المقالات الأخيرة

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

برايتون

برايتون

... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر لذيذ يعبر رأسه، تخلبه أشتات يوم قديم، يمسك بمعصم ابنه ويسيران إلى خارج المحطة، ينحدر بهما طريق يمتد من محطة القطار ويصب في شاطئ البحر، يقف أمام البحر...

«عاصفة على جناحٍ متعَب» لسيف الرَّحبي

الأكواريوم: تحولات الفكرة من الماء عائدةً إلى الشجرة

بواسطة | نوفمبر 1, 2023 | مقالات

تصادف، وأنا بمسقط، أن قرأت عنوان سيف الرَّحبي الجديد «عاصفةٌ على جناحٍ متعبٍ» الذي نشرته دار الآن منشورات، بعمان بالأردن، 2023م. ويتوزَّع هذا العنوان على نصوصٍ مكتوبةٍ في شكل وارداتٍ، يوميَّاتٍ اقتطعَها الرحبي من ذكرياته وهو في شوارع القاهرة، ليالي رمضان، وفي شوارع باريس ومقاهيها وكنائسها، متوغِّلًا أكثر في الأماكن الأسطورية حيث أشباح أطلنطا الغارقة في الزمان، وحيث العصور الجليدية الأولى التي يفتِّشُ فيها عن شفاعةٍ ما تزيلُ عن صدر الإنسان قلق الحداثة المريب.

في العنوان نفسه، امتدادٌ بالحنين لذكر الذين غادروا من السُّلالة نفسها؛ وليعقوب عاشق الحمام، وهجٌ بالعقل لذكر أشباه النفس ونظائرها، لمحمَّد حجِّي، وشكري وخوري وزفزاف وخير الدين، ولجورج سيمنون وفيللني بالمقاهي الباريسية. في الكتاب، يصرِّح سيف الرَّحبي أيضًا عن عدميَّته الوجودية في مقابل تلك العدميَّة الفلسفية التي لا تملك العمق كما هو واضح في غرقها البعيد بالصحراء، فبالنسبة له، كلُّ رجلٍ في الصَّحراء هو عدميٌّ بالطبيعة. ولذلك، تتكشَّف المفاهيم عنده عن نسبيَّةٍ متوازنة، فبينما تمثِّل فكرة الموت في عالمنا الثَّقافي تعويضًا عن قسوةٍ دنيويَّةٍ، فإنَّها تمثِّلُ عند اليابانيِّين نبعًا متدفِّقًا بالجداول التي تسقي الحياة والفنون (ص. 40). ولذلك، فالموتُ يغيِّر من معناه في أزمنة القحط والجفاف إلى معنى آخر في الأزمنة الخصيبة.

بحثًا عن غناء ما

هذه الفلسفة العدميَّة ستنتقل به في الكتاب نفسه إلى اعتبار القيم الإنسانية متباينة بين مكانٍ وآخر؛ إنَّها نظرةٌ مشرِّعةٌ لأخلاق القانون: «المرضُ في بلدانٍ كثيرةٍ ليسَ فرصةً لتأمل نعمة الحياة والصحة والوجود برُمّته، وإنما لتعميق إذلالِ الكائنِ واستعبادِهِ وقتلِه: إنّه المرآةُ الأكثرُ مأساويّةً لانحطاطِ أوضاعِ القانونِ والاجتماع والأخلاق». (ص26).

وعلى هذا النحو، يفتِّشُ سيف الرَّحبي عن تخفيف حدَّة العلاقة بينه وبين الوجود، باحثًا عن غناء ما يرافقه وهو يخرق حجب الوجود في تلك العتمة المسيئة. ها هو يصادق الزِّيز، واليمام، والصُّفرد، والسُّنونوة، واليمامة والبابو وطائر الطُّوفان في حركة تدلُّ على تكوين رمزيَّة عالية من اهتمام سيف الرَّحبي بالكائنات الرُّوحية التي تؤخذُ في الرمز بكونها طائرة.

وكان أوَّل ما أثار انتباهي في هذا الكتاب تلك الجملة العجيبة التي يستوفي فيها صورة الأسماك في الصحراء قائلًا: «ناعسةً تسبحُ السَّمكة في الأكواريوم، وبقفزةٍ رشيقةٍ تجد نفسَها في المحيط الهادئ. عاصفةٌ على جناحٍ متعب» (4)، وفي مقطعٍ آخر: «الصَّبيّة، الطفلةُ حين نزلت الماءَ لأوّل مرةٍ/ افترَّ ثغرُها العذبُ عن بهجةٍ وحبور/ (إنَّها ليست لوليتا، فليس مِن ملامح شبَقٍ مبكّر، بل براءة مطلقة)/ ظلّتْ تسبحُ كتلك السّمكة في الأكواريوم حتى اختطفها نسرُ الخيال محلّقًا بها إلى فضاءاته الشاسعة/ توقَّفت الصَّبيَّة الطِّفلة بُرهةً عن السِّباحة والحَركة كمن يعود إلى ذاته البعيدة/ حدّقتْ في أمّها، شجرتها الأرضيّة التي تلوذُ بها من هجيرِ الصّحراء/ في ذاتِها البعَيدةِ زائغة كأنما تعودُ من أسفار نسرها السعيدة. عاصفةٌ على جناحٍ متعب». (7)

العدم الأزرق

يتشبَّثُ سيف الرَّحبي بالماء في كلِّ حروبه التي يخوضُها، فهو وإن جاب المعمورةَ كلَّها، لا تفتأ نفسُهُ تجلسُ أمامَ فجِّ ماءٍ بقرية سرور لتغمسَ رجليها فيه مستمتعةً بتلك البرودة التي تنبئ عن نهاية الوقائع والكرائه أخيرًا. ولنتوقَّف في هذا المقال، على سبيل الحصرِ لا الاستثناء، على مفهوم الأكواريوم وعلاقته بالنَّفس الإنسانيَّة لعلَّنا نستدرج في ذلك معًا طريقةً لفهم تصوُّرات سيف الرَّحبي الشِّعريَّة.

تعتبرُ الأكواريوم الطَّريقة المثلى التي تمكِّنُ الإنسان من الاحتفاظ بالأسماك حيَّةً في بيته، كما تمثِّلُ أيضًا طريقةً تبعث الإحساس بحيوية الكينونة المائيَّة وسط فضاءٍ مخصوصٍ بالكينونة التُّرابيَّة. لنتخيَّل دهشة الإنسان عندما رأى الأكواريوم لأوَّل مرَّة، إنَّها حالة يصطدمُ فيها الإنسان أمام لوحةٍ فنيَّة متحرِّكة داخل فضاء زجاجيٍّ شفَّافٍ مغلق، حيث الحركة الوحيدة داخلها تنبئ بحيوية صارمةٍ داخل المكعَّبات، إنَّه توجيه حقيقيٍّ للعقل نحو أبعادٍ جديدة في النظر، حيث الكشف أخيرًا عمَّا يحدث في ذلك العمق الذي لا نؤتاه إلا بالغوص المتقن.

ولقد أثارت فكرة الأكواريوم عند الفلاسفة والفنانين إشكالًا أساسيًّا. في كتابها المذهل، الأكواريوم الآلة (Machine-Aquarium)، تقدِّم كليليا نو-Clélia Nau قراءة دقيقة لأعمال الفنّان الفرنسي كلود مونيه انطلاقًا من مفهوم برك الماء التي حوَّلها إلى حقيقة فنيَّة ذات يقينٍ لا يُناقَش. فالأكواريوم هي استنساخ لصورة البحيرة الغامضة، التي تسمح بأن نرى فيها أمامنا مستوياتها جميعًا بوضوح. إنَّ الأكواريوم تعرِّي غموض البحيرة والبحر الذي سمَّاه سيف الرَّحبي بالعدم الأزرق.

ومن يتأمَّل البحيرات، فإنَّه لن يرى إلَّا مستويَين: مستوى سطح البحيرة الذي لا يعمل إلا على عكس صور الضوء والسماء عليه، ثم صورة العمق قليلًا، حيث تبدأ البحيرة في التَّحوُّل شيئًا فشيئًا إلى لون أخضر مع اقتراب العمق من القاع، ثم مستوى القاع الذي يبتعد في سواده الكلِّي عن قدرة العين في النَّظر إليه. تعبِّر هذه المستويات الثلاثة عن واقع النفس، فهي تملك سطحًا قد أثَّر فيه العالم الخارجي، ثم سطحًا عميقًا، ثم سطحًا باطنيًّا يصعب تكشُّفه أو الكشف عنه.

على هذا النحو، سنحاول الدُّخول مباشرة في حوار مع سيف الرَّحبي بشأن السَّطح الأعمق، لنتكشَّف ذلك اللَّاوعي الجماعي المتخفِّي فينا. ولنعد إلى المقطع الذي ذكرناه سلفًا في ذكر تلك الطِّفلة التي نزلت الماء أوَّل مرَّة، فابتهجت، ثم بعدما سبحت قليلًا داخل الماء في سطحه الثاني اختطفها نسرُ الخيال محلِّقًا بها، ثم في حالةٍ من الصَّدمة، غاصت نحو السَّطح الثالث، (في ذاتِها البعيدة)، لتكتشف شجرتها الأرضيَّة التي يعتبرها سيف الرَّحبي أُمًّا لها- للطِّفلة.

الصبية الطفلة والفكرة

كيف يمكننا، قبل أن نتوضَّح السَّطح الأخير، تفسيرُ هذه الحالة السّرياليَّة لكائنٍ سمَّاه باسمين: الصَّبيَّة- الطِّفلة. ما المقصود بهذا الكائن؟ سيكشف استقراؤنا لأعماله الكاملة عن إدغام دلالتين في المفردة، فبينما تفيد مفردة طفلة بصيغة نكرة نقيض طفل، فإن المفردة معرفةً تفيد التَّطفُّل.

في الجزء الثالث من أعماله الكاملة يستخدم سيف الرَّحبي مفردة طفلة بالكسر في صيغتيها النِّكرة والمعرفة بين «وطفلة تبتسم على منحنى زقاق في بلاد مجهولة الاسم والهويّة». (ج3 -168) وبين «عرف الأب أنَّ تلك النظرات الطِّفلة، نظرات حنانٍ ربَّانيِّ فريد». (ج3- 117) فأمَّا النكرة في الأولى فقد أفادت معنى الصَّبيَّة، وأمَّا المعرفة في الثانيَّة فقد أفادت تركيبًا ما يوحي به نعتُ النظرات. ودون جلد النَّص للاعتراف بأولوية التُّراث وسلطته على التَّعبير الحديث ولا سيما في التَّمييزِ بين طَفلٍ وطِفلٍ، فهل يمكننا فهمُ هذه المفردة على أساس كونها تفيد التَّطفُّل؟ للإجابة عن هذا السُّؤال، سنعود أدراجنا ونحن دائمًا في الجزء الثالث، حيث نجد قولَه: «(…) وهذا، ما تشي به النَّظراتُ الطِّفلةُ» (ج3- 68). تعود مفردة النظرات الطِّفلة كأنَّها تريد أن تحدِّد المعنى في اقترانه بالوشاية، فالوشاية تعقب التَّطفُّل، لا الطُّفولة. وسنستنتجُ ههنا حقًّا أنَّ المراد بالطِّفلة هو التَّطفُّل. ويكون المعنى أن الصَّبيَّة إنَّما أرادت السِّباحة في الماء من باب التَّطفُّل لا من باب كونها طفلة.

وللقيام بتحقيق في هذه الشخصية الغامضة، التي تظهر مثل ذلك اللغز في الأفلام الأميركية الحديثة، فإن العودة إلى شعر سيف الرَّحبي يفرض نفسه كبابٍ لا مناص من الدخول عبره، وسنجد حقًّا مقطعًا يزيحُ كثيرًا من الألغاز، فها هي الشخصية الغامضة تعود من جديد مرتبطة بالماء وبالبحر وبالصيادين، حيث يتساءل الشاعر عن مصدر وجودها: «طفلةٌ تركضُ حافيةً على الشاطئ/ تصطدمُ بالسَّواري، بالألواحِ/ (…) من أينَ بزغَتْ هذهِ الطِّفلةُ الشعثاءَ/ الجميلة؟/ هل لَفَظَها البحرُ/ أمِ انفجَرَتْ من حُلُمٍ عنيفٍ لأحدِ الصيادينَ/ (…) الصبيّةُ تركضُ في العراءِ/ ترتَطِمُ بسماكةِ الفراغِ/ فتسقطُ جثةً هامدةً». يكاد يعبِّر هذا المقطع عن واقعٍ غريب يحيط بذهن سيف الرَّحبي، وهو يتساءلُ: من أينَ بزغَتْ هذهِ الطِّفلةُ التي تركضُ بشعرها الأشعث الأغبر جرَّاءَ سفرها الطويل؟ هل هي ما أسفر عنه البحر، أم مجرَّد بنتٍ من بناتِ أحلام الصيادين؟

في مقطع آخر وهو نصٌّ طويلٌ جدًّا، تقترب الصُّورة أكثر من أذهاننا، وسنعثرُ حقًّا على أنَّ اقترانًا يكاد يكون متلازمًا بين البنت والبحر، الذي يسميه أيضًا بالمعشوق الأزلي. وها نحن عندما نوغلُ بهدوء وبدون قلق في نفس سيف الرَّحبي، سنجد أنفسنا حقًّا مقتنعين بأن الصَّبيَّة ليست في الواقع سوى ما يعطينا الماءُ-البحرُ إيَّاه، إنَّها مولودة الذهن وواردة النفس تجوبُ عالم الشاعر الداخلي وتصرخ، وتسبح، وترتطم، وأحيانًا تموت وهي في عنفوانها. في هذا العدم الأزرق، تتأتَّى الفكرة عند سيف صبيَّةً متطفِّلةً على الوجود.

إن الإقرار عندنا بأن الصبيَّة هي الفكرة وليست النفس في علاقتها بالوارد الذي يُؤتينا إياه البحرُ هو ما ينبغي أن ندافع عنه ونحن ندرس شعر سيف الرَّحبي. ففي شعره كلِّه، يناضل الشاعر من أجل الخلاص في الماء، في مقابل تلك الأرض النارية التي تبعث فيه الخوف باستمرار.

يمثِّل النَّسرُ المستوى الثاني من تطور الفكرة المائية في تشكُّلها الأسطوري، وقد استخدمه الكيميائيون العرب في شكل العقاب الذي سيمنح في الأخير الطِّفل السيِّدَ العقلَ الكامل. يقول ابن أرفع رأس عنه في ديوانه شذور الذهب مثلًا: «فَقُصَّ جَنَاحَيْهِ بِرِفْقٍ، فَإنَّهُ/ إذَا قُصَّ عَنْهُ الرِّيشُ صَارَ عُقَابَا/ وَطَيِّرْهُ بَعْدَ القَصِّ، وانْصِبْ لِصَيْدِهِ/ شِبَاكًا تُسَمَّى في الرُّموزِ قِبَابَا/ تَصِدْ مِنْهُ طِفلًا كَامِلَ العَقْلِ سَيِّدًا،/ وَلَكِنَّهُ إنْ ضِيمَ لَا يَتَغَابَى».

إنَّه رمزٌ كيميائيّ حيٌّ للغاية ويشعُّ بمعانٍ متعدِّدة. وعندما يمثُل، كما نجد ذلك في رؤية الحالمين، فإنه يقودنا كدليل إلى نوع من الحدس المبهر، إنه ينقل الطاقة اللازمة حتى تستطيع الأفكار التحليق. والنسر عند كارل يونغ يملك إحساسًا يدعم ذلك الفكر الواعي من جهة، ويعمل على بناء علاقة من التعاون مع اللاوعي. ولذلك، فإن الشُّعراء كلَّهم وغيرهم أيضًا يتقمَّصون صورة النسر لأنه -في فكرهم الواعي- يستكمل الإنسان الذي لا جناح له، من جهة، ومن جهة أخرى، يوضِّح لهم -في لا وعيٍ جماعيٍّ كامل- كيفية الطيران والارتفاع إلى الأعلى، معبِّرًا بذلك عن طموحٍ يسمح للشُّعراء بتوسيع دائرتهم الخيالية.

ولا نستغرب هذا الشُّعور، إذا عدنا حقًّا للتَّأكُّد، ونحن نقرأ في شعر سيف الرحبي، أن الفكرة الحالمة هي نسرٌ مكسور الجناح، أو فيما إذا كان قد استطاع التحليق بعيدًا، لن يصيبَ إلَّا بلادًا مستحيلةً حقًّا. يقول: «حَلَّق النسرُ في سماءٍ مُقفرة من النجوم يُطاردُ غيمةً في حقولِ خيالِه المُعشبة، غيمةً ستمطر بعيدًا في البلاد المستحيلة». «عاصفةٌ على جناح متعب» (15). ويقول في مقطعٍ آخر: «حلَّقَ النسرُ دهرًا بين السماواتِ والأنجم والكواكب، حتى لامسَ (كما كان يحلم)، بعد ابتلاءاتٍ ومِحنٍ، بجناحهِ السماءَ المتلألِئةَ بالملائكة والرغباتِ التي كان مخطوفًا بسحرِ نُورها المُدهش./ وحين عاد خاليَ الوِفاض خائبًا من رحلتِهِ الشاسِعَة، أدركَ أن التحليقَ والسِّباحةَ في الفَضاءِ اللانهائي، هو الجَمَالُ والحُلمُ والغايةُ بعد ارتطامِهِ الأخير». «عاصفةٌ على جناح متعب» (42).

وإذا اتفقنا على أن النسر كما هو عند الكيميائيِّين رمزٌ للحُلم، وعند سيف الرحبي رمزٌ للجمال والغاية، فإنَّه سينتهي في الأخير بالارتطام، كما أوصى بذلك الكيميائيُّون، فالنسر لا بُدَّ أن يأكل جناحيه؛ لذلك سيسمُّونه بالذات المشوَّهة، إلَّا أنَّه، لن يرتطم حقيقةً، في مقطعنا المعني بالدِّراسة، فهو إذ يحلِّق بالصبيَّة عاليًا، سيسافر بالفكرة إلى فضاءاته الشاسعة؛ لأن الفكرة بعد تحقُّقِها أوَّل الأمر، في تماسٍّ مع الماء، ستتحوَّلُ إلى مستجيبةٍ للتحليق في الأحلام.

إنَّ توقُّف الفكرة عن الحركة وهي على جناح نسرٍ يرتفع بها في الخيال، سيجعلنا نصطدم أخيرًا بالسَّطح الثالث والعميق، وهو سطح الشجرة الأم. فمن الماء إلى الحلم إلى الشجرة، تتجلَّى ثلاثة مستوياتٍ حقيقية تخوضها الفكرةُ بشكلٍ صريحٍ في نفس سيف الرَّحبي.

وإنَّه لمن الغريب حقًّا، أن تتقاطع هذه الطِّفلة مجدَّدًا بالشَّجر في قعر المحيطات، في مقاطع مختلفة من أعماله الكاملة، يقول: «في رؤياك الأخيرة: ابن عربي/ يسرِقُ قُبّعةً/ مِنْ طِفلةٍ/ ويتغذى مِنْ لُهاثِ الشَّجرِ الطالعِ/ مِنْ قعْرِ المحيطات». (الأعمال الكاملة- 1: 116)

فما علاقة القبَّعة المسروقة من طفلةٍ، وما علاقة ابن عربي وهو يتغذَّى من الشَّجر الطالع هو أيضًا من ذلك السَّطح العميق المتخفِّي في قعر المحيطات؟

الشعر إلهام ورؤى

يدفعنا سيف حقيقةً إلى إدراك وعيٍ شعريٍّ متكاملٍ عنده، وهو يتحدَّث في جزئيَّةٍ فكريَّةٍ عن ابن عربي. ممَّا يدفعنا إلى القول: إنَّ الشِّعر عنده ليس إلهامًا، وإنَّما تحقيقٌ لرؤى قديمة اتَّفق أن تنضج من جديد حداثيَّةً ومفعمةً وعميقة وفي هيئةٍ أخرى أيضًا في كتاباته. فمن ابن عربي بالنِّسبة له؟ إنَّه الفكرة المحلِّقة هو أيضًا، الباعثُ على المخيِّلة الشِّعرية والمعرفيَّة. نقرأ قولَه: «ابن عربي الذي كتب أيضًا عن الانفصال والترحل عن المحيط الخانق عبر السَّفر في الرُّوح والأمكنة في المرئي واللَّامرئي، والكتابة عن هذه الأسفار فيما يشبه التوثيق الباطني، يمكن أن تكون أحد الأدلة الكبيرة في بحث المخيِّلة الشِّعرية والمعرفة». (الأعمال الكاملة- 1: 9)

وبدون الدُّخول في المفهوم الأنطولوجي لقصة الشجرة الأولى، فإن الشجرة، وبحكم كونها نباتيَّة، أطلِق اسمُها رمزًا على مادَّة حجر الفلاسفة (الإكسير). وتعتبر شجرةُ الفلاسفة العظيمة زئبق الكيميائيِّين، وصبغتهم؛ وهي عند الكيميائيِّين العرب دهنهم، فبها يُصنع الذهب. ولنتذكَّر ذلك الزَّيت المضيء للزَّيتونة الوسطى كما يصفه ابن أرفع رأس في قوله [23: 1]: «بِزَيْتُونَة الدُّهْنِ المُبَارَكَةِ الوُسْطَى/ غَنِينَا، فَلَمْ نُبْدِلْ بِهَا الشِّيحَ والخَمْطَا».

أو كما قال في قصيدة أخرى [5: 6]: «بِهَا شَجَرٌ لَا يُنْبِتُ الدُّهْنَ غَيْرُهَا/ فَلَا صِبْغَ إلَّا مَا حَوَتْ شَجَرَاتُهَا». وإذا كان قد رمز الكيميائيُّون العرب إلى الشجرة بكونها دهن الحياة، فالماء لا يعدو أن يكون هو أيضًا كذلك. وسنكون في الواقع، ونحن نتحدث عن الشجرة الأم، في جدالٍ حقيقيٍّ مع الفكرة وهي بين مستويين: مستوى النُّشوء ومستوى التركيب، فأمَّا النُّشوء فهو دخولها الماء في صورة صبيَّةٍ تسبح، وأمَّا التَّركيب، فهو وصولُها عائدةً إلى الأم، عالم المثال، الشجرة الأولى، تلك التي لا شرقيَّة ولا غربيَّة.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *