كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السيرك الليلي
دونما سابق إنذارٍ حطَّ السيرك رحاله.
لم يسبق وصوله أيُّ إعلاناتٍ، ليس ثمَّة ملصقاتٌ ورقيَّةٌ تشي بأيِّ خبرٍ عنه، على منشورات ولوحات الإعلانات التي تملأ وسط المدينة. الصحف المحليَّة هي الأخرى خلت من أيِّ ذكرٍ له. كلُّ ما في الأمر أنَّه أصبح اليوم ماثِلًا للعيان، بعد أن كان بالأمس نَسيًا منسيًّا.
انتصبت هناك خيامه المنيفة؛ مرقومةً باللونين الأبيض والأسود فقط، ليس بوسع عين الزعم بأنَّها أبصرت لونًا ذهبيًّا أو قرمزيًّا، والأكثر غرابةً من هذا، ذلك الغياب المطلق لأيِّ لونٍ من الألوان؛ باستثناء الأخضر في الأشجار المجاورة وعشب الحقول المحيطة.
كلُّ ما يلوح للناظر صوب المشهد هو تلكم الخطوط السوداء والبيضاء في السماء الرماديَّة؛ بجانب كمٍّ وافرٍ لا يحصى من الخيام ذات الأشكال والأحجام المختلفة، يحيط بها سياجٌ محكمٌ من المعدن المرن يلفُّها في عالمٍ عديم الألوان. وإمعانًا في غياب اللون، تأبى الأرض الصغيرة المرئية من الخارج إلا أن تكون سوداء أو بيضاء، بعد أن طليت أو رشَّت بمسحوقٍ معيَّنٍ ليفيد في التعاطي مع بعض ألاعيب السيرك الأخرى.
وعلى الرغم من أن السيرك لم يفتح أبوابه للجمهور بعد، إلا أنَّه في غضون ساعاتٍ قلائل انتشر الخبر عنه انتشار النار في الهشيم، وتسامع به كلُّ من في المدينة. لم يقتصر انتشار خبره في المدينة وحدها، فبمجرد أن انتصف النهار، ذاع الخبر وراج في عدَّة مدنٍ أخرى.
حقًّا! كان تناقل الخبر شفهيًّا أكثر فاعليةً ونفاذًا منه من الكلمات المنضَّدة، وعلامات التعجب على النشرات الورقيَّة أو الملصقات. كم هو خبرٌ مثيرٌ للإعجاب وغير مألوف؛ خبر الظهور المفاجئ لسيرك غامض. تعجب الناس من طول الخيام التي بدت وكأنَّها تريد معانقة السحاب. يحدق الناس أنظارهم في تلك الساعة القابعة داخل البوابات، التي يستعصي وصفها بشكل دقيق على أيِّ شخص مهما أوتي من بلاغة.
ثمَّة لافتاتٌ سوداء معلقةٌ على البوابات نقش عليها باللون الأبيض عبارة:
«يفتح عندما يحلُّ الظلام، ويغلق عندما يتنفس الصباح».
«أي نوعٍ من السيرك يا ترى هذا الذي لا يستقبل جمهوره إلا ليلًا؟».
سؤالٌ يعصف بأذهان القوم دون أن يجدوا له جوابًا مقنعًا. مع اقتراب الغسق احتشدت جموعٌ من المتفرجين خارج البوابات. أنت واحدٌ منهم بالتأكيد. استحوذ عليك فضولك، كما هي حال الفضول دائمًا. نادرًا ما يمكن مقاومته.
ها أنت تقف في الضوء الذي أخذ في التلاشي، والشال ملفوفٌ حول عنقك ليقيك من هبَّات نسيم الليل الباردة؛ تنتظر لترى بأم عينيك طبيعة ذلك السيرك الذي لا يشي بشيءٍ من سحره إلا بعد أن تؤذن الشمس بالمغيب.
شباك كشك التذاكر الذي يمكن رؤيته بوضوحٍ خلف البوابات ما زال مغلقًا بإحكامٍ شديد. الخيام منتصبةٌ بكل ثباتٍ، قلَّما تلمح فيها أو لها حراكًا إلا عندما تتموج قليلًا في مهبِّ الريح. الحركة الوحيدة داخل السيرك هي دقَّات قلب الساعة… واحدةً تلو أخرى مع مرور كلّ دقيقة. هذا لو سلمنا جدلًا بأنَّ أعجوبة النحت هذه يمكن تسميتها بالساعة.
*إيرين مورجنسترن:
إيرين مورجنسترن هي كاتبة أميركية. وُلدت في 8 يوليو 1978م في مدينة مانهاتن بولاية نيويورك في الولايات المتحدة. اشتهرت بروايتها الأولى «السيرك الليلي» التي نُشرت عام 2011م وحققت نجاحًا كبيرًا. تدور الرواية حول سيرك سحري غامض يظهر فجأة في المدن ويستمر مدة محدودة فقط، وتتضمن حبكة الرواية قصَّة حبٍّ مستحيل بين اثنين من السحرة المشاركين في عروض السيرك. والنص أعلاه مقطع منها.
المنشورات ذات الصلة
برايتون
... يصل القطار إلى «برايتون»، يعلن ذلك قائد القطار، يشاهد اللوحات الجانبية على رصيف المحطة تحمل اسم «برايتون»، خدر...
في طريق السفر تخاطبك النجوم
مغامرة صغيرًا كنتُ، صغيرًا جدًّا رميتُ صنارتي إلى البحر اجتمعت الأسماك معًا، رأيتُ البحر! * * * صنعتُ طائرة ورقية بسلك...
بين صحوي وسُكْرها
رغمًا ترددتُ.. لم أسكَرْ ولم أَصْحُ! في كأسكِ البرءُ أم في كأسكِ الجرحُ؟ قصّت جناحي بأفْق الحبّ أسئلةٌ ...
0 تعليق