كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الترجمة في الفن… الرسم والموسيقا نموذجًا
هنالك لحظات في الفن لا أقول تاريخية وإنما أقول أولى وأحرى بالماضي والحاضر والقادم أن يقف لها إجلالًا. لحظات قد نقول فيها كل شيء من دون أن ننطق بحرف واحد. إن مفهوم الترجمة بما هو بيان لغة ما بلغة أخرى يمكن أن يكون أكثر اتساعًا، وأن يشمل كل ما يمكن أن يتحول إلى لغة. ولما كانت الموسيقا لغة من اللغات التي دأب على استعمالها البشر منذ البدايات كان الرسم أيضًا لغة بصرية لم تكن أقل حظًّا من الموسيقا في أن تكون لها تقريبًا تلك البدايات نفسها.
ترجمة الحياة
بدأ الفن بالترجمة ترجمة الحياة بكل تفاصيلها، بدأ اللسان الأول يخط على جدران الكهوف صورًا عديدة اختلفت موضوعاتها. يقول ماتيس: «يبدو لي أنه يمكننا القول: إن الفن يقلد الطبيعة من خلال صفة الحياة التي تجعل الأثر الفني عملًا إبداعيًّا. يبدو الأثر الفني إذن مغرمًا بهذا التشويق الداخلي نفسه. كذلك يجب أن نجد حبًّا كبيرًا قادرًا على إلهام ودعم هذا الجهد المتواصل نحو الحقيقة. إن هذا العطاء كله وهذا الصوت العميق هو الذي يحدد عملية إنشاء كل أثر فني».(١)
إن التقليد هنا يعني وجود عنصرين متكافئين هما المُقلِّد الذي هو الفن والمُقلَّد الذي هو «الحياة». وهنا بالتحديد يمكننا الحديث عن ترجمة من «نص بيولوجي حيوي» إلى نص فني، ولعله يحقق هنا أرقى معنى من معاني الترجمة وهو معنى الإبداع والخلق. إن هذه الترجمة من النص البيولوجي الحيوي (نَقْل الطبيعة) أو النص الوجودي (نَقْل الفكرة) يفتح الباب على مصراعيه للحديث عن الترجمة في الفن ذاته، كعنوان كبير لجميع الفنون، وبالتالي من فن إلى فن على اعتبار اختلاف صفة النصوص، ويمكننا أن نقدم هنا فن الموسيقا والفن التشكيلي نموذجًا.
إن اختلاف الألسن من فن إلى فن يمكن أن يتيح لنا ما يمكن أن نصطلح على تسميته الترجمة الفنية أو الترجمة الإستيتيقية التي تسمح بالترجمة من فن إلى آخر قصد خلق نُظم جديدة وخلق نصوص جديدة تكون ثرية في معناها الفني وبعدها الإنساني.
ما الذي يثري الترجمة ويرفعها إلى المستوى المفهومي؟ إنها القراءة. نعم، لا يمكننا الحديث عن الترجمة من دون الحديث عن القراءة؛ لأن الترجمة لا تكون إلا بالقراءة، ومن القراءة، وإلى القراءة. إن الترجمة فعل أنطولوجي بامتياز، مبثوث في الوجود؛ إذ لكل شيء خصائصه التي إنْ حوَّلناها حدث فِعل الترجمةِ، وهذه الأشياء بخصائصها تتأقلم مع خصائص الإنسان حتى يستطيع استيعابها. وبذلك يمكننا القول: إن الترجمة فعل مرتبط بالحياة؛ لأن كل ما نراه مترجم، وإن لم يكن مترجمًا لما أمكننا أن نراه أو نسمعه أو ندركه أو نلمسه…
ترجمة الفن
إلى أي مدى يمكننا الحديث عن ترجمة في الفن؟ أولًا نريد أن نستثني الترجمة الحرفية الجافة التي تُقصي معنى الإبداع والخلق؛ فهنا لا مجال للحديث عن ترجمة بهذا المعنى. أما إذا أخذنا الترجمة كآلية يكون مضمونها الإبداع والخلق، فهنا يمكننا الاشتغال على فعل الترجمة بهذا المعنى. إن لكل لغة شكلًا ومضمونًا، ولما كان الفن بهذا المعنى أيضًا لغة كان السؤال: إلى أي مدى يمكننا التشريع للترجمة من فن إلى فن؟
إنه باب يمكن أن يفتح على مصراعيه في هذا المجال ليجعلنا نُلاقح بين الفنون وبعضها، وينهل الواحد منها من الآخر؛ لأجل إثراء الفن ذاته، وكذلك لأجل آفاق جديدة قد تُشرع لفنون جديدة أيضًا قائمة بذاتها. إننا عندما نتحدث عن الترجمة من حيث إنها تحويل من اللغة الأصل إلى اللغة الهدف، فإن مفهوم الترجمة يقف هنا ولا يتعدى حدود اللغة؛ أما الترجمة في الفن فهي فعل متعدٍّ يتواصل معناه بعد الفعل. ففعل الترجمة لم يقف هنا عند تحويل النص وحسب، وإنما خلْق نصّ جديد له إنشائيته الخاصة، وبإمكانه أن يبدع من داخله آليات تأويله ومفاهيمه. ولنا أن نتحدث هنا عن مادوية الترجمة وهو ما معناه أن تلتحف الترجمة بلحاف مادي. ففي النموذج الذي اعتمدناه، وهو الرسم والموسيقا، وعند التحويل من المتن الموسيقي إلى المتن التشكيلي، يكون مشروعًا إلى الحد الذي يتأسس فيه فعل التأويل والإبداع وخلْق نص جديد يؤسس بدوره لإثراء المتن المنقول.
إن الترجمة في الفن مقترح يقتضي قراءة فن من فن آخر. إن الترجمة المتعارف عليها لدينا تقوم على بنية ثنائية تتمثل في النص الأصلي والنص المُحول إليه أو النص الهدف، أما الترجمة في الفن فهي تقوم على بنية ثلاثية تتمثل في النص الأصلي والنص المُحول إليه والنص الجديد الذي يتمثل في (القراءة التأويلية) التي تفترضه سِمَة أو خصائص ذلك الفن من حيث الخلق والإبداع، وهي في النموذج المطروح تتمثل في (القطعة الموسيقية)/ الموسيقا/ اللوحة/ النص الجديد (التأويل).
كما يمكننا الحديث عن الترجمة «المركبة» التي تكون أكثر تعقيدًا في الفن. فأنْ تقرأ جملة بسيطة لغةً فأنت تفهمها أي تُحَوِّلها إلى معنى. ولذلك كان فعل الترجمة هو هذا التحويل من القراءة إلى المعنى أولًا، ثم الترجمة من المعنى الأصل إلى المعنى المحول إليه، ولما كانت الترجمة في الفن ثلاثية البنية كانت أكثر تعقيدًا: ترجمة على المستوى النظري- المفاهيم، ترجمة على المستوى الإنشائي، وترجمة على المستوى التأويلي.
إن التماثل البنيوي والتداخل الدلالي قد هَيَّآ الأرضيةَ المغذيةَ لإمكانيات التناظر الإبداعي والتأويلي بين هذين الفنين، هذا التناظر الذي يغذي بدوره فِعْل
الترجمة ويُثْرِيه.
كيف يمكن تحويل أو ترجمة النموذج الموسيقي إلى لحن مرئي متحرر من كل إحالة مرجعية إلى العالم الخارجي؛ أي ترجمته إلى اللوحة من جهة ما هي عالم قائم بذاته ومتعدد الأبعاد الدلالية ومتأصل في الحياة الروحية لذات ومعبر عنها؟ يمكننا أن نشير هنا إلى الترجمة على المستويين: مستوى الشكل ومستوى اللون، أما فيما يخص مستوى الشكل فإن الشكل في اللوحة التجريدية شكل مُشبَع لاحتوائه على إمكانات تأويل لا نهائية. ولأن الفكر لا يستطيع أن ينظر خارج الطبيعة فهو يظل يبحث عن المشابه لحظة التأمل؛ ولذلك يحدث الاستغراق (وهنا نتحدث طبعًا عن النظرة المتأملة لا النظرة العابرة). أما فيما يخص الترجمة على مستوى اللون فيُعَدّ الرسام سورا نموذجًا مهمًّا في هذا المجال.
المتلقي مترجِمًا
إن سورا عندما يعتمد اللون في لوحاته يستعمل النقاط المتجاورة، فهو يضع مثلًا نقاطًا من اللون الأزرق بجانب نقاط من اللون الأصفر، وللمتلقي أن يمزج بصريًّا اللونين ليتحصل على اللون الأخضر؛ فعين المتلقي هي التي تترجم اللونين الأزرق والأصفر إلى لون واحد هو الأخضر. ولذلك كان التحويل من نص لوني (الأصل)، موجود فعليًّا على اللوحة، إلى نص لوني (الهدف) المحول إليه (نص جديد). إن الأشكال والألوان الافتراضية في لوحة سورا تخضع لقانون التأليف الذي يؤسس لوحدة اللوحة وجماليتها تمامًا كما الموسيقا، حيث نجد في لوحة سورا قانون التمايز (بين النقاط) تمامًا مثلما نجد قانون التأليف؛ إذ تصير اللوحة كلًّا واحدًا يقوم على التنافر والتآلف وهذه هي بالتحديد نقطة الاشتراك بين لوحة سورا والموسيقا. وبالتالي يقدم هذا المشترك المشروعية لفعل الترجمة بين الرسم والموسيقا.
إن استعمال أسلوب اللمسات المُنفصلة التي تكاد تتحول إلى نقاط لونية علاوة على أنه يمكننا أن نمثلها بالحروف في اللغة، فإن إرجاع عملية التأليف بينها إلى الإدراك البصري، وبالتالي إلى المتلقي يمثل عملًا موسيقيًّا بامتياز -ويمكننا هنا المماهاة بين انحلال الشكل واللون لدى سورا، والانحلال الكروماتيكي للهارمونيا والميلوديا الديبوسية- وذلك لأن الأصوات والنغمات عندما تخرج من الآلات أو من الحلق تخرج في حقيقة الأمر مُتقطعة مهما كان امتدادها. فهي بمثابة كيانات ذرية متعاقبة، ولا يحصل التأليف الاتصالي بينها إلا في إدراك السامع، وذلك بفضل القدرة على التخزين في الذاكرة وعلى التخيل. ومعنى ذلك أن العمل الموسيقي لا تتصل نقاطه الزمانية إلا في الإدراك، أما في ذاته فهو مجموع نقاط منفصلة.
يقول هيغل في هذا الخصوص: «إن كل صوت كيان مستقل، مكتمل في ذاته لكن هذا الكيان لا يملك، من جهة أولى ما تملكه الهيئة الحيوانية أو البشرية من وحدة حية وتساوق ذاتي، وهو لا يطرح نفسه من جهة ثانية على أنه عضو خاص للعضوية الجسمانية، أو سمة خاصة من سمات الجسم الذي تدب فيه حياة حيوانية، أو روحية عضوًا أو سمة يمكن أن يقال عنه: إن وجوده تابع للعلاقات الحية التي يقيمها مع سائر أعضاء أو سمات العضوية، وإنه من هذه العلاقات تحديدًا يتلقى معناه ودلالته وتعبيره. صحيح أن اللوحة تتألف في مظهرها الخارجي من سمات وألوان منعزلة يمكن أن يكون لها بحد ذاتها وجودها الخاص بها، لكن المادة المحضة التي بفضلها تتحول هذه السمات والألوان إلى عمل فني؛ أي بعبارة أخرى الخطوط والسطوح، إلخ لا معنى لها إلا من حيث إنها كل عيني…»(٢). وهنا تحديدًا نضيف مستوى ثالثًا من الترجمة إلى الترجمة على مستوى الشكل ومستوى اللون وهو مستوى المعنى الذي يتأسس من خلال ذلك الكل العيني الذي تحدث عنه هيغل.
بين الرسم والموسيقا
إن من بين أهداف الترجمة من الموسيقا إلى الرسم بالمفهوم العميق والثري للترجمة هو الكشف عن المسار الإبداعي إنشاءً وتلقّيًا لكلا الفنين، وقد تفتح لنا هذه الترجمة آفاقًا جديدة للبحث لا في المظاهر الشكلية والخارجية، وإنما في المقتضيات الجوهرية لإنشائية الفعل التشكيلي. ترجمة لها من المتانة والعمق ما يتجاوز أشكال المجاز والتشبيه البلاغي التي قد يعتمدها بعضٌ في حديثه عن اللوحة بلغة موسيقية لا تستند إلى تبرير علمي أو تشريع فني مبني على أسس نظرية واضحة المعالم وبناءة من جهة النتائج والآفاق. والملحوظ أن هذه اللغة كثيرًا ما تنحصر فيما يشبه النقد الفني الواصف لإيقاعية اللوحة ونغميتها من دون وعي بالأبعاد التشكيلية والجمالية لفعل الترجمة من فن إلى فن.
إن هذه الترجمة التي تكشف عن أرضية التداخل والتقاطع على مستوى المضمون بين الرسم والموسيقا قادرة على نسج شبكة من المفاهيم تستوعب كلا الفنين على مستوى القراءة التأويلية.
إن الترجمة في الفن يمكن أن تمر إلى الطور التطبيقي. لقد طرح إيتيان سوريو سؤال المقارنة بين الموسيقا والعديد من الفنون وذلك في سياقات مختلفة من كتابه «تقابل الفنون». والقضية في نظر سوريو لا تتعلق بأوجه التشابه والاختلاف بين الفنون، وإنما تتعلق بـ«القوانين البنيوية» المتحكمة تحكمًا دقيقًا في فنون متباينة كل التباين، وقد تكون هذه القوانين متعلقة بالمواد كما قد تكون متعلقة بما هو روحاني في الفن حسب عبارة كاندنسكي، أو حتى بالبعد الرمزي للتجربة الفنية سواء تعلق الأمر برمزية الألوان أو برمزية النغمات. (وقد نتساءل عن فائدة هذه المقارنة لا من الناحية النظرية فحسب، وإنما من الناحية العملية أيضًا أي من جهة الإمكانات التقنية والتشكيلية والجمالية والدلالية).
وهنا بإمكاننا القول: إن الترجمة هي الفعل الذي يمكن أن يثمن هذه المقارنة ويدفع بها إلى أقصى مدى. ولما كان الحديث عن القوانين البنيوية أمكننا التشريع للترجمة في الفن؛ لأنه من خلال هذه القوانين بإمكاننا خلق منظومة مشتركة بين الفنين، تكون أبجديات هذه الترجمة، وتخلق رؤية مفهومية جديدة تُثري النص المرئي، وتعززه وتفتح آفاقًا جديدة على مستوى الإنشاء والتلقي. ويمكننا هنا أن نشير للملحن فان دومسيلر الذي ترجم التضاد بين الخطوط الأفقية والخطوط العمودية لدى موندريون إلى قطع موسيقية ملحنة للبيانو، تمثل تضادًّا بين القياسات الهارمونية والميلودية. كما يمكننا الإشارة إلى بعض المفاهيم التي أنتجتها الترجمة من فن إلى فن من الموسيقا إلى الرسم:
اللوحة اللحنية: اللحني في الموسيقا يعني تتالي الأصوات، واللوحة اللحنية هي التي تأخذ العناصر التشكيلية فيها نظام التجاور، وتؤسس بالتالي للتسطيح.
اللوحة التوافقية: التوافقي في الموسيقا هو أن نسمع درجتين موسيقيتين في الوقت نفسه. واللوحة التوافقية هي التي تأخذ العناصر فيها شكلًا تراكميًّا حيث نجدها تكرس مبدأ التطابق ومبدأ الشفافية، وكل ما يمكن أن يغذي هذا البعد التراكمي.
اللوحة الهوموفونية: على المستوى الموسيقي الهوموفوني يعني أن يكون لكل الأصوات الإيقاع نفسه. أما على المستوى التشكيلي فاللوحة الهوموفونية هي تلك التي نجد فيها هيئة بصرية محورية.
اللوحة البوليفونية: البوليفوني موسيقيًّا يعني تعددية الأصوات، أما تشكيليًّا فاللوحة البوليفونية تعني غياب الهيئة البصرية المحورية في اللوحة، وبالتالي تكرس تعددية الهيئات البصرية.
(١) Henri Matisse, Il faut regarder toute la vie avec des yeux d’enfants. propos recueillis par Régine Pernoud, Le Courrier de l’U.N.E.S.C.O., vol. VI، n°10, octobre 1953 Repris par Dominique Fourcade, Henri Matisse. Écrits et propos sur l’art, Hermann, Paris, deuxième édition, 1992, pp. 321-323.
(٢) هيغل، فن الموسيقا، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1985م، ص ص36-37.
المنشورات ذات الصلة
صناعة النخب
لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير...
جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو
كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في...
اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل
في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند...
0 تعليق