كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
سأعيد «مشاهدة» هذه الأغنية
أعادت سونهام تقديم القطة «رانو» إلى رشيد، واختفى القط «نايان».
سيرجع حين يألفك. علقت المعطف، ووضعت القبعة على الطاولة، وبيدين مدربتين نزعت الدبابيس والبنس وهزت رأسها؛ فانسابت الضفيرتان، وأزاحت القُصّة عن جبينها. واكتفت بقميصها الوردي من دون أكمام.
من دقة تنظيم البيت وترتيبه، أحس رشيد أنه في غرفة عمليات لجراح لا مجال للخطأ في عمله. كأنه يرى البيت وصاحبته للمرة الأولى، والفرح يقفز من عيني طفلة ترغب في إطلاع رفيقاتها على أغراضها وألعابها. بدأت سونهام بالصالة وفيها ماكينة خياطة، وسألها رشيد: متى اشترتها؟ قالت: إنها في مكانها منذ تزوجت، هدية من أمها، وليست مجرد أنتيكا، ولا تزال تعمل بكفاءة تناسب خياطة هاوية، تخيط ستائر وشراشف تهدي بعضًا منها إلى أمها وأختها وصديقاتها.
قادته إلى الحجرة الأخيرة. يتوسطها سرير نصفه مرتب، عليه بطانية بألوان جلد النمر، مطوية بعناية، وهناك بصمات يد حرصت على تسوية الوسادة، كشاطئ انسحبت عنه موجة. والنصف الآخر للسرير فوضى، بوسادة مكرمشة، وبطانية خرج من تحتها النائم، ورمى طرفها على البطانية المطوية، وفوقها بيجامة تبتلع أحد أكمامها. ولا شيء من أدوات الزينة فوق تسريحة متقشفة عليها زجاجتان من العطور، وثلاثة أمشاط؛ اثنان من الخشب، وثالث عاجيّ.
وعلى العكس من نصف السرير المهمل، كانت حجرة زوجها الدكتور فوزي مرتّبة. تحت زجاج المكتب صور في أدوار تمثيلية، وصورة عند الأهرام بجوار سونهام بصحبة زملاء في الجامعة. وفي منتصف المكتب كتاب عن لغة الجسد للممثل المحترف. وتقول جدران الحجرة: إنها لفنان تشكيلي يراعي جماليات الفراغ. تتقابل نسختان من لوحتين؛ الأولى «آدم وحواء» لمحمود سعيد، والثانية صورة لتمثال «المفكر» لرودان. والمكتبة الصغيرة تتكون من ثلاثة أرفف، مغلقة بزجاج متحرك، وأغلب محتوياتها بالإنجليزية، منها موسوعة تاريخ السينما، و«حياتي في الفن» لستانسلافسكي، وكتابان عن سينما فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي، وكتاب عن مسرح بيتر بروك. ومذكرات كل من شارلي شابلن وبونويل وفيلليني.
من النظرة الأولى لم يلمح رشيد في حجرة سونهام زجاجًا للمكتبة، أو كتابًا باللغة العربية. تتقابل نسختان من لوحتيْ «خلق آدم» لمايكل أنغلو، و«آدم وحواء» لألبريشت دورر. ويستأثر شكسبير بكتب متجاورة تزيد على عشرة، ويجاوره «الأرض الخراب» لإليوت، و«هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه، و«1984» لجورج أورويل، وكتب وموسوعات عن مصر القديمة. كل الكتب مرصوصة رأسيًّا، باستثناء كتب أفقية مدرسية. وتوجد صورة لفوزي يسند ذقنه إلى يده، في إطار ذي مسند خلفي، فوق مكتب أنيق يبدو أثرًا.
في الممرّ، سألها عن عطرها الذي حيّره. قالت: «أخيرًا سألت!». قال: إنه كلما همّ بالسؤال، شغلته بأمر آخر. قالت: إنها تصنعه بنفسها، تشتري الخامات، وتمزج المقادير. ولم تكن النتائج في البدايات تبشّر بهذه النتيجة، ومنذ استقرت على خصوصيته استغنت به.
– بخصوص المكياج والعطر نتفق تمامًا.
– نتفق في الكثير. راجع ذلك بحساب الزمن الطبيعي، وبحساب العمق، لتكتشف.
استعرضت سونهام محتويات المطبخ. هنا تقضي أوقاتًا حلوة، خلوة مع النفس، ومحاورة الروائح والمقادير الدقيقة. تصنع القهوة على نار هادئة، وتنشغل بأشياء أخرى وهي مستمتعة بالرائحة المتصاعدة، وتراقب نضجها على مهل. فأكمل رشيد أنه لا يحب أكثر من القهوة إلا رائحتها وهي تستوي في زمن أطول، وتملأ رائحتها المطبخ؛ فيشعر بالسكرة، ويتنشّق بخار الكنكة حتى بعد إفراغ القهوة في الفنجان. فرحت وقالت:
كأنك تصفني. نضيف القهوة إلى ما نتفق عليه، إلى المكياج والعطر!
فكّر أنها سيدة مبدعة، تبتكر من التوابل خلطات تخصّها، وتصنع الصابون. وفتحت صندوقًا، وأخرجت لرشيد ثلاث قطع، ورأى تأجيل الفكرة، باستثناء واحدة للمكتب. صمتا، ونطقت عيناه بتحيتها على الاهتمام بتفاصيل منزلها. قالت: إن هذا شأن المرأة التي ليس لها أولاد. أوضح أن المسألة تخص التنظيم، والقلق الداعي إلى التفكير، والإنجاز بحب لأشياء ربما لا تبدو عظيمة لبعضٍ. كانت ستنجز هذا كله، ولو كان لها أولاد. هناك آلاف من النساء ليس لهن أولاد، ولا يُجدن حتى الأشياء التقليدية.
وأضاف وعيناه تهبطان مع الضفيرتين إلى الردفين:
ولا يعتنين بالشعر، لا طليق ولا مضفور.
سرّها كلامه، ورأت حنان نظراته.
ولكنّ عندي ولديْن، القطة رانو والقط نايان!
رنا إلى جبينها وقبض منكبيها. قالت: إنها قررت أن تحيا، وألّا تعيش الحياة من سطحها، ولن تقنع بالمراقبة، فالتورط مهما يكن ثمنه أفضل من أمان كاذب. ومشاعرها حادة، متطرفة، لا مساحة فيها لرماديات تخيف مثل ثياب الشرطة، أو لرماديات في الأرضيات تخفي الحشرات. لن تبالي بما يُخيف، وبما يُخفي.
تدبّر كلامها، وهمس:
ما يُخيف وما يُخفي.
التقطت همساته، وابتسمت ثم رددت:
نعم، ما يُخيف وما يُخفي!
فكّر رشيد في اسميْ رانو ونايان، القطة رانو والقط نايان، وأن الاسمين يصلحان للبشر ولآلات موسيقية أيضًا، وسألها:
في اختيارك لأسماء القطط انحياز إلى الموسيقا.
قبل رانو ونايان كان عندي قط اسمه «ناي»، مات فاحتفظت باسمه. اسمه كان عزاء.
قالت: إن القطة «رانو» تنتمي إلى سلالة قطط في أوزبكستان، وإن «رانو خوجة» هي سائحة صديقة من أوزبكستان. سونهام أحبت رانو الصديقة التي تتواصل معها، وتحب رانو القطة، وتغضب إذا سخر من اسمها أحد. أما «نايان» فهو رفيق رانو. واسمه تأكيد لذكرى القط «ناي»، واعتزاز بأقدم آلة موسيقية في التاريخ، اكتشفها فلاح مصري مجهول نام على شاطئ ترعة، في قيظ يوم شاق، وصحا ساعة الرواح ليترنم بموال، وسحب عودًا من البوص، وقشّر أوراقه، فالْتمع عود الغاب، وأخذ منه عقلة، وحلا له أن يبريها، ونفخ فيها، ومن الزفرات نبتت موسيقا حببت إليه الحياة، وأنسته جولات الشقاء. من الطين المصري ولد الناي. لم يذكر المصريون القدماء بأي أقلام معدنية كتبوا يومياتهم ووثقوا معاركهم ومعاهداتهم، بالحفر الغائر على جدران المعابد والمسلات الغرانيتية. وإن أمكن ردّ الناي والقلم، الذي كتبوا به على البردي، إلى أصل واحد. غابة مجلوّة ناعمة الطرفين تصدر موسيقا، وأخرى مشطوفة الطرف تسطر حروفًا. كان القلم البوص أول ساطر بين إصبعين. ذلك القلم اكتشفه في طفولة التاريخ ربُّ المعرفة والحكمة، تحوت، الذي سمّاه الغزاة الإغريق هرمس. في طين مصر نبت الغاب، ومن الغاب خلق الناي والقلم، كلاهما ناعم ومستقيم، وبالاستقامة بدأ النظر إلى الأعلى، واكتشاف الآفاق، فاستقام الظهر واختفى الذيل، واستوى الإنسان، وفكّر بالقلم، وغنى بالناي.
أنصت رشيد إلى المحاضرة المحكمة في تفاصيلها وإيجازها. عجب لهذه القدرة من امرأة جميلة لا تحمل ملامحها اهتمامًا بشيء جاد. خاف قليلًا، خشيها خشية الرجال إذا فاجأتهم امرأة قوية. وهي استراحت في تلك اللحظات، وأتبعت:
في الكلية أعددت بحثًا عن جذور الناي في مصر القديمة. وذكرت طرفة أضحكت لجنة المناقشة.
طرفة في بحث علمي؟
استعنت بأغنية «بعيد عنك» لأم كلثوم. عازف الناي، الذي تحرّيت عنه وعرفت أن اسمه «سيد سالم»، فاجأها بالخروج على النوتة. ارتجل تغريدة غير متفق عليها في اللحن، فانطلقت آهات الجمهور، واستحسنت أم كلثوم وفاء العازف لجدّه الفلاح مكتشف الناي. التفتت إليه، وسألت بدهشة: «إيه ده؟». وابتسمت «الست» وتمايلت.
سأعيد «مشاهدة» هذه الأغنية.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق