كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الحوثيون من المظلومية إلى الاستبداد
منذ ظهر الحوثيون كحركة متمردة في اليمن، استخدم مناصروهم تعريف أقلية لهم ضمن فكرتين، الأولى: منحهم حق التمايز عن الآخرين، وفي الثانية: إثارة مجال متعاطف معهم. لكن هل هذا كافٍ لمنح حروبهم شكلًا مشروعًا؟ وأي نوع من الأقلية هم؟ هكذا حاول الخطاب المتعاطف، عبر استخدام مصطلح أقلية، نقل مشروع الحوثي السياسي من مستوى العنف إلى قضية حقوقية فيها كثير من التضليل.
إذن يمكن التعامل معهم بوصفهم أقلية في سياق النسبة السكانية، وإن ظل هذا التعريف ملتبسًا ضمن احتجاج سياسي تشغله مبادئ عامة عن حقوق الأقليات. لكن على مستوى التعريف النظري لا يمكن حجب الالتباس إذا أردنا تعريف الحوثي كهوية سياسية، أو سكانية، أو حتى إنسانية. والحوثي حرص على إثارة الموضوع الطائفي، على أساس أنه يمثل فئة أو هوية مختلفة، ليس فقط عبر رمزية طقوسية واحتفالية ميزتها أقمشة خضراء، وشعارات كرست التلويث البصري بقدر ما كرس مسلحوه تعكيرًا للسلم العام، بل أيضًا في خطاب وممارسات عرّفت اليمن ضمن هويات مقسمة. فعندما بدأت ميليشياته بحصار صنعاء، استدعى الحوثي التقسيم المناطقي، فكان يخاطب أبناء الجنوب، وأبناء تعز، لكنه أيضًا غازل توجهًا عالميًّا حضرت حسابات مصالحه السياسية في المنطقة تحت مظلة الحرب على الإرهاب.
عند احتفال مناصريه يوم 22 سبتمبر بعد سقوط صنعاء في عام 2014م، وجه الحوثي تحذيرًا إلى مأرب والبيضاء بأنه سيقوم بملاحقة القاعدة وداعش هناك. وكان المسرح جاهزًا لتفسير حروب غرضها شرعنة استيلائه على السلطة، أو انقلابه. إذن لم تعد المسألة صورة أقلية تواجه فضاء عامًّا معاديًا؛ بل ميليشيا منحت نفسها حق العدوان. والدعشنة كان المصطلح الجديد الذي ارتداه الحوثي بعد سنوات من ادعاء المظلومية. وهو المبدأ الذي شرعنت عبره الحكومة الطائفية في العراق تكوين ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية في العراق تحت ذريعة مواجهة داعش، ومارست التنكيل بأبناء السنة.
مشروع ممنهج لابتلاع الأكثرية
منذ اللحظة الأولى كان خطاب الحوثي يضمر طموحه السياسي عبر ادعاءين: المظلومية، وشعاراته ذات الطابع الديني والمعادي لأميركا وإسرائيل. وعندما أتيحت له الدولة، حتى بوصفه حليفًا داخليًّا، أرسل مسلحيه للسيطرة على المدن، وفي الوقت نفسه بوصفه حليفًا ممكنًا لأميركا في حربها ضد داعش والقاعدة. هنا تصبح الأقلية مشروعًا ممنهجًا لابتلاع الأكثرية، مشروعًا يلاحق إرثه السياسي القائم على تغليف اليمن بالعمامة البالية التي مثلها الإمام في القرون الماضية.
استفاد الحوثي من التعميم الذي فرضه مفهوم الأقلية، فهو على مستوى مناصريه يضمن تحفيزهم لوجود عدو دائم، وبالتالي ديمومة استعدادهم القتالي. وفي الوقت نفسه إنتاج ثقافة المظلومية الحاضرة في تراث عقائدي عميق. حتى إن أي حرب سيخوضونها هي دائمًا نحو عدو أميركي، وآخر محلي داعشي صنعه هذا العدو. فحربهم ضد القاعدة هي دائمًا ضد أميركا، يعززها شعار أو مقولة مؤسس الجماعة حسين الحوثي: «القاعدة صناعة أميركية». هذا بالنسبة للخطاب الموجه لمناصريه. وعلى مستوى حقوق الأقليات، يضمن تعاطفًا محليًّا وآخر دوليًّا متناغمًا مع أكلاشيهات خطاب المنظمات الحقوقية. أنتج ذلك مستوى تعريفيًّا، يكاد يكون واحدًا، بصفتهم أقلية مضطهدة. وذلك صاغ إلى حد كبير، مشروعية العنف الذي دشن به الحوثيون ظهورهم المعلن على الساحة اليمنية.
تعميمات دينية وسياسية
منذ البداية تهرَّبَ الخطاب الحوثي من إعلان أجندة سياسية واضحة. كان دائمًا يغلف خطابه وراء تعميمات دينية وسياسية. وعندما كان مسرح وجوده المسلح مقتصرًا على صعدة وأجزاء من عمران، ظل الحوثي يدعي أنها حروب دفاعية. ضد من؟ إنه مجال غير واضح أو محدد. ضد أميركا وإسرائيل، ضد التكفيريين. وأين ستتوقف تلك الحروب الدفاعية؟ فبوصفهم أقلية سيكونون مُطالبين أيضًا بتقديم إيضاحات عامة عن مطالب سياسية. لكنه خطاب يضمر طموحًا بالاستيلاء الكامل على الحكم. مع توسع سيطرة المسلحين الحوثيين، تغيرت النبرة الخطابية، لم تعد حروبًا دفاعية، بل صارت ذات نبرة خمينية «مناصرة المستضعفين»، ما يعني أرضًا مفتوحة. كما أنه بعد طرد «سلفيي دماج» ظل يعلن أنه سيقوم بتطهير البلاد من التكفيريين. كان لهذا الاستدعاء حافز يثير الصراعات ذات البعد الطائفي. اعتقد بعض المراقبين أن الحرب في الجغرافية القبلية جهوية خالصة. وهو المجال الذي منح الحوثي فضاءً يراوغ فيه، ومكنه من إسقاط المدن، أي أن تفتت المضمون الوطني في اليمن أسهم في تصاعد تلك الجماعة، وسيظل يمنحها كل مقومات البقاء.
ولا يمكن تصنيف جماعة الحوثي بوصفها جماعة عرقية، أو لغوية، أو قومية مختلفة بالنسبة لليمنيين. لكنها تحاول بناء هذا الادعاء العرقي، فعندما سقطت إحدى قرى جبل صبر في تعز في يد المقاومة، كانت تحت سيطرة مسلحي الحوثي، روج إعلامهم وأشاع عن حدوث تطهير عرقي هناك. مع هذا، لم يعترف الحوثي بحقوق أي جماعات مختلفة. فعند سيطرته على صعدة قام بطرد ما تبقى من اليهود. ثم إنه مارس كل أشكال القهر والقسوة ضد خصومه، فقام مسلحوه بتفجير مساجدهم ومنازلهم.
ادعاء متعجرف لا يريد مساواة مع الآخرين
يعتقد الحوثي أنه أقلية متمايزة من غيرها، بمعنى أنه يندرج ضمن مفهوم سيطرة الأقلية، وهيمنتها الكلية دون شريك أو منازع. وهذا الادعاء المتعجرف لا يريد مساواته مع الآخرين، لزعمه أنه ينتسب إلى النبي محمد ﷺ من ابنته فاطمة، أي الهاشمية. ووفق ادعاء مذهبي كرسته الإمامة الزيدية، يَدَّعِي لنفسه، أو لفئته، الحق الوحيد بالحكم، وما يمنحه حق التحكم بالأكثرية، ويشرع له كل أشكال الاضطهاد والقسر، والاستيلاء على مصادر الثروة والسلطة. إن طبيعة هذا الانتساب لا يمكن إدراجه في مستوى واحد مع حقوق الأقليات، إلا في شروط سياسية منحرفة. وهي كفكرة تكشف تمايز مركب داخل الحركة نفسها، بما أنه يعتمد على كيان واسع من أبناء القبائل ووجاهاتها.
يلعب الحوثي على فضاء الموروث السياسي الذي هيمنت عليه جغرافية قبلية محددة في اليمن، استطاعت الإمامة الهادوية توحيدها في الإطار الزيدي. وهو الإطار الذي سيحاول الحوثي إعادة تشكيله في مضمون يستدعي النموذج الخميني، وإن بصيغة زيدية. في ثمانينيات القرن الماضي، ابتدع بدر الدين الحوثي والد حسين مؤسس الجماعة الحوثية وعبدالملك الزعيم الحالي، تقاربًا عقائديًّا بين الزيدية والخمينية، ومنه نسج تقاربًا يضمن لإيران موطئ قدم في اليمن. لكن هذا التقارب لا يحظى بقبول معظم المجتمع الزيدي، إلا في حال استدراجه داخل تحولات سياسية تضمن للحوثي أن يكون حيزه الضيق والوحيد.
يتطابق مفهوم الأقلية، مع خطاب المظلومية الذي يستند إليه الحوثي راديكاليًّا. لكن عبر احتكاره السلطة يمارس القسر والإلغاء ضد مجتمع تمثله أكثرية سنية، وهو ما جسدته ممارسات الحوثي بعد انقلاب 21 سبتمبر. ويمكن أن يكون الحوثي أكثرية على المستوى العصبوي والمتضامن؛ لأنه لا يوجد في اليمن فضاء سني واحد متضامن، وحتى مناطقيًّا، لا يشكل الجنوب كيانًا واحدًا، أو حتى تعز. وبالعودة إلى نصيحة الصيني تزو في كتابه فن الحرب، يقول: «حافظ على أن تكون أكثرية عبر تشتيت العدو». وهو ما سعى إليه الحوثي في خطابه عبر تعامله مع اليمن كهويات منقسمة، تضمن تفوق مجاله العصبوي. وهكذا يتاح للأقلية ابتلاع الأكثرية المشتتة.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب في الوطن العربي
صورة النخب وجدل الأدوار محمد شوقي الزين - باحث جزائري مثل المنطوق الأوربي (elite)، تنطوي مفردة «النخبة» في اللسان...
الإبل في الثقافات: شراكة في الحضارة قفْ بالمطايا، وشمِّرْ من أزمَّتها باللهِ بالوجدِ بالتبريحِ يا حادي
آفاق السنام الواحد عهود منصور حجازي - ناقدة سينمائية منذ فجر التاريخ، كان إدراك الإنسان لتقاسمه الأرض مع كائنات أخرى،...
تجليات الفن في العمارة… رحلة بصرية عبر الزمن
العمارة والفنون البصرية علاقة تكافلية مدهشة علاء حليفي - كاتب ومعماري مغربي منذ فجر الحضارة حتى يومنا الحالي، لطالما...
0 تعليق