كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
بلا إستراتيجية ثقافية العرب يتلمسون طريقهم في الظلام
على الرغم من تأكيد وزراء الثقافة العرب أهمية التفكير الإستراتيجي، وتشديدهم في مؤتمرهم الذي يعقد سنويًّا في إحدى العواصم العربية، على وجود خطط إستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى رفع مستوى الوعي لدى المجتمع، إلا أن المتأمل لواقع الثقافة العربية لا يكاد يلمس أي أثر لتفكير إستراتيجي، فهل فعلًا لدينا إستراتيجية ثقافية تنظم العمل الثقافي وتعطيه بعدًا مؤسسيًّا؟ أم أن العرب يفتقدون فعلًا التفكير الإستراتيجي؟… إذا كان الأمر كذلك فما الأسباب التي جعلتنا بلا خطط مدروسة بأهداف تعمل المؤسسات على تحقيقها في مراحل منتظمة، ثم كيف يمكن للثقافة العربية أن تقوم بدورها تجاه المجتمع، في ظل هذا الغياب؟
«الفيصل» لجأت إلى عدد من المثقفين العرب؛ لمعرفة إن كان لدينا إستراتيجية ثقافية حقيقية في بلدان العالم العربي أم لا، وإذا كانت موجودة فلماذا لا يتم تفعيلها؟
في البدء أكد وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد عدم وجود إستراتيجية ثقافية في بلدان العالم العربي، موضحًا أن غالبية الأنظمة العربية «تعدّ الثقافة شيئًا ثانويًّا مرتبطًا بالتسلية والترفيه، وليس تكوين الإنسان، أو أن للثقافة دورًا فعالًا في المكون الاقتصادي للدولة والبشر، ومن ثم فهذه الأنظمة تعدّ الثقافة كما يقولون: «فض مجالس»، والثقافة في نظر كثير من المسؤولين مجرد رقص وغناء، وفي بعض الأحيان شعر وقصة وفن تشكيلي».
ويلفت عبدالحميد إلى أن الثقافة «هي كل ما يخص حياة الإنسان، بدءًا من المأكل والمشرب وأدوات العمل وطريقة التفكير وصولًا إلى الآداب والفنون والقيم والمفاهيم، وبالتالي فأي إستراتيجية عليها أن تضع كل هذه الحسابات في مخيلتها، لكن الواقع يخبرنا بنقيض ذلك، ومن ثم فكل مسؤول يتحرك وفق أهواء شخصية ورؤية يومية يحكمها «الشو الإعلامي»، أما فكرة وجود مفهوم كلي متكامل فهذا غير وارد، وفكرة الإستراتيجية نفسها غير موجودة».
وأضاف عبدالحميد: «وبالرغم من ذلك فما زلت أحلم بوجود تكامل بين بلدان العالم العربي يمكنه أن يخلق لنا رؤية ثقافية واحدة، وإن كان ذلك أمرًا يحتاج إلى سنوات من التعاون كي يتحقق؛ لذا فإننا يمكننا أن نبدأ بعمل خريطة واحدة للعالم العربي، خريطة تخبرنا بالمواقع الثقافية الموجودة في كل بلدان العالم العربي، تخبرنا بكل مواقع وقاعات الفن التشكيلي وأنشطته، تخبرنا بتباين المناطق العربية من الفقر إلى الغنى، من العشوائيات إلى الصحراويات، خريطة نرى أنفسنا من خلالها، وحينها سوف ينتبه الجميع إلى ما يجب عليهم عمله حيال ما يرونه على هذه الخريطة، وهذه بداية وضع إستراتيجية ثقافية عربية شبه موحدة، أو على الأقل متلائمة مع كل هذا التنوع والتباين والتفاعل العربي».
أما رئيس قسم المكتبات بجامعة حلوان والرئيس الأسبق لدار الكتب المصرية الدكتور زين عبدالهادي، فأوضح أن الثقافة تحتاج إلى دعم سياسي كبير يأتي من الدولة ومؤسساتها الكبيرة المتحكمة، «ومن دون ذلك تظل الثقافة هامشًا، كما أنها تحتاج إلى عقل واعٍ بقيمتها وأهميتها، ومدى تأثيرها في الشارع، وأشك كثيرًا في وجود مثل هذا العقل في العالم العربي، وتحتاج إلى بيئة حاضنة لمفهوم الثقافة بكل أشكاله، وأشك أيضًا بأن هناك في العالم العربي هذه البيئة، وإن كانت بعض دول الخليج الآن لديها هذه المساحة وبشكل محدود».
وتساءل عبدالهادي: إذًا كيف يمكننا بناء إستراتيجية للثقافة في هذه البيئة الطاردة؟ ربما كان لدينا في مصر في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مثل هذه البيئة بشكل أو بآخر، فانتشرت صناعة الكتاب والسينما والمسرح والأدب والفن التشكيلي وغير ذلك، لكن العقل الذي بنى ذلك ليس كالعقل الموجود الآن، فهناك تحالفات سياسية دينية، وهناك تحالفات مذهبية وعرقية أو فئوية، وكلها تحالفات ترى في الثقافة مجالًا للزندقة، وليست صناعة يمكن أن تسهم في العالم العربي بنسبة مئوية كبيرة في اقتصاد الخدمات».
وذهب إلى أن الفكر السياسي والديني المتطرف «يلتهم في طريقه كل شيء. ولم نصل بعد – كدول وجماعات وأفراد- إلى درجة من النضج التي تمكننا من التوجه نحو اقتصاد معرفة مبني على مفاهيم إنسانية عظيمة؛ إذ يعاني الإنسان العربي من نقص شديد في المعرفة، بدليل القرارات الخاطئة التي يتم اتخاذها كل يوم، لذلك لم يحن بعد الوقت لإستراتيجيات الثقافة؛ لأن الأرض نفسها تمتلئ الآن بالمطبات والغبار والمعارك الطاحنة، دعنا نأمل في المستقبل القريب أن يتفهم العالم العربي مدى حاجته لإستراتيجيات ثقافية توازي ما هو موجود بالعالم المتقدم وتفوقه».
الشاعر والناقد السوري نديم الوزة يرى أننا عندما نتحدّث عن إستراتيجيات ثقافية في بلدان فائتة حضاريًّا مثل البلدان العربية، «فإننا أمام سؤال التأسيس الذي فشلت هذه البلدان مجتمعةً أو منفردة في الإجابة عنه إن كان إحيائيًّا مع عصر النهضة أو حداثيًّا مع المدّ القومي؛ وهذا بسبب فقدان العوامل الذاتية والموضوعية لإنجاح مثل هذه الإستراتيجيات. ويبدو السؤال حاليًا أكثر تعقيدًا في ظلّ العولمة من جهة، وفي ظلّ الأنظمة التي هي امتداد للفشل العربي وعامل من عوامله الأساسية من جهة أخرى. بهذا المعنى يستطيع من يحلم بمستقبل ما لأيّ من البلدان العربية المتشظية أو في طريقها إلى ذلك؛ أن يتساءل: ما العوامل أو الحوامل الممكنة للتأسيس من جديد لإستراتيجيات ثقافية عربية؟ أو ربما مصرية أو سورية أو مغربية أو خليجية… كلّ على حدة؟ وهل يمكن لهذه الإستراتيجيات أن تلقى قبولًا إقليميًّا وعالميًّا؟ على ما أرى في ظلّ الأنظمة الحالية، ومنظومات معارضاتها الهشّة، يصعب عليّ الإجابة، وإن كنت ما زلت أفكّر بها!».
من جانبه أرجع الروائي المصري محمد المنسي قنديل غياب إستراتيجية ثقافية في العالم العربي ككل، «إلى أننا نعيش في عالم عربي مأزوم، وكل عوارض الأزمة العربية تتجسد في الثقافة، ومن ثم لا توجد لدينا سياسات ثقافية، وربما كانت لدينا مشروعات طموحة في زمن ما، كانت لدينا مجلات ثقافية كبرى، لكن كل الأشياء تَفَتَّتَتْ، وكل بلد يحاول على حدة، ومن ثم حجم العمل الثقافي أصبح خافتًا، الاهتمام بالثقافة وتفعيلها بشكل عام أصبح خافتًا، نظرًا لأننا نعيش في جزر منعزلة، بلدان العالم العربي جميعها تعيش في جزر منعزلة، وتعيش في أزمة التخلف، إننا نكتشف كل فترة أننا صرنا أكثر تخلفًا، وندخل كل معركة جديدة ونحن أكثر تخلفًا مما سبق، حتى في إنتاجنا الثقافي، فقد صار من النادر وجود أعمال مهمة، أو مجلات مهمة، أو مشروعات مهمة، والإعلام لا يروج إلا للأشياء التافهة، التلفزيون لا يعرض إلا المسلسلات والإعلانات، كل الأمور طابعها صار تجاريًّا، والثقافة بمعناها المجرد لم تعد موجودة».
وأضاف قنديل فيما يخص تمنياته للبدء في وضع هذه الإستراتيجية العربية الكبري قائلًا: «كنت أتمنى أن توجد دار نشر عربية موحدة، أو مؤسسة كبرى للترجمة العكسية إلى الآخر، بحيث تدفعنا قليلًا إلى دائرة النور، أو أن توجد مؤسسات تختار الأعمال السينمائية الحقيقية، وتقوم بدعمها وتوزيعها في العالم كله، كنت أتمنى أن توجد فرقة مسرحية جوالة في العالم العربي ككل. أشياء كثيرة أتصور أو أتمنى أن تحدث لكن لا توجد إستراتيجية حقيقية لفعل ذلك».
ورفض الشاعر والناقد اليمني علوان الجيلاني الحديث عن فكرة إستراتيجية عربية أو إستراتيجيات للبلدان العربية كل على حدة، مؤكدًا أن هذا الحديث بات لا يقوم على أساس؛ «إذ إن ثلث دول العالم العربي يفتقر إلى وجود الدولة بمعناها المتعارف عليه، كما هي الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وليبيا.. وثلث آخر تفترسه مشكلات بنيوية عميقة تعوق التنمية بشكل عام، وعلى رأسها التنمية الثقافية المستدامة كما هي الحال في مصر والسودان وتونس والأردن والبحرين، والثلث الأخير يتمتع بقدر كبير من الرخاء والاستقرار لكن البنى المجتمعية تحول دون استثمار هذا الرخاء والاستقرار وتحويله إلى خادم جيد للتنمية الثقافية». ويشير الجيلاني إلى أن المقصود بالإستراتيجية الثقافية «هو وجود خطة إستراتيجية دقيقة يدرس فيها الواقع الثقافي بشكل دقيق وتحدد الأهداف، وتعد البرامج التنفيذية لتلك الأهداف، ويتم وضع آليات لعمل المؤسسات على نحو ما يتم في دول العالم المتقدمة التي تعتمد على مناهج صارمة وتطوير وتحديث مستمرين لأساليب العمل والتنفيذ، وعلى رأس ذلك مراكمة مجموعة من القيم المؤسسية التي تضمن البقاء والنمو والاستمرارية لتلك المؤسسات التي يجب بديهيًّا أن تكون ذات شخصية اعتبارية، ويتوزع نشاطها على كل أشكال الثقافة والتعبير والإبداع بحرية كاملة وتمويل سخي رسمي وأهلي. وتلك شروط يستحيل أن تكون موجودة إلا على شكل مبادرات نشهدها بين الحين والآخر هنا وهناك أشبه ما تكون بالجزر المعزولة. وغالبًا ما تفتر وتتقهقر بعد حين».
وقال: إن وجود إستراتيجية ثقافية «يعني وجود مجموعة مؤسسات في شتى مجالات العمل الثقافي تعمل على طريقة الأواني المستطرقة، أي تتكامل جهودها وتترادف اشتغالاتها لتؤدي وظيفتها على نحو مكتمل… ناهيك عن كونها ذات رسالة من شقين؛ شق يتوجه إلى الداخل، وشق يتوجه إلى العالم بما يعنيه ذلك من قدرات على الترجمة والتسويق والترويج للفنون المختلفة… فهل هذا موجود عندنا؟!».
بينما ذهب الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم إلى أن السياسة الثقافية هي الدليل الوحيد على ترقّي المجتمع، «فالنظام حين يتفشّى في كل شيء تنطلق الثقافة إلى نمط أمين، لا تظهر فيه تلك المظاهر التي تبين سوءاته. ولا أستطيع قطعًا الكلام عن العالم العربيّ، حتى أظلّ أمينًا في وجهة نظري، ويكفيني وزيادة مشاكل الثقافة في مصر».
وطبق عيد رؤيته من خلال ما جرى في الثقافة المصرية عقب قيام ثورة يناير قائلًا: «بالنظر إلى ما حدث لدينا من ثورة نُقضت بل سارت بالأمور إلى ما هو أسوأ مما قبلها، فأرى أن وزراء الثقافة المتعاقبين منذ بداية الثورة، ومع احترامي للجميع، لم يكن لديهم الطاقة لتنفيذ ما يرون؛ لعدة أسباب: أن النظام يرى الثقافة وكأنها الحلقة الأضعف فباستطاعته الضغط على مسؤوليها أو تخفيض الميزانية أو تعيين مسؤولين غير أكفاء، وبعضهم لا ناقة له أو جمل أصلًا في التنظير الثقافي، أو حتى التنفيذ الإداريّ، كما كان الجوّ السياسيّ -بل لا يزال- مشدودًا، كلّ يوم هو في شأن، فكيف تستقرّ الأوضاع، ومتى، وأين، ولماذا؛ إلى آخر الكلمات الاستفهامية؟ ولذلك تتفشّى أمراض وعلل، منها تحكّم كلّ فريق في منصب أو مطبوعة، يخدم بها المقربين، ويلوي عنق المبعَدين، فانهار مستوى الكتب والمطبوعة الثقافية أكثر من ذي قبل. عمومًا، هذه أعراض لغياب السياسة الثقافية، حيث لا رقيب ولا حسيب لما يقوم به كل منا في موقعه، ناهيك عن غياب مفهوم الجمهور أو المتلقي، فبارت سلعة الثقافة أو تكاد، ويكفينا أسى أن الكتب الإبداعية مثلًا لم تعد توزّع أكثر من مئتي نسخة وسط شعب تعداده 90 مليونًا!».
على حين تقول الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة صاحبة موسوعة الشعراء العرب: «من وجهة نظري الشخصية ومن خلال تجربتي المتواضعة في فعاليات الحقل الثقافي العربي أستطيع أن أقول: إننا لا نتوافر على إستراتيجيات ثقافية حقيقية في أوطاننا العربية، رغم تفاوتها من بلد إلى آخر، والسبب في ذلك يعزى إلى عدم الاعتراف بقيمة الدور الثقافي داخل الشعوب التي عرفت تقهقرًا فكريًّا خطيرًا أوصل بعضها إلى تدمير بلدانها تحت ما يسمى بالربيع العربي، فلو كانت هناك إستراتيجية حقيقية للنهوض بالمشاريع الثقافية الجادة التي تخدم العقلية البشرية بالأوطان العربية لما كانت نتيجتها بهذا الحال» .
وتذكر فاطمة بوهراكة أنه آن الأوان «لوضع خطط إستراتيجية للعمل الثقافي الجاد، ودعمه ماديًّا في جميع الدول العربية حتى لا نضطر إلى الوصول لمرحلة الدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بسبب تفريط دولنا في دعم المجال الفكري والثقافي، فما أحوجنا إلى أن يكون الإنسان المناسب في المكان المناسب بغية الوصول إلى شاطئ الأمان من خلال هذه الإستراتيجية» .
ويذهب الشاعر فتحي عبدالسميع إلى أن المجتمع العربي «يعانى أزمتين كبيرتين، تتمثل الأولى في ضعف اهتمام الحكومات العربية بالثقافة، ويبلغ الأمر حد الشعور بأنها لا تؤمن بالثقافة، أو تناصبها العداء وتتجاهلها عن عمد، وفي تقديري إيمان الحكومات بدور الثقافة بائس جدًّا، ومشوّه، فالثقافة تعني الترفيه، أو الدعاية الوطنية، وغير ذلك مما يبعد عن معنى الثقافة باعتبارها جوهر بناء الدولة، والسبيل لبناء الأفراد، والمعبّر الحقيقي عن الرقيّ والتقدم الإنساني، وهكذا ينتقل بؤس إيمان الحكومات بالثقافة إلى الإعلام، ومن ثم إلى المجتمع، أما الأزمة الأخرى فتأتي نتيجة طبيعية للأولى وتتمثل في عشوائية الفعل الثقافي، فهو لا ينطلق من قاعدة ثابتة، بل يعتمد على مزاج صانعي القرار، أو وعيهم الفردي فقط، أو اهتمامهم المرحلي، وتلك العشوائية تقتل الثقافة؛ لأن الثقافة في جوهرها تنظيم للعالم الإنساني، ولا يمكن أن تؤدي رسالتها بعشوائية».
ويشير فتحي عبدالسميع إلى جهود ثقافية لأفراد يؤمنون بالثقافة ويستوعبون قيمتها، «لكن تلك الجهود تتحطم في الغالب؛ لأنها تتأثر بالمناخ العام المعادي جهلًا أو عمدًا للثقافة، كما أن الواجب الثقافي أكبر من الطاقات الفردية رغم أهميتها، وهكذا يبقى وضع إستراتيجيات ثقافية فعالة مرهونًا بإرادة الحكومات، أو المؤسسات الأهلية، ويبقى الجهد الفردي مجرد حفاظ على راية مهزومة، واستغاثة طويلة المدى تعلن عن بؤس المصير الذي ينتظرنا، ما دام الوضع الثقافي بائسًا».
تخبط وعشوائية
يرى الكاتب السعودي عيد الناصر أن الأمة في هذه المرحلة التاريخية بأقطارها كافة، «تعيش حالة تخبط وعشوائية وارتجالية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإنه لأمر طبيعي جدًّا، وكتحصيل حاصل، أن نعيش على نفس مسار التخبط والعشوائية فيما يخص الفن والفكر والثقافة. ولكن بالإمكان رؤية الأمر من زاوية أخرى، وهو أن ما يحدث الآن هو نفسه إستراتيجية، ولكنها إستراتيجية بالمعنى السلبي وليس المعنى الإيجابي، إستراتيجية تهدف إلى تفكيك وتمزيق العلاقات الروحية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكونت ونسجت خيوطها على مدى مئات السنين بين أبناء الوطن العربي لأهداف وأغراض لا تمت بصلة لمصلحة الوطن الأكبر أو الأصغر (طبقتها أميركا بشكل كامل في العراق).
ويشير إلى أنه «لو تتبعنا مسار الأحداث منذ بداية القرن العشرين حتى هذا اليوم لوجدنا أنها حدثت بفعل وجود خطط وإستراتيجيات كبرى تحاول السيطرة على مقدرات البشرية في كل مكان، بما في ذلك وطننا العربي الكبير، عبر استخدامها لكل السبل وأدوات القهر البشعة والناعمة على السواء. وكانت النقطة الرئيسية في محاولة السيطرة هي التغلغل في العقول عبر الثقافة (فكر وفن وأدب وسياحة … إلخ)؛ لأن من يمتلك السيطرة على مكونات التفكير يمتلك القدرة على توجيه المستهلك لتلك الثقافة أينما شاء».
ويعتقد الناصر أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه «يعني المزيد من الفرقة الثقافية والتمزق الاجتماعي والسياسي والدماء النازفة بلا مبرر أو قيمة إنسانية أو أخلاقية».
عائشة البصري: الدولة تعدّ القطاع الثقافي غير منتج
من جانبها أكدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية المغربية عائشة البصري أن ما تعرفه عن السياسات الثقافية في البلدان العربية لا يسمح لها بإصدار أحكام. وإن كانت قد لاحظت في العموم أن هناك بعض الديناميات التي تشهدها بلدان عربية، مثل مصر وتونس ولبنان والجزائر وبعض البلدان في منطقة الخليج، وقالت البصري: «سأتحدث عن المغرب فقط، فأول مرة فكرت الدولة المغربية في هيكلة قطاع الثقافة كان ذلك سنة 1968م، بإسناده إلى وزارة التعليم. ثم أُلحقت بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعد ذلك. قبل أن يستقل قطاع الثقافة بوزارة خاصة به سنة 1974م. الواقع أن الشأن الثقافي في المغرب اهتم به المجتمع المدني قبل أن تهتم به الدولة. فقد تأسس اتحاد كتاب المغرب سنة 1961م. وظهرت مجلات ثقافية مستقلة منذ بداية الستينيات. فاهتمام الدولة بالشأن الثقافي كان رد فعل. حين أدركت أن الثقافة بدأت تصبح من اهتمامات اليسار المغربي. والحديث يطول بهذا المعنى التاريخي. إذًا، فالمغرب ظل يمتلك سياسة ثقافية تشمل مجالات: التراث والفنون والنشر وترويج الكتاب وسوق القراءة العمومية، والدبلوماسية الثقافية… إلخ».
وتلفت البصري إلى أن الإخفاق الذي ظل يطبع السياسات الثقافية العمومية في المغرب، «يرجع إلى انعدام مشروع ثقافي وطني من جهة، كما أن الدولة ظلت دائمًا تعدّ القطاع الثقافي قطاعًا غير منتج، بالرغم من أنه استثمار في رأس المال البشري. ما يفسر أن وزارة الثقافة ظلت تخصص لها أصغر الاعتمادات المالية. وهي أرقام يصعب أن تستجيب لتطلعات ومطامح الفاعلين في المجال الثقافي المغربي».
سعد البازعي: ما أكثر الإستراتيجيات وما أقل العمل بها
قال عضو مجلس الشورى السعودي الناقد الدكتور سعد البازعي: إن «الإستراتيجية» من المفردات «التي تكاد تهيمن على الخطاب الإعلامي والتنموي في بلادنا وبلاد كثيرة تشبهها. نشكو من غياب الإستراتيجيات ونقصد بها التخطيط، فتبدو الجهود تبذل على غير هدى أو بشكل عفوي، إن لم نقل: عشوائي. غير أننا في الوقت نفسه نعيش تخمة في الإستراتيجيات، وهل خطط التنمية إلا إستراتيجيات؟ فما الذي أدى إليه العمل عليها وتبويبها والسعي للسير بمقتضاها؟ لا شك أن هناك نجاحًا ما قد تحقق، وأن أشياء كثيرة أنجزت، لكني لا أدري ما مقدار ذلك الذي أنجز، وما مقدار الذي لم ينجز، ولماذا. إحدى المشكلات هي أننا قلما نتحاور على نحو شفاف حول تلك الخطط أو الإستراتيجيات».
ويتساءل البازعي: «هل العمل وفق إستراتيجية بحد ذاته كافٍ لإنجاز ذلك العمل؟ هل وجود الإستراتيجية ضمان بالنجاح؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بلا؛ لأن الخطط سهلة من حيث هي تصورات تبنى على وقائع ومعلومات، لكنها أيضًا تنطوي على الكثير من الأماني غير المختبرة والتي كثيرًا ما تتراجع أمام قسوة الواقع».
ويرى أن ذلك «لا شك ليس مبررًا لعدم التخطيط، والمؤسسات الثقافية بشكل خاص بحاجة إلى التخطيط، بل هي الأولى أن تكون واعية بذلك من حيث هي قائدة للمجتمع برؤيتها المستقبلية وطموحاتها الكبيرة. لكن التخطيط دون مقدرة على التنفيذ سيتحول إلى نوع من الرضا الذاتي والمؤقت. لقد كنت ضمن لجنة وضعت إستراتيجية لوزارة الثقافة عند إنشائها، وحتى اليوم لا أرى من تلك الخطة شيئًا على أرض الواقع، بل إن الوزارة حاليًا تفكر في إستراتيجية أخرى. فما أكثر الإستراتيجيات وما أقل العمل بها».
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق