المقالات الأخيرة

صناعة النخب

صناعة النخب

لا شك في أن «النخب» بما يتوافر لها من قدرات ذاتية مدعومة بالتميز الفكري والثراء المعرفي، وبما تملك من أدوات التأثير والاستنارة، فئة موجودة في كل المجتمعات والثقافات، ومتجذرة في تاريخ الشعوب والحضارات منذ القدم، وهي مطلب قائم ودائم ومتجدد، وصناعة ضرورية لكل مجتمع ولكل...

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

جاك دريدا قارئًا أنطونان أرتو

كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

اليوتوبيا ونهاية العالم… القرن العشرون صحبة برتراند راسل

في 26 أكتوبر 1931م، كتب الفيزيائي والرياضي إدموند ت. ويتاكر، الأستاذ في جامعة إدنبرة، لابنه انطباعاته عن كتاب برتراند راسل الأخير «النظرة العلمية». نقتبس منها ما يلي: «يبدو الآن أنه بدأ يخشى من «المنظمة العلمية للإنسانية» (نوع من الدولة البلشفية بقيادة جي جي [طومسون]...

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم

يلاحظ المهتم بالأدب الروسي أن معظم الكتّاب الروس الكبار خاضوا في ميدان الكتابة للأطفال، بدءًا من شيخ كتّاب روسيا ليف تولستوي، الذي أغنى مكتبة الأطفال وقدم كتبًا لمختلف الأعمار، هي عبارة عن حكايات شعبية وقصص علمت الحب، واللطف، والشجاعة والعدالة. نذكر منها «الدببة...

الأدب والفلسفة

الأدب والفلسفة

هناك طريقتان للتعامل مع مشكل علاقة الفلسفة بالأدب: الطريقة الأولى، طبيعية تمامًا، وتتمثل في البحث عن الدروس الأخلاقية التي يقدمها الأدب من خلال الشعر والرواية مثلًا، وذلك ما قام به أندريه ستانغوينيك في كتابه «La Morale des Lettres» (أخلاق الحروف)، وأيضًا مارثا...

«أُمّة على رِسْلِها» لمها الفيصل… تحليل رصين ونقد جريء

بواسطة | نوفمبر 1, 2023 | مقالات

كتاب «أُمّة على رِسلِها: تأملاتٌ من بلاد العرب» للباحثة مها محمد الفيصل، نظرات ثاقبة في جملة من القضايا التي تشغل الفكر العربي -والإنساني- اليوم، وسَعْيٌ إلى استشراف الآتي. تقرؤه فتقع في أَسْر تحليلاته الرصينة ونقده الجريء. يحاورك بأسلوبه السلس في الاحتجاج للفكرة تاركًا في نفسك صدًى وفي عقلك أثرًا، حتى إنِ اختلفتَ مع صاحبته في تصورها لبعض القضايا.

والجدير بالإبراز بدءًا، أن الباحثة مها محمد الفيصل -بهذا الكتاب وبما يبشر به من مسار فكري واعد- ساهمت في تغيير الصورة النمطية للمرأة العربية المبدعة التي لا يكاد إبداعها يتجاوز مجالات الأدب المتعارَفة، وثبتت قدميها في مجال طالما عد اختصاصًا ذكوريًّا، وهو التدبر في القضايا والاختيارات الكبرى للمجتمع بالنقد ورسم معالم البديل. طريقها إلى ذلك فَتْحُ حوارٍ وصَفته -بـ «خطاب عاقل خلاق» (ص 104)- ينضج هذه الاختيارات، ويكون فيه لصوت المرأة صدى، ولا سيما أنها القائلة عن كتابها هذا: «هذه الأوراق تسعى إلى أن تكون مبادرة نحو فتح الحوار عن الحضارة العربية، انطلاقًا من منظور أهل بلاد العرب. فهذا حقنا، وتلك مسؤوليتنا» (ص 141).

في منهج الكتاب

قبل أن نعرض لمحتوى الكتاب ولما يقدمه من أطروحات، نرى من الحري أن ننوه بالمنهج الذي اتبعته في مختلف الفصول. هو منهج علمي حجاجي يفيد من المداخل اللسانية والاجتماعية والتاريخية التي توفر حججًا قوية في الاستدلال على الفكرة. فقد أخضعت -بالانطلاق من «حفريات شديدة الدقة» وفق عبارتها- مختلف المصطلحات والمفاهيم المتداولة في الفكر العربي والفكر الإنساني لدراسة معجمية وإيتمولوجية تتبعت من خلالها التحولات الدلالية التي طرأت عليها. واستثمرتها في دعم مواقفها ومجادلة مواقف مخالفيها بالحجة والبرهان. ومن هذه الناحية جاء نقدها للمفاهيم وكشفها عما تبديه وعما تحجبه من دلالات، متفاعلين مع ما أقرته فلسفة الخطاب اليوم من أن «نظام المفاهيم يكرس رؤى أو مواقف فكرية مخصوصة»، وأنه «في مرآة اللغة يمكن أن نتعرف على رؤى الشعوب للعالم، وخاصة على تشكل ثقافتهم». وفي المدخل الاجتماعي، اعتمدت على معطيات وحقائق اجتماعية في السياقين العربي والعالمي متخذة منها شواهد حية على أطروحاتها، ومؤكدة العلاقة الوطيدة بين كتابتها والقضايا التي تشغل الوعي والواقع العربيين. أما المدخل التاريخي فقد أبدت من خلاله اطلاعًا واسعًا على تاريخ الشعوب التي عرضت لعلاقتها بالمجتمع العربي، وهو ما مكنها من نقض كثير من السرديات الزائفة والمتداولة التي شكلتها أيديولوجيا المركزية الأوربية خاصة.

في عنوان الكتاب ومباحثه

بالانطلاق من هذا المنهج الشامل والمتعدد المداخل، عالجت الباحثة جملة من القضايا والمسائل ذات البعد الحضاري العربي خاصة، والإنساني عامة.

وجاء عنوان الكتاب مختزلًا للتصور الذي تضعه الباحثة لنهضة المجتمع العربي، ولنجاة «الإنسان» من مآزق حضارة مادية كاسحة أضعفت أبعاده الأخلاقية والروحية السامية، وأضاعت بوصلته في الوجود. ففي قسمه الأول «أُمةٌ على رِسْلِها»، تبرز صورة أمة العرب وهي تسير -أو يجب أن تسير- في طريق تقدمها بتؤدة وتمهل حتى لا تقع في أخطاء الطموح المتسرع إلى تحقيق نتائج مادية عاجلة، قد تحقق فائدة سطحية، لكنها تزج بالإنسان العربي في متاهات خطرة تُضيع توازنه وتُفقده معنى وجوده.

و«الرِّسْل» في «لسان العرب»: من قولهم «افعل كذا على رِسْلِك، أي اتئد فيه. وفي الحديث: قال النبي على رسلكما، أي اتئدا ولا تعجلا، يقال لمن يتأنى ويعمل الشيء على هينته». ومن الدلالات المعجمية أيضًا للجذر «رسل»: «السعَة والخِصب ولين العيش»، وهي دلالات تتناسب مع النتائج الممكنة للتمهل والتدبر في إنجاز العمل. أما العنوان التفصيلي الفرعي وهو «تأملات من بلاد العرب»، فكلمة «التأملات» فيه تكشف عن طبيعة هذه الكتابة: إنها لا تنضوي شكليًّا ضمن البحوث الأكاديمية الموجهة إلى النخبة، بل هي -على عمق طرحها للقضايا- تتجه إلى شرائح ثقافية واسعة، وتُخرِج قضايا الإنسان العربي من برج عاجي حصرها فيه «المثقف الحديث»، إلى ثقافة التداول التي تؤثر في «إنسان كل الفصول». فالباحثة تكتب مستحضرةً واقعًا عربيًّا متأزمًا فشلت فيه كل الوعود الأيديولوجية، هو «هذا الجو المشحون، الممتلئ هزيمةً ودمارًا وبشائر لأكثر من فجرٍ كاذب، مصحوب بغياب تام للندم على عدم محاسبة النفس» (ص149). ويأتي ظرف المكان «من بلاد العرب» بكل ثقله الدلالي المتصل بخصوصية المكان في مختلف أبعادها، ليؤكد اعتدادًا بالذات، وحرصًا على تحقيق خيرها، مع الانفتاح على الآخر والسعي إلى رفع العلاقة معه من مستوى السلبية إلى مستوى المشاركة في التفكير وتحديد الآتي. لقد أتاحت «عبقرية المكان» للكاتبة إبداعَ تصورٍ منطلقه عربي-إسلامي وهدفه المساهمة في حل المآزق التي تردى فيها الإنسان العربي والإنسان الحديث عمومًا.

من حيث المضمون، يحتوي الكتاب على اثني عشر مبحثًا؛ كلٌّ منها يعالج جانبًا من قضايا الحضارة العربية في علاقتها بسائر الحضارات التي اتصلت بها تأثرًا وتأثيرًا. وفي مقدمة هذه الحضارات الحضارة الأوربية الليبرالية والمعولمة، التي صاغت نموذجًا «ماديًّا» للتقدم هدد جوهر الإنسان. وتضمنت هذه المعالجة اقتراحَ آفاقٍ للانعتاق تتيحها المنظومات القيمية والأخلاقية السامية التي يمثل فيها الدين معينًا لا ينضب. وهذه المباحث هي: «حضارة العرب وارتباك المرجعيات»، و«صناعة الفرد السيكولوجي»، و«الكلمة الحية والكلمة الشبح»، و«الثقافة الحية والثقافة الميتة»، و«الحاجة إلى حضارة»، و«ثقافة مرتبكة»، و«الأنسنة والفصام التأويلي»، و«أورُبا تلك الأميرة المخطوفة»، و«العرب هم ورثة العالم الهيليني»، و«مَن سرق مِن العرب حضارتهم؟»، «وحضارة عربية إسلامية»، و«العرب ترجمان الحضارات». ونظرًا إلى تكامل هذه المباحث وتقاطعها أحيانًا في عدد من القضايا، ونظرًا أيضًا إلى ما يقتضيه المقام من ضرورة الإيجاز، اخترنا أن نبرز من هذه القضايا ما هو محوري جامع، وبشكل تأليفي قد يفي بغرض التقديم.

مبحث المرجعيات

في مقدمة قضايا الكتاب، قضية العرب ومسألة المرجعيات، التي أبرزتها الباحثة في معادلة «المصالحة مع النفس والتخلص من الاغتراب». فقد حللت مظاهر الاضطراب الذي حل بمرجعيات الانتماء في المجتمع العربي المعاصر، معيدة إياها إلى ما قام به دعاة التغريب من محاربة المرجعيات الموروثة الضامنة لتوازن المجتمع ماديًّا ومعنويًّا، ومِن تَبَنٍّ غير مشروط لمرجعيات أيديولوجية وافدة في معظمها. وبينت كيف تسببت هذه الأيديولوجيات في تحول مسألة الانتماء من إطارها الطبيعي والفطري (الأسرة والقبيلة الرشيدة) إلى إطار مصطنع أيديولوجي هدد التوازن الاجتماعي وقيم التعايش السلمي. فالجماعات المؤدلجة- من قبيل تلك التي تلتزم بالأيديولوجية القومية أو الشيوعية أو أيديولوجية الإسلام السياسي (الذي تعدُّه الباحثة عن صواب «تجليًا حداثيًّا محضًا في أبشع صورة، وإن تغلف في مفاهيم مثل الخلافة، ولبس العمامة» ص 89)- تفرض فكرًا واحدًا منغلقًا أساسه التشبث العنيد بالحقيقة التي ترسمها أيديولوجيتها. وفي المقابل تمثل الوحدات الطبيعية -مجسدةً في القبيلة الرشيدة- إطارًا جامعًا يضمن التوازن في العلاقات ولا يقضي على التعددية الفكرية داخله، فضلًا عن كونه يضمن «الإذعان الداخلي لنسق أخلاقي موروث» لا يتعارض مع القوانين الوضعية للدولة؛ بل يعضدها محققًا التناغم بين مرجعيتَي العرف والقانون.

ونبهت الباحثة إلى أن الخطير في غلبة المرجعية الأيديولوجية هو تأسسها على أنقاض «الأسرة والدين والقبيلة والوطن» من حيث سعيها إلى بتر الذاكرة الجمعية وإلغاء الحاضر من أجل تكريس أطروحات جماعاتية ضيقة رافضة للتنوع. وعندما يصبح الإنسان رهينًا لها، يصبح أيضًا مرجعًا لذاته ولرغائبه، وينفلت من عقال التوجيه القيمي السامي الذي يوفره الحس الديني والحكمة المتوارثة داخل البنى الطبيعية للمجتمع (الأسرة والقبيلة الرشيدة). و«من لا يعرف تاريخه يشبه تمامًا الذي يفقد ذاكرته، فكيف لمن فقد ذاكرته أن يبني نسقه القيمي إذًا؟» (ص 218)، كما تقول الباحثة.

من هذا المنظور نادت بـ«وجود مرجعية فكرية أصيلة متينة، ذات بناء أخلاقي روحي مقنع، وتجليات ثقافية حضارية رصينة، كان يمكن أن يكون لها الدور المؤثر في كبح جماح نشوة التغلب للمادية العالمية الحديثة، على الأقل في بلادنا العربية» (ص 115). وأوضحت في إطار دراسة لسانية-اجتماعية، كيف يفرض المثقف المؤدلج لغةً تحدد دلالات الكلمات والمفاهيم التي تشكل وعي الإنسان الحديث، وكيف يجعلها سطحية وجامدة ومنافية «للمرجعيات التقليدية». وهذا ما يمثل «الكلمة الميتة» في تقديرها، في مقابل «الكلمة الحية» ذات الدلالات العميقة الراسخة في الذاكرة، وهي تلك التي تحيل على لغة الوحي ولغة الشعر «المستقاة من أنساق ثقافية عتيقة». وتنتهي الباحثة إلى أن الأنساق اللغوية تعكس رؤى كونية متنوعة، وإلى أن اللغة الأم تحتوي على «أنساق فكرية بديعة وعبقريات متوارثة»، والتفريط فيها -إما بإهمالها أو بالهجرة إلى لغة أخرى- هو تفريط في هذا العمق والثراء الدلاليين اللذين يختزلان تجربة ثقافية-اجتماعية فريدة.

مبحث القيم

وقد أَوْلَت الباحثة المسألة القيمية اهتمامًا خاصًّا رفع كتابتها إلى مصاف الفلسفات الأخلاقية المعاصرة التي افتتحت مفهومًا اجتماعيًّا جديدًا هو «المجتمع المابعد-علماني» الذي يتضافر فيه العقل والدين من أجل مصلحة الإنسان والخير العام، والذي ينظم الحوارُ العلاقاتِ بين مكوناته. فقد تحدثت كثيرًا عن المفاهيم الحديثة المحددة للإنسان ذي البعد الواحد، وهو البعد المادي-الجنسي، وبينت حدودها وأخطارها في مقابل المزايا العديدة التي توفرها «الثوابت الدينية الأخلاقية».

من هذه المفاهيم مفهوم الفرد السيكولوجي، وهو ذاك الذي يعطي زمام وجوده «للحلول العلاجية السيكولوجية» ويستبعد الحلول الدينية التي تسمو به من حضيض المادة و«البهيمية». وقد حللت مفهوم الفردية الغربي الذي يحيل على «فردية سياسية مصطنعة نمطية» ومخالفة للفردية «الطبيعية الثرية والحقيقية»، وبيّنت ما ينتج عنه من انفلات «الحرية» من كل الضوابط القيمية، ومن إضعافٍ لإمكان «اندماج الفرد في مجتمعه»، ومن إلغاءٍ للمجتمع أمام بروز الفرد و«تأليه الذات». وفي غياب ضوابط رشيدة للحرية قد يصل الأمر إلى التحرر من الطبيعة البشرية نفسها (مثال ذلك مسألة التحول الجنسي)، وإلى إلقاء الإنسان في الضياع وفي اللامعنى اللذين يوقعانه في دوامة الدمار والتدمير الذاتي. على هذا الأساس أبرزت دور القيم في تهذيب سلوك الفرد وخَلق تناغم بينه وبين محيطه الاجتماعي، وبخاصة إذا ما كان لهذه القيم عمق روحي وتاريخي يضمن التوازن المطلوب في الإنسان فردًا ومجتمعًا.

في خصوصية المكان والثقافة

تظل قضية العلاقة بين العرب والغرب، القضيةَ «المزمنةَ» التي شغلت -ولا تزال- الفكرَ العربي؛ لذلك عادت إليها في أكثر من سياق من كتابها، بحس جديد، ومن زاوية جديدة، زاوية «المتأملة» الثابتة القدمين في «خصوصية المكان» الذي تشدها إليه قوة الانتماء. فجاءت معالجتها توليفةً ذكيةً بين الاعتداد بالذات والانفتاح على الآخر انفتاحًا نقديًّا يرد صلفه ويفضح ادعاءاته من ناحية؛ ومن أخرى، يعترف له بما حقق من إنجازات ويقاسمه التفكير في إيجاد حلول تحقق خير «الإنسان» من منظور «بلاد العرب».

فقد بينت خطورة التجربة الليبرالية الديمقراطية الغربية التي تهيمن -عن طريق تقنيتها المعولَمة- على المجتمعات التقليدية التي يمكن أن يصل فيها الأمر إلى «سلب الفرد تاريخه وحريته ورشده، بل ومقدرته على التفكير» (ص 67). وحللت باقتدار التحولات الدلالية لمصطلحي «ثقافة» و«حضارة»، كاشفة عما يحجبه مفهوم «الحضارة» من خصوصيات السياق التاريخي الغربي الذي أنشأه والذي يجب أن ينسب استعماله في الحديث عن بقية الثقافات.

تقول الباحثة: «إن مغزى تناول هذين المصطلحين هو لأهميتهما في تشكيل نظرة أورُبا لنفسها ولغيرها» (ص 78). إنها نظرة حضارة مادية لا دينية تروم الهيمنة على «الآخر». وفي هذا الإطار قدمت كيفية الانتقال من عالمية الكنيسة إلى عالمية «الحضارة»، ومن التبشير الكنسي إلى التبشير بالحضارة (ص74)، مبينة أن ما سُمي «بوحدة المسار الحضاري الإنساني» يظل قرين الحضارة المادية الغالبة التي لا هدف لها إلا تحقيق «الفردوس الدنيوي». وكشفت عن النتيجة الحاصلة من وراء هذه العولمة، وهي كيف أن الحضارة تقتضي «تسطيحًا مبرحًا، بل وأحيانًا، إلغاءً لكل من حقيقة الجغرافيا واللغة والتاريخ والدين والذاكرة الجمعية لجميع هذه الثقافات المنضوية تحت تلك الحضارة التقنوعلمية»؛ لأنها تفرز مجتمعًا حديثًا لا دينيًّا يعاني «اللامعنى».

إلى جانب هذا البعد المُعولم في الحضارة، تناولت الباحثة بالدرس بُعدَها التقني، من حيث تأثيره في الثقافة السائدة خاصة. تقول: «لا توجد أي تقنية إلا ولها أثر على المسار الثقافي. بل يمكن القول: إن الوسيلة التقنية، في ذاتها وابتداعها وتقبلها في أي مجتمع، ما هي إلا نتاج لتحول فكري وأخلاقي» (ص56). ولما كانت مرجعية هذه الثقافة محدودة بأفق الإنسان، فإنها ثقافة محدودة ميتة، أي لا تعدو مرجعيتها أن تكون «من وحي أرضي، أفقي التمدد، كجثة هامدة.. وهذه تختلف عن مرجعية الثقافة الحية التي هي من وحي علوي رأسي».

نقد السرديات الغربية

غير أن هيمنة الحضارة الأوربية لم تكن تنهض بها التقنيةُ وتبعاتُها فحسب، بل كانت تنهض بها أيضًا سردياتٌ تُعلي من شأن مقوماتها الثقافية والدينية. هذا ما كشفت عنه الباحثة وهي تتصدى بالنقد لصناعة السرديات أو ما سمته بآليات «صياغة تاريخ فكري كامل» (95). فقد كشفت عن الخلل الذي يعتورها بأن عرضتها على المعطيات التاريخية والحقائق اللغوية، مؤكدةً أن «المقصد من هذا التناول لتاريخ الفكر الأوربي هو لعرض بعضٍ من التصورات التي بفضلها تشكل فهمنا لأنفسنا ومكانتنا في مصاف الأمم» (ص 104).

ومن المغالطات التي كشفت عنها، المغالطة المتعلقة بارتباط الإسلام بالعنف؛ إذ لم تَكتفِ بردّ هذا الاتهام الموجه إلى حضارة العرب، بل عكست الهجوم وأبرزت ما يسعى إلى السكوت عنه أصحابُ هذا الاتهام من «نقائص» في حضارتهم. تقول: «وما نسمعه اليوم من اتهام للحضارة الإسلامية بالعنف والقتل باسم الدين ما هو إلا نوع من الإسقاط التاريخي. فالكنائس الشرقية والمسلمون لم يوجدوا تنظيمات قضائية تشريعية مثل تلك التي أطلق عليها اسم محاكم التفتيش» (ص 88).

تقول: «ليس القصد هنا لومهم؛ لأن الغرض من هذا الطرح ليس في عرض خطاب مظلومية، ذلك الخطاب العاجز الذي يمثل الطرف النقيض لتحاور اللوجوس العاقل الخلاق. اللوم هو، في واقع الأمر، لوم أنفسنا، فكيف وصل الأمر إلى أن بات كثير من الشعوب التي، كان للعرب فضل كبير عليها، تأنف اليوم من ذكر ذلك، على أقل اعتبار، من باب الأمانة العلمية» (ص 105). ومن خلال بنية استدلالية متكاملة، تخلص الباحثة إلى ضرورة اعتراف الحضارة الأوربية بالدَّيْن الحضاري العربي، واعترافها بـ«الإرث العربي الإسلامي المنبث في عروقها» (ص ص 122- 123)، ليس لأن العرب هم وريث حضارة الإغريق والعالم الهيلينستي (ص133) فحسب، بل لأنهم أصحاب إنجازات علمية وحضارية تشهد بها وقائعُ التاريخ ووثائقُه.

ومن المغالطات أيضًا، تلك المتعلقة بإخراج العرب من المسار الحضاري للغرب عن طريق إنكار دورهم في نقل الثقافة الإغريقية، وإنكار الدور العلمي للعواصم الإسلامية التي مثلت منارات شمل نورها المجال الحضاري الغربي. فهذه المغالطة تتجاوز استتباعاتُها مسألةَ التأريخ ومدى صحته، إلى بث الشك في قدرة العرب اليوم على النهضة العلمية. وقدمت الباحثة في المقابل، أدلة عديدة على الحضور البارز للعرب وللثقافة العربية في منطلق الحضارة الغربية، رادة على دعاوى المتعصبين من الأوربيين وغيرهم، ومحملة في الوقت نفسه العربَ مسؤوليتهم على ما آل إليه أمرهم من الزج بهم في خانة السلبية.

من هذا النقد، وهذا الاعتداد بـ«الذات»، وهذا الاعتناء بالبعد الحضاري لـ«الآخر» الغربي، يتبلور إيمان الباحثة بقدرة المجتمع العربي على أن يحتل له مكانًا «تحت الشمس»؛ وذلك بالسير -بخطى ثابتة- في نهج لا يستنسخ بالضرورة اختيارات الحضارة المادية، بل يصوغ نموذجًا حضاريًّا مستلهمًا من «عبقرية المكان»، ويُثري من سائر النماذج ويُثريها في الوقت نفسه.
تقول: «حينما نحاول فهم ظاهرة الحضارة الغربية المادية الحديثة، غالبًا، لا نبحث في حقيقة جذورها الفكرية ومكوناتها العرقية. هذه التجربة الإنسانية، التي يمكن القول: إنها متميزة من كل ما سبقها. ولا يخطر ببالنا أنه قد يكون لنا -نحن العرب- منطق ومنطلق حضاري مواز ومختلف، وذلك على الرغم من التجاور الجغرافي والتداخل الحضاري والتقاطع الفكري. ومن الممكن لنا أن نثري، بل وأن نساهم في خلق توازن في مجال التجاذبات الفكرية
والحضارية» (ص 114).

إن ما قامت به الباحثة في هذا الكتاب من تثبيت الثقة في الذات وفي ماضيها، من شأنه أن يُعزز إرادةَ الخروج من الأزمة والنهوض نحو المستقبل. فالثقافة القوية بتراثها تمتلك من شروط الاستمرار والتجدد وتحقيق الإضافة ما يؤهلها لبناء حضارة بقدر ما تحافظ على الخصوصي المميز للأمة، وتتفاعل مع الإنساني المشترك أخذًا وعطاءً. غير أن هذه الثقة في الذات تظل في حاجة إلى أن تستند إلى وعي نقدي بالماضي يميز بين عوامل الدفع إلى الأمام وتحقيق أهداف الأمة ومقاصد الدين السامية، وبين عوامل الشد إلى الوراء التي لا يفعل بعثُها اليوم إلا أن يُعمق الأزمة في «بلاد العرب». وعلى الرغم من تصريحها بأن «مجرد طرح مفهوم مراجعة الماضي، بغرض الوصول إلى سردٍ مناسب، قد يبدو أمرًا مستحيلًا» (ص 149)، فإننا ننتظر منها أن تخوض في هذا المستحيل.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *