأقلية اليهودية في الشرق الأوسط صاحبة حق في إقامة دولة تهيمن على المنطقة العربية لتحوّلها إلى دويلات أقوام وجماعات. أما المنظور الثاني فيعدها جزءًا من نسيج المنطقة يتساوى مع أجزائه ومكوّناته الأخرى تحت سقف هوية عروبية جامعة وسيادية تعترف لها بحقوقها الثقافية، وفق القوانين الدولية، فالمشروع العروبي علماني الوجهة خلافًا للمشروع الصهيوني الذي ينبذ خارج النسيج الاجتماعي والوطني كل الانتماءات الثقافية الأخرى المغايرة للانتماء الديني اليهودي. كذلك، فإن منظور داعش يحل محل القانون الوطني الجامع قانون فئة أو فرقة تضعه لنفسها بنفسها، وتسعى إلى فرضه على الجميع، ويصبح كل ما عداها من فئات وجماعات أقليات تستحق الاضطهاد لأنها لا تخضع لقانونها. أقليات الشرق الأوسط هي مشروعات دويلات، وأقليات المنطقة العربية نسيج اجتماعي تعددي وحضاري. ولو أن النجاح كان حليف المشروع القومي العربي في بداية انطلاقته عندما انحلّت الدولة العثمانية وتفككت أمام انتصار الحلفاء، لما رأى المنظور الثاني النور، ولما ظهر إلى الوجود؛ غير أن انتصار فرنسا وبريطانيا، وانتصار مشروعاتهما الاستعمارية والتقسيمية للمنطقة العربية، أخرج إلى حيّز الوجود والتداول تقسيمًا جيوبوليتيكيًّا جديدًا تسمية الشرق الأوسط لطمس التسمية العربية للمنطقة، والحيلولة دون انبعاث أملٍ بمشروع عربي قومي أو وحدوي أو ما شابه.
قد يكون تصنيف النسيج الاجتماعي في أقليات وجماعات ثقافية من باب الفرز والتقسيم في مجتمع متعدد ثقافيًّا بغية إنشاء كيانات سياسية لكل مكوّن من مكوّناته الثقافية، وقد يكون من باب الضم والتوحيد في سياق الاعتراف بفضيلة التعددية الثقافية في إطار الوحدة السياسية التي تضمّها جميعًا. فالتعدد الثقافي في إطار وحدة سياسية جامعة هو موضع إشادة وتقدير؛ إذ تتغنّى به مجتمعات متقدمة في العالم كالمجتمع الفرنسي، أنموذج صهر الأقليات وذوبانها (integration) في ثقافة المجتمع الفرنسي، والمجتمع الأميركي أنموذج التعايش بين الكتل الثقافية المختلفة (multing pot) في إطار وحدة أميركية جامعة. فأين يصبح التغني بالتعدد الثقافي في المنطقة العربية إذا شاء الشروع السياسي العروبي أن يضم جميع أقلياته الثقافية ضمن مشروع سياسي توحيدي جامع؟
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق