كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
السيد ياسين: صراع الهويات في العالم العربي بلغ حالة التوحُّش
تنطلق رؤى وتحليلات المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسي السيد ياسين سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا من قراءات علمية عميقة للقضايا والظواهر والأحداث والمشكلات التي يتعرض لها المجتمع المصري والعربي. فهو يتابع التغيرات والتطورات في مناهج البحث جنبًا إلى جنب الدراسات والبحوث التي تتناول ما يطرأ في المنطقة العربية والعالم، ويجيد طرح الأسئلة ولا ييأس من البحث عن إجابات لها.
اشتغل منذ وقت مبكر من مسيرته العلمية على الشخصية العربية والفكر القومي ومفهوم المواطنة وحوار الحضارات، كما توقف طويلًا أمام العولمة، مفهومها وتأثيرها وانعكاساتها عربيًّا وعالميًّا. لكن مع تصاعد التطرف والتكفير والعنف وتبنّي الجماعات الإرهابية القتلَ منهجًا ونظرية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدأ السيد ياسين العمل على تحليل ونقد الظاهرة ليقدم خارطة مهمة لجماعات الإسلام السياسي، كاشفًا ومفندًا الأسس التي قامت عليها مجمل أفكار وآراء قادتها.
التحق بالمعهد القومي للبحوث الجنائية «المركز القومي للبحوث حاليًا» عام 1957م ليمضي فيه 18 عامًا، حيث تركه عام 1975م لكي يصبح مديرًا لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام، واعتنى بعلم الاجتماع الأدبي الذي كان لا يزال ناشئًا وقتها «عام 1964م» وكذلك علم الاجتماع السياسي.
وفي عام 1967م وهو عام النكسة والهزيمة والمرارة اتجه إلى دراسة المجتمع الإسرائيلي دراسةً علمية، وانضمَّ إلى مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بالأهرام عام 1968م الذي تحول بعد ذلك إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، وكان هذا التحول وراء تعمقه في دراسة مناهج ونظريات البحوث الإستراتيجية، وقد رَأَس هذا المركزَ خلال المدة من 1975 إلى 1994م؛ حيث عُيِّن أستاذًا لعلم الاجتماع السياسي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
وفي عام 2012م أعاد تأسيس «المركز العربي للبحوث والدراسات» وضم إليه مجموعة من الخبراء في الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الاجتماع وعلوم الإعلام والتاريخ، ولا يزال يرأس هذا المركز حتى الآن.
من مؤلفات السيد ياسين: «أسس البحث الاجتماعي، ودراسات في السلوك الإجرامي، والشخصية العربية بين تصور الذات ومفهوم الآخر، ومصر بين الأزمة والنهضة، وتحليل مفهوم الفكر القومي، والسياسة الجنائية المعاصرة ودراسة نقدية للدفاع الاجتماعي، وحوار الحضارات في عالم متغير، والوعي التاريخي والثورة الكونية، والزمن العربي والمستقبل العالمي، والعولمة والطريق الثالث، والعالمية والعولمة، وتشريح العقل الإسرائيلي، والمعلوماتية وحضارة العولمة، والأسطورة الصهيونية والانتفاضة الفلسطينية، والمواطنة في زمن العولمة،والحوار الحضاري في عصر العولمة.
وقد حصل على العديد من الجوائز والأوسمة؛ منها: جائزة العويس، ووسام الاستحقاق الأردني من الطبقة الأولى، ووسام العلوم والفنون والآداب، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.
«الفيصل» التقته في القاهرة فكان هذا الحوار الشامل.
في مقال لك بعنوان: «الهويات المتوحشة» أشرت إلى «نظرية التكفير».. هل هناك نظرية للتكفير؟ ومن وضعها؟ وما الأسس التي تقوم عليها؟
نعم هناك نظرية متكاملة للتكفير، فقد سبق لي أن قمت بدراسة متكاملة لكتب المراجعات التي قامت بها الجماعة الإسلامية التي بلغ عددها 25 كتابًا.
واكتشفت أن أحد المنظِّرين لهذه الجماعة اسمه الدكتور فضل -وهو اسم حركي لأحد قيادات الجماعة من محافظة الفيوم- له كتاب بعنوان: «العمدة في إعداد العدة» عدد صفحاته (500) صفحة، يتضمن نظرية كاملة في التكفير، وقد لخص كتابه ونظريته هذه في وثيقة «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم». وفي تقديري أن هذه الوثيقة النظرية هي الأساس الذي اعتمدت عليه الجماعات الإرهابية المتطرفة في تكفير الحكام وتكفير المجتمعات؛ لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية وتكفير غير المسلمين، بل تكفير بعض المسلمين أيضًا بشروط معينة. وتقوم هذه النظرية لهذا الإرهابي المتطرف المنظِّر على مقدمة أساسية، يقول -وهنا أقتبس من كلامه-: «والإسلام مُلزِم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة». ومن ثم فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة أمة الدعوة «المدعوون لاعتناق دين الإسلام»، فمن استجاب منهم لذلك فهم «أمة الإجابة».
ويسترسل الدكتور فضل فيقول: «ومعنى إلزام دين الإسلام أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام»، والنتيجة هي: «فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقضٍ من نواقض الإسلام فهو هالك لا محالة إن مات على ذلك». واستند الدكتور فضل في هذا الحكم الخطير على آية قرآنية هي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ [آل عمران: 85]. وأيد كلامه باقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر».
وهكذا يمضي فضل في نظريته التكفيرية ويبنيها على مقولة مبدئية هي: «إن الإسلام يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد النفس، فإن ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك والمخالفة درجات: أولًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر و«هي العصيان»، ثانيًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء كبيرة فهذا مرتكب الكبائر و«هو الفسوق»، ثالثًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء عظيمة فقد وقع في الكفر». وهنا غموض في المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها النظرية وهي الصغائر والكبائر والأشياء العظيمة.
ويسترسل في مجال تعداد المحظورات الشرعية ليصل إلى أن «اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسي لدى الدول الأجنبية «بلاد الكفار الأصليين» فيكون بذلك قد دخل في الكفر تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره». ويقرر أن «الشريعة لم تُبِحْ لآحاد الرعية معاقبة عامة الناس أو إقامة الحدود عليهم»، وهذه بديهية لأنها من مهام الدولة المعاصرة، غير أن الوثيقة قررت أنه لا يستثنى من ذلك إلا إقامة المسلم الحدود على عبيده، فأي عبيد وفي أي عصر! لقد ولَّى عصر العبيد إلى غير رجعة.
إن فهم النص الجهادي الأصلي الذي ورد في الكتب المطوّلة السابقة للدكتور فضل مثل: «العمدة في إعداد العدة»، و«الجامع في طلب العلم الشريف»، و«التضحية في التقرب إلى الله تعالى»، وخصوصًا الكتاب الأول الذي انبثقت منه وثيقة نظرية التكفير؛ يحتاج إلى تحليل نقدي فقهي على أساس أن هذه النصوص التكفيرية إنما تقوم أساسًا على القياس الخاطئ والتأويل المنحرف، والكشف عن ذلك في النص الجهادي الأصلي ضرورة أساسية؛ لأنه بناء على هذه الآليات عُدّ قتل المسلمين وغيرهم حلالًا وكذلك استباحة أموالهم وممتلكاتهم.
ويقول الدكتور فضل: «من لم يدخل الإسلام يجوز قتاله في الداخل أو في الخارج». إذن نحن أمام نظرية للتكفير، وهذه النظرية هي التي اعتمد عليها تنظيما القاعدة وداعش، وبخاصة أن كتاب «العمدة في إعداد العدة» صادر عام 1988م متوافقًا مع بدايات تأسيس تنظيم القاعدة.
تعددت مقالاتك حول «الهوية» سماتها ومشكلاتها وخرائطها وصراعاتها. هل الإشكالية الآن في المشهد العربي «التوحشي» وراء هذه الهوية بكل أنماطها؟
صراع الهويات قائم في كل العصور، غير أنه كان كامنًا ولم يسفر عن وجهه إلا في لحظات تاريخية فارقة، لكن المشكلة الآن أن الهويات متصارعة في العالم العربي وقد انتقلت من حالة التوازن إلى حالة الصراع. هناك تعدد في الهويات في العالم العربي؛ هناك الهوية القبلية مقابل الدولة، وهناك الصراع بين الأعراق ونموذجه الصراع بين الأكراد والعرب وبين العرب والبربر، ونجد صراعًا مذهبيًّا مستعرًا بين الشيعة والسنة. غير أنه إذا تأملنا ما يحدث في ليبيا بين القبائل والدولة، وما يحدث في اليمن بين الحوثيين وأهل السنة، وما يحدث في سوريا على وجه الخصوص بين النظام العلوي وبقية طوائف الشعب؛ أدركنا أن صراع الهويات انتقل من حالة الصراع العنيف إلى حالة التوحشا في التاريخ العربي الحديث والمعاصر.
حالة التوحش التي أصبحت ممارسة يومية لكل الأطراف المتصارعة في سوريا، لكن النموذج الرئيس لحالة التوحش يمثلها تنظيم «داعش». بيت القصيد أن المسألة بدأت بمفهوم تكفيري لغير المسلمين، ثم تحولت الجماعات التكفيرية إلى جماعات إرهابية سوَّغت لنفسها ممارسة أفعال العنف حتى ضدّ بعض المسلمين «الذين يوافقون الطاغوت على سياساته» وبالطبع كل الأجانب غير المسلمين يجوز قتالهم في الخارج والداخل، فانتقلنا من التكفير إلى التوحش، والتوحش يتجلى في داعش وخلافتها الإسلامية المزعومة التي أسسها وشكّلها الإرهابي «أبو بكر البغدادي»، ومارس التوحش علنًا بقطع رقاب الرهائن وإحراقهم وإغراقهم.
لقد اكتشفت كتابًا لأحد منظِّري القاعدة اسمه «أبو بكر ناجي -اسم حركي- بعنوان: «إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، يقدم تعريفًا لهذه الإدارة أنها: «إدارة الفوضى المتوحشة» ويضع مهماتها بوصفها نظرية، وما نراه من ممارسات داعش يمثل تطويرًا لنظرية التكفير التي وضعها الدكتور فضل وأمثاله من فقهاء الإرهاب، ولنظرية التوحش التي وضعها «أبو بكر ناجي».
تجديد الخطاب الديني أحد أبرز توجهات النظام في مصر الآن، فهل تم إنجاز شيء في هذا الشأن؟
في مصر لم ينجز شيء لأسباب متعددة: أولًا المشكلة الحقيقية هي ازدواجية التعليم التي تعد أحد أسباب التطرف الأيديولوجي، فمن ناحية تعليم ديني خالص يساعد على بلورة رؤى للحياة تتسم بالانغلاق، ومن ناحية أخرى تعليم مدني مشوه. التعليم الديني يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، اجترار التفسيرات القديمة وعدّها معاصرة، وهذا غير صحيح، والتعليم المدني يقوم على معلومات تافهة. هذا الفصل بين التعليم الديني والمدني إحدى المشكلات، لا بد من فضّ هذه الازدواجية في التعليم ليصبح هناك نظام تعليمي واحد قائم على تأسيس العقل العلمي الناقد الذي يطرح كل شيء للمساءلة، وليس على العقل الاتباعي الذي يقوم على التلقين والحفظ.
ثانيًا: كيف يمكن للأزهريين إعمال العقل في تفسير وتأويل النصوص الدينية؟ هذا هو التحدي، هم لا يمارسون إعمال العقل. ولأضرب لك مثالًا: شيخ الأزهر الجليل الإمام أحمد الطيب عقد لقاءات عدة شارك فيها مجموعة من المثقفين من الاتجاهات كافة، ومشايخ الأزهر، وقد شاركتُ فيها. وحقيقة أصدر الأزهر وثائق مهمة، شاركنا فيها. في الاجتماع الأخير وجهتُ نقدًا للأزهر قلت فيه: إن الأزهر قصّر في تفنيد الخطاب التكفيري، وذكرت لهم قصة الدكتور فضل ونظريته التكفيرية، وقلت: هل هذا التأويل صحيح أم هو تأويل منحرف؟ فجاء رد الإمام بأن هناك حديثًا نبويًّا أن واحدًا خامَرَه الموت وتسأله عن الإسلام أم لا… ثم قال: إن الأستاذ السيد ياسين يتحدث في العموميات، وكان ذلك أمام المشاركين من المثقفين والمشايخ. فقلت: يا فضيلة الإمام، وجهت لي نقدًا مشروعًا، وسأتحدث الآن في الجزئيات، لن أطبق حديث الذبابة مهما كانت صحة سنده؛ لأنه يتنافى مع قواعد الصحة العامة، لن أطبقه، وهناك متون متعددة لا يجوز تطبيقها الآن، فات أوانها. من هنا: المدخل للتجديد الديني هو الانتقال من نقد السند إلى نقد المتن، هذه رسالتي لكم.
إن التعليم الديني التقليدي أكثر استعدادًا لقبول وتصديق الخرافات التي تنسب لمصادر دينية، وهي ليست كذلك. إضافة إلى آلية التأويل المنحرف للنصوص الدينية التي تطبقها الجماعات المتطرفة، التي تضفي الشرعية الدينية على أهدافها وأساليبها الإجرامية، ومن بينها استحلال أموال غير المسلمين، وشرعية قتلهم سعيًا وراء تحقيق هدفهم الأسمى وهو الانقلاب على الدول العلمانية، وتأسيس الدول الدينية التي تقوم على الفتوى وليس على التشريع، تحت رقابة الرأي العام، بواسطة مجالس نيابية منتخبة في سياق نظام ديمقراطي يقوم أساسًا على الانتخابات الدورية وتداول السلطة، وحرية التفكير والتعبير والتنظيم وسيادة القانون.
تنقية المناهج من الخزعبلات
كيف السبيل للإصلاح والتعليم الديني التقليدي مستمر؟
لا بد من تنقية المناهج الأزهرية في المعاهد والكليات من الخزعبلات والحكاية الخرافية، والقيام بثورة معرفية تركز على هذه المناهج العتيقة البالية، سواء في المعاهد الأزهرية التي تخصصت في تعليم الفكر الديني، أم في مؤسسات التعليم المدني الزاخرة بقشور العلم، التي لا محل فيها لفكر ديني مستنير، ثانيًا لا بد من التطبيق الدقيق لقواعد التفسير وقواعد التأويل بشكل عصري.
إن هذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدي الذي يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدي المسلّم بها في علوم الفلسفة والمنطق. وتشتدّ الحاجة إلى تكوين العقل النقدي بعد ثورة المعلومات التي أدت إلى تدفقها في كل المجالات المعرفية على شبكة الإنترنت؛ مما يستدعي في المقام الأول عقلًا نقديًّا؛ لأن المعلومات لا تكوّن معرفة، ومن هنا أهمية تصنيف هذا الفيض من المعلومات للتفرقة بين الصحيح والزائف والمتحيّز والموضوعي. والركن الثاني تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم، والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الديني لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة في علم اللغة والمنهجيات المستحدثة في تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر.
ألا تعتقد أن سطوة الفكر السلفي المتطرف والمتشدد في الشارع العربي تؤشر إلى هزيمة المثقفين والقيم الثقافية الليبرالية؟
لا، الفكر السلفي جيوب فكرية متخلفة، مقضي عليها بالزوال؛ لأنها مخالِفة لروح العصر، ومخالِفة للفهم الصحيح للدين الإسلامي. في مناقشتي مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قلت له: أنا أرى التركيز في الحوار مع العالم على المقاصد العليا للإسلام؛ القيم الأساسية للإسلام في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وأضفت أنه في سورة الحجرات هناك آية يقول فيها المولى عز وجل: }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير{ [الحجرات: 13]، يمكن أن تصبح أيقونة لحوار الحضارات لو طرحناه على العالم، الله عز وجل يقول: }جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا{ لا لتتقاتلوا، وليس لكي يحارب المسلمون العالم كله ليدخلوه في الإسلام، هذا مضاد لروح الإسلام، ومن ثم عند الحوار مع الآخر نذكر له هذه الآية القرآنية التي تصلح شعارًا لحوار الحضارات.
فريق من الناس، وليس الناس عمومًا، غزت عقولَهم البسيطة أفكارُ السلفية الرجعية، وأثرت في ملبسهم وسلوكهم، وليس صحيحًا أنهم بأغلبية تهدد الأمة المصرية، هم أقلية وليسوا أغلبية، وأقلية منقرضة. وحين تتابع الفتاوى التافهة الجاهلة لشخص مثل ياسر برهامي تدرك أن هذا عقل متخلف، وهذه العقول المتخلفة تأثيرها سيزول مع الزمن بارتفاع مستوى التعليم والوعي الاجتماعي والثقافي.
دولة موازية
هل ترى فارقًا بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعات السلفيين على اختلافها، مع ملاحظة أن النظام الحالي في مصر مع الجماعات السلفية؟
أولًا: لا أوافقك في أمر التحالف بين النظام والجماعات السلفية، وهو أمر خارج سياق السؤال، وبالنسبة للإخوان والسلفيين فثَمَّ قواعد مشتركة بينهما تتمثل في العودة إلى الدين وتطبيق الشريعة، لكن للإخوان المسلمين خصوصية في هذا الشأن؛ لديهم مشروع متكامل أسميته «الهوية المتخيلة»، الهوية الإسلامية المتخيلة كما يتبناها الإخوان وجماعات دينية أخرى متطرفة، تتحدث عن أن هويتنا ليست عربية ولا مصرية ولا عراقية ولا كويتية… إلخ، هويتنا إسلامية، ننتمي للإمة الإسلامية، وهم بالتالي لا يعترفون بالوطن ولا الوطنية. سيد قطب كان يقول: «الوطن حفنة من تراب عفن»، إهدار قيمة الوطن والوطنية، هم يتوحدون مع الأممية الإسلامية، حلمهم تغيير النظم العلمانية «الكافرة» -في رأيهم- في الدول العربية وإقامة الدولة الدينية التي تطبق شرع الله كما يفهمونه هم؛ تمهيدًا لاسترداد حكم الخلافة الإسلامية؛ أن يكون هناك خليفة إسلامي واحد يحكم المسلمين في كل أنحاء العالم. هذا هو مشروع الإخوان المسلمين ومن يتبعونهم، وهو مختلف عن مشروع السلفيين. السلفيون يجترون بعض الآيات والأحاديث بطريقة متخلفة، أما الإخوان فلديهم مشروع ولديهم صلات دولية واخترقوا أماكن كثيرة في الولايات المتحدة الأميركية وأوربا.
الإخوان جماعة سياسية في المقام الأول وليست جماعة إسلامية، ومنظمة تنظيمًا حديديًّا يقوم على السمع والطاعة والبيعة للمرشد العام، تنظيمها الداخلي يشكل دولة موازية للدولة القائمة. المرشد العام هو رئيس الجمهورية، ومكتب الإرشاد هو مجلس الوزراء، ومجلس الشورى هو مجلس النواب، ورؤساء المكاتب الإدارية بالمحافظات هم المحافظون، ورؤساء الشعب هم الحكم المحلي. دولة موازية، لديها مشروع سياسي يقوم على تغيير الدول بالعنف أو القوة أو بطرق سلمية بالانتخابات، واسترداد الخلافة الإسلامية. لو عدت إلى تصريح الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين بعد أن حصل حزب الحرية والعدالة الإخواني وحزب النور السلفي على الأغلبية في مجلسَي الشعب والشورى، صرح قائلًا: «يبدو أن حلم حسن البنا قد قارب على التحقق وبعد أن نتمكن سنصبح أساتذة العالم». هذا حلمهم. وكذلك عندما نجح محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية التقاه محمد بديع وقبّل رأسه وقال: «أحلك من البيعة»، والحقيقة أنه لم يحله من البيعة؛ إذ اكتشفنا أن مكتب الإرشاد هو من كان يدير البلاد بأوامر ملزمة لمرسي؛ لأن مرسيًا كان تابعًا للمرشد حتى بعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية.
ما الأسس التي تقوم عليها هذه الهوية الإسلامية المتخيَّلة؟ وما الذي تحمله من خطورة الآن ومستقبلًا؟
تقوم على أسس عدة، أهمها رفض الديمقراطية الغربية واعتماد الشورى نظامًا سياسيًّا -وإن كانت جماعات الإخوان والسلفيون عدلوا من موقفهم من رفض الديمقراطية سعيًا للوصول إلى عضوية المجالس البرلمانية المنتخبة والانتخابات الرئاسية كما أشرنا. والأساس الثاني للهوية الإسلامية المتخيَّلة يتمثل في مكوِّنٍ معرفي أطلقوا عليه «أسلمة المعرفة» بمعنى الاستحواذ على المعرفة الغربية في العلوم الاجتماعية وأسلمتها، بمعنى إعطاء خلاصات لهذه المعرفة لكاتب إسلامي حتى يصبغها بصبغة إسلامية. والأساس الثالث هو رفض النظرية الاقتصادية الغربية بزعم أنها تقوم على الرِّبا المحرم، وتأسيس ما أطلقوا عليه «الاقتصاد الإسلامي»، وهو في الواقع خدعة كبرى؛ لأن البنوك الإسلامية لها تعاملات اقتصادية كثيفة مع البنوك الرأسمالية الربوية. والأساس الرابع ويقوم على «ذهنية التحريم»، لو استخدمنا عنوان الكتاب الشهير للفيلسوف السوري صادق جلال العظم، وهي التي أطلق عليها في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي «أسلمة المجتمع»، بمعنى فرض قيود صارمة على السلوك الاجتماعي للمواطنين، وممارسة الرقابة على الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، ويمارس فيه التحريم بكل تزمُّت من خلال مصادرة الكتب والأعمال الفنية ويتّهم أصحابها بالكفر والردّة عن الإسلام. وأخيرًا الأساس الخامس -وهو أخطرها جميعًا- لأنه يتعلق بالقيم ورؤية العالم التي تنحصر لدى المؤمنين بهذا المشروع في استعادة الماضي وتحكّمه في الحاضر، بما في ذلك رفض الحداثة الغربية، وخصوصًا الحداثة الفكرية التي شعارها أن: «العقل -وليس النص الديني- هو محكّ الحكم على الأشياء».
وخطورة الهوية الإسلامية المتخيَّلة تظهر حين تتحول إلى حركات «أصولية» لها قيادات وقواعد على الأرض، وتسعى إلى تغيير المجتمعات، سواء بالدعوة أم بالعنف. وهذا العنف مارستْه الحركات الأصولية الإسلامية بالفعل في الستينيات في مصر وغيرها من الدول الإسلامية، وترتب عليه سقوط مئات الضحايا، وقد تحول في السنوات الأخيرة على يد تنظيم «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن، ومؤخرًا في صورة «الخلافة الإسلامية» التي يتولى قيادتها الإرهابي أبو بكر البغدادي إلى إرهاب معولم يوجه ضرباته للمسلمين وغير المسلمين في مختلف بلاد العالم. بعبارة أخرى: الخطورة تتمثل في تحول هذه الجماعات التي تعتنق الهوية الإسلامية المتخيَّلة إلى حركات أصولية تعتمد العنف وسيلة رئيسة لها للوصول إلى السلطة وتحكيم شرع الله كما يفهمونه هم.
وأخطر من ذلك كله محاولة غزو العالم كله لكي يدين بالإسلام حتى لو تحقق ذلك بالإرهاب الذي يترتب عليه عادة سقوط مئات الضحايا الأبرياء. وفي تقديرنا: أن التحديد الدقيق لمفهوم الأصولية ودراسة مختلف تجلياته في الواقع له أهمية قصوى، ليس في فهم الصراعات الدموية في الحاضر التي تدور بين الجماعات الإرهابية الإسلامية والنظم السياسية العربية والإسلامية القائمة أو الدول الغربية فحسب، بل في التخطيط للمستقبل بمعنى تكاتف جهود الدول لمحاربة الإرهاب وللتخطيط المستقبلي لإشباع حاجات الشعوب المادية والمعنوية للقضاء النهائي على المشروع الأصولي بمخاطره الشديدة.
أشرت في أكثر من موضع في كتاباتك إلى تشابه نظام الإخوان المسلمين مع نظام ولاية الفقيه في إيران، هل ذلك وراء تقارب الإخوان وإيران؟
لا، لقد قلت: إن نظام الإخوان أشبه بنظام ولاية الفقيه ولكن على الطريقة السنّيّة. لماذا تطرقت لهذا الأمر؟ لأن الإخوان قبل ثورة 25 يناير عملوا مشروعًا حول تصوراتهم للدولة التي يريدون إقامتها وأرسلوه إلى المثقفين المصريين، وكنت من بين المثقفين الذين تلقوا نسخة من المشروع، واكتشفت من واقع النصوص أنه ليس سوى مشروع لتأسيس دولة دينية في مصر في ضوء مذهب ولاية الفقيه على الطريقة السنية؛ إذ نصَّ المشروع على تشكيل مجلس أعلى للفقهاء تُعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية وقرارات المجالس النيابية لإقرارها، فإنْ وافق كان بها، وإن لم يوافق فلا. وقد تخلصت الجماعة من هذا البند في المشروع بعد تلقِّيها انتقاداتٍ عنيفةً على هذا النص، لكن بعد أن كانت قد كشفت النقاب عن وجهها الحقيقي.
التأويل المنحرف
في كتابك «نقد الفكر الديني» تتبعتَ النماذج المتعددة للفكر الديني، التي لخصتها في عبارة «من يوتوبيا الإخوان المسلمين إلى جحيم داعش مرورًا بالفكر التكفيري لجماعات مثل جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية»، أَمَا من سبيلٍ لحل إشكاليات الفكر الديني؟
الفكر الديني متعدد؛ هناك فكر محافظ، وآخر متشدد، وآخر إصلاحي وتجديدي… إلخ، هناك مراوحة كاملة من التباينات والاختلافات في الفكر الديني، الشيخ محمد عبده، والشيخ عبدالمتعال الصعيدي، والشيخ علي عبدالرازق، كانوا من المجددين، سيد قطب كان تكفيريًّا متطرفًا، بل هو إمام المكفرين وصاحب نظرية التكفير الأساسية، إذن هناك تعدد وفروق فيما يسمى الفكر الديني.
وقد مارستُ نقدًا للتوجهات المتطرفة في هذا الفكر التي لو تحققت لأدت إلى تفكك الدول العربية والتغيير القسري لهويتها الوطنية وتوجهاتها القومية. وبدأتُ هذا المشروع النقدي في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وجمعت أبحاثي في هذا المجال في كتاب من جزأين عنوانه: «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادي والعشرين»، نشرتْه في عام 1996م المكتبةُ الأكاديمية بالقاهرة. وخصصتُ الجزء الثاني لأبحاثي النقدية للفكر الديني وجعلت عنوانه «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر». وعلى الرغم أن هذا الجزء ضم أبحاثًا ومقالات عدة في هذا المجال، فإن أهم ما فيه في الواقع هو تسجيل دقيق للمناظرة التي دارت بيني وبين يوسف القرضاوي لأسابيع عدة على صفحات جريدة «الأهرام». هذه المناظرة لم أخطط لها، وبدأت بمقالة نقدية عنوانها «الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ»، وسرعان ما ردّ عليها الشيخ القرضاوي بمقالة حاول فيها تفنيد آرائي حول أوهام إحياء نظام الخلافة الإسلامية، ورَدَدْت عليه بمقال عنوانه: «الإمبراطورية والخليفة»، واختتم الشيخ القرضاوي المناظرة بمقال أخير له عنوانه: «تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة».
هذه المناظرة كانت حوارًا فكريًّا، مقدمة رصدي لتحول الفكر النظري لجماعة الإخوان إلى فكر إرهابي يقوم على تكفير غير المسلمين، بل على تكفير المسلمين أنفسهم، وخصوصًا الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية والجماهير المسلمة التي تستسلم لهم ولا تخرج عليهم. وقد تبنَّت هذا الفكر التكفيري جماعتان إرهابيتان مصريتان هما: جماعة «الجهاد»، و«الجماعة الإسلامية»، اللتان قامتا بأعمال إرهابية عدة كان أبرزها واقعة ذبح السياح في مدينة الأقصر.
وهناك كتابات نقدية مبكرة لغيري أبرزهم عبدالرحيم علي، الذي كان يكتب منذ الستينيات وجمع وثائق عديدة عن الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وله كتب في نقد الفكر الديني مبكرة جدًّا عن الإخوان المسلمين وغيرها، وهناك كُتَّاب آخرون، لقد حُلِّلَت الظاهرة وتُوصِّل إلى صُلبها، كاشفة أن هذه الجماعات جماعات إرهابية تتستر وراء آيات قرآنية وأحاديث وتمارس «التأويل المنحرف والتأويل الخاطئ».
ما مصير إستراتيجيتك الثقافية التي طرحتها منذ ما يقرب من عامين لإصلاح المنظومة الثقافية المصرية؟
هذه الإستـراتـيـجـــيـة خـضـعـت لـحـوار مجتمعي؛ أولًا وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور كوّن لجنتين متخصصتين، قمتُ بطرح الإستراتيجية أمامهما وجرت مناقشتها، ثم طبع منها آلاف من النسخ وعُرضت على الشباب لإجراء حــــــــــــــوار مجتمعـــــــــــــي، ونتـــــــــــــائج هـــــــــــــذه الحوارات موجودة في الوزارة، لكن لم تستكمل العملية ومن ثم لم تخرج الحوارات بوثيقة عمل. وعقب خروج جابر عصفور من الوزارة ومجيء وزير آخر انتهى الأمر، كالعادة، ليس هناك استمرارية؛ الوزير الجديد لا يستكمل مشروعات الوزير السابق ويبدأ من الصفر، تقليد بيروقراطي مصري أصيل.
كيف تقرأ المشهد الثقافي المصري الآن؟
أقرؤه كما قلت في الإستراتيجية الثقافية المنشورة، أنه في ضوء المؤشرات الاجتماعية، نرى التالي: معدل الأمية في مصر 26%، و26 مليون مصري تحت خط الفقر، و18 مليونًا يعيشون في العشوائيات، وهذا يشكل كارثة ثقافية، هذه ملايين من السهل غزو عقولها البسيطة بالأفكار المتطرفة، من هنا جاء عنوان الإستراتيجية: «نحو سياسة ثقافية جماهيرية»، بمعنى أننا ما لم نصل إلى الملايين في القرى والنجوع فلا أمل، من خلال قصور الثقافة، مع تطويرها وتكوين كوادر ثقافية مدربة في وزارة الثقافة، تعود إلى قصرها لتؤدي مهامها في نشر فكرة الإسلام الوسطي والوعي الثقافي والاجتماعي.
هل ترى إمكانيةً لتطبيق إستراتيجيتك الثقافية؟
لو أن هناك إرادة سياسية أو إرادة ثقافية حتمًا كانت ستتوافر الإمكانية لتطبيقها.
المتابع للحركة الثقافية العربية والمصرية أيضًا يرى انقسامًا بين المثقفين حول ما يجري في المنطقة العربية… ما تفسيرك لذلك؟
لا مشكلة في ذلك؛ لأن هذا منطقي؛ لاختلاف الأيديولوجيات السياسية وتقدير المواقف والأحداث، قبل الثورات، 25 يناير وغيرها، ألم تكن هناك انقسامات بين المثقفين العرب؟ بالطبع كان هناك انقسامات حول الوحدة والقومية العربية، الطريق نحو التنمية الاشتراكية، غزو العراق للكويت، تيارات الإسلام السياسي. الانقسامات موجودة وفي كل المجتمعات بما فيها المجتمعات الغربية؛ في فرنسا يوجد يمين ووسط ويسار، فهذا وضع طبيعي، وليس انقسامًا لكن تيارات سياسية متصارعة، والمثقف حسب أيديولوجيته وتكوينه الثقافي وتربيته وقراءاته وانحيازاته يتخذ مواقفه. إن ثورة 25 يناير ليس هناك إجماعٌ عليها؛ هناك المؤيدون وهناك المعارضون، وهناك المتشككون، وهذا منطقي في أي ظاهرة تاريخية أو سياسية أن تحدث اختلافات في التقييم.
وماذا إذا كان هذا الخطاب الثقافي تقليديًّا ويفرض سيطرته على الخطاب الحداثي العصري؟
نعم، هناك خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربى، ويخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبَّث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب، وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها ومن غير أن يعرف القوانين التي تحكمها، ومن سماته إلقاء مسؤولية القصور والانحراف على القدر أو على الضعف البشري أو على الأعداء، وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيرًا ينزع -في بعض صوره البارزة- إلى اختلاق عوامل مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغضّ النظر عن إمكانية التطبيق، أو بُعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر وللمجتمع وللعالم، وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة يأخذ منها بلا عقد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراءات نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، إضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري، ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاتُه الإرهابَ المادي أو الفكري.
الإسلام الليبرالي
أثرت في كتاباتك أيضًا مسألة وجود نظرية الإسلام الليبرالي، وهي أميركية بالأساس، أين تكمن جذورها وماذا كان المستهدف منها؟
إن نظرية الإسلام الليبرالي نظرية أميركية تستهدف إمكانية إنشاء إسلام ليبرالي لتجنيد شركاء إسلاميين معتدلين لتنفيذ المخطط الأميركي في المنطقة، والأب الحقيقي للنظرية هو عالم السياسة الأميركي المعروف «ليونارد بايندر» في كتابه «الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية» الصادر 1978م، وهو دراسة للعلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، يضع فيها المؤلف في اعتباره الرأي الذي مؤدَّاه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح أساسًا أيديولوجيًّا لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط. ويتساءل فيما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية.
وقد تبلورت هذه النظرية في التقرير الإستراتيجي الخطير الذي كتبته الباحثة «شيرلي بينارد» التي تعمل في قسم الأمن القومي بمؤسسة راند الأميركية، الذي صدر عام 2003م بعنوان «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والإستراتيجيات». والغرض من هذه النظرية تسويغ شرعية الإخوان المسلمين في الحكم؛ لأن الإخوان في نظر الأميركان معتدلون بالمقارنة مع الجماعات المتطرفة والإرهابية الأخرى. ومن هنا كان تأييدهم لحكم الإخوان وغضبهم وعدم اعترافهم بثورة 30 يونيو، ثم إزاحتهم من الحكم في 3 يوليو. كان الحلم الأميركي هو التحالف مع الإخوان كحائط صد ضد داعش والحركات المتطرفة والإرهابية الأخرى، بزعم أن الإخوان أقل تطرفًا وأكثر اعتدالًا، وهذا وهم من الأوهام.
انهيار الدولة الوطنية
كيف ترى المشهد العربي الراهن في ضوء ما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن؟
سوف أصف لك المشهد الراهن: بعد 25 يناير 2011م انهارت الدولة الوطنية العربية، انهيار الدول، سوريا وليبيا واليمن والعراق، الملمح العربي الأساسي انهيار الدولة الوطنية، والتحدي المطروح على المشهد الآن والمهمة الكبرى: هل سنستطيع إقامة وبناء الدولة الوطنية مرة أخرى أم لا؟ الأمر بحاجة إلى جهود ضخمة، يعني سقطت ليبيا في يد القبائل فهل نستطيع استرداد الدولة منها؟ نفس الأمر في سوريا واليمن والعراق، هذا هو التحدي الحقيقي أن هناك انهيارًا في النظام العربي نتيجة انهيار الدولة الوطنية.
ما رأيك في قضية الصراع الشيعي السني، وهل هذا الصراع حقيقي؟
بالطبع الصراع حقيقي؛ لأن العقائد الشيعية عقائد منحرفة في الأصل، لقد نقلوا الصراع القديم على الخلافة إلى الحاضر، يعني الهجوم على الصحابة أمر غير مقبول مطلقًا، مذهب ولاية الفقيه غير مقبول سنيًّا؛ هناك خلافات في المعتقد الديني، وهناك خلافات سياسية في شكل الحكم، في إيران هناك ما يسمى «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، و«المرشد الأعلى»، و«الولي الفقيه»، هذا غير موجود في الفكر السني، في الفكر السني هناك الخليفة. وهذا بالطبع يستدعي صراعًا؛ لأنه خلافات جوهرية في العقائد الدينية، يعني أهل السنة لا يقبلون إطلاقًا الطعن في الصحابة، وجزء من الطقوس الشيعية هو الطعن في الصحابة، أيضًا لديهم مذهب خاص «ولاية الفقيه» لا وجود له لدى أهل السنة والجماعة.
في رأيك: هل تتمدد إيران في المنطقة في ظل الانقسام بين أهل السنة؟
التمدد الإيراني يرجع إلى أمور دولية وإقليمية، وليس له علاقة بوضع السنة، لكن له علاقة بأوزان القوى النسبية في الدول العربية، هناك محظورات على إيران دوليًّا ألا تتمدد على حساب دول أخرى، وهناك محظورات إقليمية أيضًا عليها، لن تقبل الدول بالاستعمار أو الاحتلال أو السيطرة من جانب إيران، لكن محك المسألة ميزان القوى النسبي لكل دولة وقدرتها على إيقاف التمدد، هذه هي الفكرة، وليس للأمر علاقة بكونها شيعية أو سنية.
صياغة دور الدولة
أوضح المفكر العربي السيد ياسين أن 30 يونيو شهد أحداثًا جسيمة، وقال: إن الدولة المصرية «استطاعت أن تستردّ هويتها الوطنية التي كادت أن تشوهها جماعة الإخوان، وكما قلت سابقًا، لا تؤمن بفكرة الوطن ولا الوطنية، إنما تؤمن بالأممية الإسلامية؛ كلام خطير. ما حدث في 30 يونيو هو عودة الدولة التنموية، الدولة التي تخطط للتنمية وتقوم بها بأجهزتها من دون أن تستبعد القطاع الخاص، فالنظام السياسي الجديد الذي انبثق من ثورة 30 يونيو يعيد الآن صياغة دور الدولة ويفسح الطريق واسعًا وعريضًا لعودة نموذج الدولة التنموية التي رسختها ثورة يوليو 1952م، باعتبار أن مهمتها الرئيسة هي التنمية الشاملة من خلال القيام بمشروعات قومية كبرى».
ولفت إلى أن الرئيس السيسي «بدأ هذا العصر التنموي الجديد في مصر بمشروع قناة السويس الجديدة التي اعتمد فيها لأول مرة في تمويلها على الاكتتاب الشعبي الذي نجح نجاحًا ساحقًا، وعلى الإدارة الهندسية للقوات المسلحة في تنفيذه في عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام كما كان مقدرًا، وتم ذلك على أعلى مستوى. وقد تُوِّج هذا المشروع القومي الكبير بافتتاح تاريخي حضره جملة من ملوك ورؤساء العالم. وقد أعلن أيضًا عن مشروع زراعة المليون ونصف المليون فدان، إضافة إلى مشروع بناء عاصمة جديدة. ويعني ذلك أن الدولة التنموية عادت بأقوى مما كانت حتى في الحقبة الناصرية، ولم تعد التنمية إقطاعًا للنظام الخاص كما فعلت الدولة في عهد السادات أو في عصر مبارك الذي تزاوجت فيه السلطة مع الثروة؛ مما أدى إلى استفحال الفساد وإفقار ملايين المصريين».
إلا أن هذا -في رأي السيد ياسين- لن يحل المشكلة، «إذا كانت الدولة تتجدد لدولة تنموية فإن بقية المفردات السياسية لم تتجدد، الأحزاب السياسية التقليدية لم تتجدد ومنظمات المجتمع المدني لم تتجدد والمثقفون والحركة الثقافية لم تتجدد معرفيًّا، والنخب السياسية لم تتجدد. كيف تتجدد الأحزاب السياسية؟ بأن تصبح أحزابًا تنموية ومواكبة ومتناغمة مع الدولة التنموية الصاعدة، فلا بد من قيام هذه الأحزاب بثورة مؤسسية -إن صح التعبير- من شأنها القضاء نهائيًّا على البيروقراطية الحزبية، ووضع تقاليد رفيعة المستوى لدوران نخبة القيادات الحزبية، بحيث لا تبقى قيادة حزبية ما -أيًّا كان موقعها- أكثر من عامين؛ سعيًا وراء تجديد دماء الحزب، والدفع بصفوف الشباب إلى الأمام، وتفريخ القيادات الحزبية التي ستصبح من خلال الممارسة هم رجال الدولة في قابل الأيام. كذلك منظمات المجتمع المدني التي تركز على حقوق الإنسان على الطريقة الغربية نسيت حق الإنسان في العمل والسكن والرعاية الصحية، أليس بناء الرئيس عبد الفتاح السيسي مساكن جديدة لسكان العشوائيات في الأسمرات احترامًا لحقوق الإنسان، أم أن حقوق الإنسان فقط حرية التظاهر؟ هناك حقوق إنسان ثقافية واقتصادية».
وتطرق إلى الكتاب الذي أصدره في المركز العربي للبحوث والدراسات، وقال: إنه ناقش فيه «أهم المشكلات التي تواجه الدولة التنموية الراهنة، وهي: النظام السياسي وتوجهات السياسة الخارجية والسياسات الاقتصادية الجديدة والممارسة السياسية الواقع والمستقبل، والمشكلات الاجتماعية الراهنة وسياسات الشباب والأوضاع الثقافية والسياسة الثقافية الجماهيرية المقترحة، وتطوير السياسات التعليمية، وترشيد السياسة الإعلامية ودور الإعلام في مواجهة الإرهاب، والمحليات الواقع والمأمول، وأخيرًا السياسات البديلة للطاقة. إنها خريطة تحليلية ونقدية كاملة للمشكلات المصرية الراهنة، كلُّ خبيرٍ في تخصصه يقوم بالوصف الدقيق للمشكلة محل البحث باستخدام المؤشرات الكمية والكيفية، وأن يقوم باقتراح سياسات بديلة للسياسات القائمة، مع اقتراح مشروعات القوانين المطلوب إصدارها لتطبيق السياسات المقترحة. إذن المعارضة هنا معارضة نقدية علمية بنّاءة وليست غوغائية أو مظاهرات».
ويرى ياسين أن مصر تسير على الطريق الصحيح، «إذا تجددت المؤسسات والأحزاب والمنظمات وأصبح لدى المثقفين فضيلة التجدد المعرفي، لا بد من التعرف إلى التغيرات العالمية ومنطق هذه التغيرات، العالم يتغير ولا يعرفون عن هذا التغير شيئًا، والنخب السياسية القديمة والجديدة لا بد أن تتجدد، والأحزاب لا بد أن تصبح أحزابًا حقيقية، وأن تمارس على نفسها النقد الذاتي لكي تخرج برؤية تعمل عليها وفقًا للدولة التنموية التي شرعت في البدء. انظر إلى حزب الوفد، هناك انشقاقات حول زعامة الحزب».
المنشورات ذات الصلة
جون ميشيل مولبوا: أكتب كثيرًا بالأذن بإنصاتي في الوقت نفسه لما تفكر فيه وتغنيه الكلمات
وُلد جان ميشيل مولبوا في مونبليار سنة 1952م، وبدأ النشر منذ سبعينيات القرن الماضي. وهو ناقد أدبي في مجلة la Quinzaine...
إيمري كيرتيس: بدأتُ العيش حقًّا منذ اليوم الذي عرفتُ فيه ما الذي أريدُ كتابَته
إيمري كيرتيس هو أول كاتب مجري يفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 2002م، «لكتاباته التي تمجد تجربة الفرد الهشة إزاء الحكم...
جوليا كريستيفا: تودروف حذرني من رولان بارت لأنه لم يكن ماركسيًّا بما يكفي
أبصرت جوليا كريستيفا النور ببلغاريا في عام 1941م، وهاجرت في ريعان شبابها إلى باريس، وانفتحت على التيارات الفلسفية...
0 تعليق