ويمضي هاشم شفيق قائلًا: «لو رجعنا قليلًا إلى الوراء ورأينا حال الشعر وقارنّاه باليوم؛ لوجدنا الشعر في هذه الأزمنة أكثر انتشارًا من السابق. الشعر اليوم بدأ يصعد معراجًا جديدًا مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث، فالفيسبوك ساعد على انتشاره رغم تسميته بفن القلّة، كما جاء على لسان الشاعر الإسباني الكبير رامون خمينيث، وتُدُووِل من بعده، ووسّع من مدلوله الشاعر المكسيكي أكتافيو باث. الشعر لن يموت كما يشيع بعض حسّاده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبيرية وجمالية معيّنة، هو مثل أيِّ فنٍّ آخر، أصابه تطوّر جمالي ملحوظ، وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة والمجاورة له، كالموسيقا والرسم والسرود عالية الفن والمُكنة. لقد تطوّر الشعر وشهد ثورات كثيرة، استهدفت الشكل والمحتوى وطرائق التعبير، وجاءت على كل تاريخه لتقدّمه بحُلّة مختلفة».
وعلى سبيل المثال، أعرف شاعرًا تشرد كلاجئ في أربع محافظات هو وعائلته.. وآخر طالته ثلاث رصاصات آثمة وسط العاصمة من بلاطجة، والأرجح بسبب آرائه، فيما أجرى ثلاث عمليات في ثلاث دول.. وآخر قطعت الميليشيات راتبه ومصدر دخله الوحيد، فقرر ترك المدينة والعودة إلى قريته علّه ينجو.. وآخر وقعت قذيفة عشوائية على منزله وما زال يسكن فيه متصالحًا مع كل هذا العبث.. وآخر غادر اليمن لمدة وجيزة كما قال، ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ لأن الحرب دمرت منزله وتشردت عائلته وهو بعيد لا يملك قيمة تذكرة العودة.. وآخر قُتل شقيقه في انفجار انتحاري؛ لأنه كان موجودًا في مكان الحادث بالصدفة، وحتى اللحظة لا يزال ممسوسًا لشدة وقع الحادث على ذهنه.. وآخر زادت حالته النفسية سوءًا؛ لأنه يخضع لعلاج عصبي لا يتاح بسهولة من جراء الحرب.. وآخر انضم للمقاومة.. وآخر انضم للحوثيين.. وآخر فقد مصدر رزقه؛ لأنه يعمل في صحيفة قرر الانقلابيون إغلاقها.. وآخر صار يبيع منتجات غذائية مهرّبة على أحد الأرصفة ليسدّ رمقه.
وهكذا.. على نحو فجائي وصلت اليمن إلى مصاف اللحظتين العراقية والسورية الأكثر مرارة عربيًّا، فيما تملشن وتعسكر كل شيء حول اليمنيين على نحو طائفي ومناطقي بغيض.
ثم ها نحن في خضم اللحظة المارقة التي صارت مملوءة بالحقد والهوس والخيبات واللاتسامح واللاعقلانية. والحال أن معظم الخطابات في ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة، لا تهمها فكرة الوطن والمواطنة للأسف، ما بالكم بالإبداع والتجريب. كما أن اللغة من الطبيعي أن تأتي هشة وخاوية إلا ما ندر.
فحيث تدور المعارك منذ نحو عامين في كل الجهات؛ صارت العزلة أحيانًا -وغالبًا السخط- هوية الشاعر اليمني الحديث، إضافة إلى المثقف الذي يحترم ذاته والأكثر حساسية، كأقل احتجاج ضد ما يجري.
ووسط هذه التغريبة وأهوالها المزدوجة، يعيش الشاعر اليمني خاصة والمثقف عامة.. في خضم الصراعات المعقدة القائمة اليوم، يحاول المثقف الموضوعي جاهدًا الانحياز إلى ما يمثل جامعًا وطنيًّا، والتموضع داخل حلم المدنية والعدالة والقانون.
الحاصل أنها الهزة الأشد عنفًا في المجتمع اليمني التائق للتغيير. كما طالت اللغة ومحمولاتها. لذلك فإن التفاؤل تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه الامتيازات من إدانة مثلى للواقع. لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد العرامي مثلًا:
أما ونحن في صميم الحرب، فيمكننا أن نجد خلاصة اللاشيء أيضًا بمحاذاة كل الأشياء، تمامًا كما في قصيدة «هدنة» لجلال الأحمدي:
إنها تشبه التّعب والذكريات الجريحة».
«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأسي.
بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي.
سمعته يتحدث عن الحرية ويئنّ».
يبقى «الشهداء أقل ضحايانا، نحن الضحية ﻻ الراحلون» كما يقول الشاعر فارس العليي، ويضيف :«ربما ذهبت القصائد أحيانًا لأداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية الإحساس الدائم بأنك شاعر ومكون لموقف ينحاز دائمًا للخفة، ﻻ أدري كيف أشعر الآن على نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فلاح مهمل للأرض ويشعر بلا جدوى الاستمرار في الاعتناء بها».
ويتابع العليي: «إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية داخلية، شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق واللاجدوى من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها في الوجود الإنساني، سوى المواقف غير المكتملة لجمل وعبارات تتنافر في الجمال بما لا يفضي بدلالة تقول على وجه التحديد شيئية، وطالما تستمد الحداثة الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوضى والعشوائية والتسارع المحموم للنقائض حد تلاشي الإشارات وتوهجاتها الفجائي، فإن الصورة المنعكسة من الاضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن الشعراء بتكريسها في النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من هوامش بالإمكان الإمساك عندها برأي يأخذ مكانه في العالم».
لكنه يستدرك: «لست ضد هذا إنما أشعر بالامتعاض من التأويل والأسلوبية وإصرار التفكيكية على تشتت الوجود، والتلقي المقرفص ونحن هناك في السريالية غائطين حينًا وجافين دون قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم لا معقولة وتفوق التصور والاحتمال».
ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبير، على تحول أصدقائها إلى أطراف وخصوم، «لكن الأكثر إيلامًا أن يكون في أصدقائك من هم أطراف وخصوم بالمؤازرة… أنا لا خصم لي سوى من يباعد بيني وبين وطني… وطني يتسع لهم جميعًا، ووطنهم يضيق بي!». وتضيف: «لكثرة أعداد القتلى والموتى التي تشهدها أيامنا هذه تعذر علي القيام بواجب العزاء أولًا بأول. فليعذرني المحزونون وليتقبلوا حزني. كذلك؛ لكثرة جرائم الحرب وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولًا بأول».
ولا تفقه مما لمسته شيئًا.
ورميت في البئر أصابعك.
وفيما يتعلق بخصوصية التجربة الأردنية، شهد العقد الأوّل من الألفية الثالثة فورةً شعرية نوعية في الأردن ببروز ثلّةٍ من الشعراء الشباب من الجنسين أكثرهم من طلبة الجامعات، غير أن تلك الفورة أخذت تخفت بحسب الشاعر والناقد والأكاديمي خالد الجبر، في ظل «التغيّرات الهائلة في الحياة الاجتماعية، وتراجع الاهتمام بقطاع الشباب، وانحسار الاهتمام المجتمعيّ بالشعر نتيجةً لتركيز النقّاد والمؤسّسات الثقافية على الرّواية، وذبول الوجدان الجمعيّ حيال القضايا الكبرى».

خالد الجبر
ومع ذلك، فإنّ عددًا من كتّاب الشعر تمكّن من تحقيق منزلةٍ واضحةٍ في العالم العربيّ؛ ومنهم بحسب الجبر: نبيلة الخطيب، ومها العتوم، وراشد عيسى، وناصر شبانة، وسعيد يعقوب، وعماد نصّار، ومحمد مقدادي. ويرى الجبر أن شعراء القصيدة الكلاسيكية وشعراء التفعيلة تمكّنوا من تجاوز العقبات التي فرضتها «مصادرات الوسط الثقافيّ المنحاز إلى قصيدة النثر منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ممتدّين بالقصيدة تشكيلًا وبنيةً وصورةً ولغةً إلى آفاقٍ بدتْ ذات حينٍ في العصيّ البعيد. وهو ما يجعله يؤكد أن بإمكاننا النظر اليوم إلى التنوّع البادي في الحالة الشعرية في الأردنّ بكثيرٍ من التفاؤل، مطمئنّين إلى استعادة الشعر مكانته اللائقة في الحياة الأدبية على مستوى الأمّة».

نبيلة الخطيب
أما الشاعرة نبيلة الخطيب، فتقول: إن «حديث الواقع يختلف عن حديث التاريخ، وإن كانت العلاقة بينهما جذرًا وساقًا، أو ساقًا وفرعًا، أو فرعًا وثمرًا». وتضيف أن هذا يصْدُقُ على الأردن؛ «ذلك أن هذا البلد مرّ بخطّ لا عوج فيه، ولا مفارقات كبيرة، بحكم «دكتاتورية» موقعه الجغرافي الذي فرض عليه نمطًا متشابهًا من الأحداث والمواقف، فإذا نظرنا إلى مصطفى وهبي التل (عرار) نراه امتدادًا لشعراء النهضة في ديار الشام في وجه الاستعمار، حتى شكّل مدرسة ما زالت مؤثِّرة في الواقع الحديث، وإن دخل على الشعر بعض الاستحداث الفني».
ولأن الــشعــــر الأردنـــــــي هو ابنُ واقعه بالضرورة، كما تؤكد الخطيب، فإنه لا يستطيع أن ينسلخ من لحم عروبته وفلسطينه وقدسه وأقصاه، «فكانت هذه الجمرة المتقدة التي قبض عليها الشاعر الأردني، وبخاصة بعد هزيمة 1967م، فعاش الهمّ القومي والإقليمي والوطني مشبعًا بمضامين الوحدة والتحرر والتحرير، وعذابات الأخ الشقيق، حتى وصل اليوم إلى مآسي الإخوة الأشقاء». والخطيب تردّ عدم اهتمام الناس بالشعر في زمننا إلى عاملين: «أولوية المعيشة، والبحث عن مستوى من الكرامة مفقود، وعدم وصول الشاعر إلى مستوى تطلعات وحاجيات الفرد العادي ولا حتى المثقف، فكانت المسافة بين الشاعر والناس بائنة، بل هي تزداد بينونة! هذا هو المأزق الحقيقي الذي يواجه الشعر ويجعله ينحسر حتى يكاد يغلق على نفسه الأبواب، رغبًا ورهبًا؛ إذ لا ينفصل واقع الشعر العربي اليوم عن الواقع المتشظي».
مئات الشعراء وآلاف الأدعياء

ناصر شبانة
أما الشاعر والناقد والأكاديمي ناصر شبانة فلا يتردّد في القول: إن الساحة الأدبية في الأردن «تغصُّ الآن بعشرات الشعراء ومئات الأدعياء، الذين يطلق عليهم «شعراء الفجأة» ويظهرون كالفطر على المواقع الإلكترونية، كما تمتلئُ الساحة بالمجاميعِ الشعرية، وتشهد إقامة الأمسيات والفعاليات سنويًّا، لكن النقد يبدو غائبًا أو شبه غائبٍ عن الساحة، فـبات أبطال العلاقاتِ العامّة والصفحاتِ الإلكترونيةِ، يتسيّدون المشهد، وانزوى الشعراءُ الحقيقيون المنشغلون بمشاريعِهم الشعريةِ الحقيقية إلى الظلِّ ترفُّعًا ونشدانًا للسلام، في حالةٍ غرائبية لا نعرفُ كيف ولا متى ستنتهي».
ويعود شبانة إلى الوراء ليبين أن عنوان المرحلة هو «عقود متتالية من الشعر والهزائم»، فلو عدنا بذاكرتنا خمسين عامًا إلى الوراء، وتأملنا المشهد الشعري في الأردن، لوجدناه بكائيًّا بامتياز، يقفُ على أطلالِ الأمجادِ الغابرة، يتأملُ اللحظةَ الراهنة، يعقدُ مقارناتِه المكرورة، ويـــــــعــــــيـــــدُ تقيــــــيمَ رهـــــــانتِــــه الخاسرة، كلما ارتفعَ مــــــنـــــســـــــوبُ الأملِ لــــديـــــــه حاصرتْـــــــه الخيـــــبـــةُ مـــع كـــلِّ هزيمةٍ جديدة». ويستنتج شبانة من ذلك أن قدرَ الشعرِ في الأردن «أنْ يظلَّ سياسيًّا بامتياز، وأنْ يظلَّ يرنو بعيونِه إلى غربِ النهر، حيث البوصلة؛ ليعيدَ إنتاجَ الواقع، بقليلٍ من اليقين، وكثيرٍ من الألم». ويربط شبانة بين سقوطِ ما تبقّى من فلسطينَ في أيدي عصاباتِ اليهود، وسقوطِ الجولانِ وسيناء، وبين عجز العربِ –ومنهم الأردنيون- عن التحرُّر سوى على مستوى القصيدةِ والشعر، «فراح الشعراءُ يوسِّعون جنباتِ القصيدة، ويغيِّرون شكلَها، ويتخلَّصون من قوافيها، وأنظمتِها القديمة، في ردةِ فعلٍ غيرِ واعيةٍ على هزائمِ السياسيين والعسكريين على السواء». ويلفت إلى أن الشعر الأردنيّ صوّر انكساراتِ الشاعرِ الذاتية والجمعية، فقد «نشأ الشاعرُ العربيُّ على الخيبة والانكسار والهزيمة، وما كان بقادرٍ على تزييف وعيه، أو الخروج من عباءة الواقع، حتى غدا تيسير سبول بوضْع حدٍّ لحياتِه نموذجًا لحالةِ الرفضِ والهزيمةِ التي يعيشُها الشاعر».
وتمثل حقبة الثمانينياتِ أغنى الحقبِ الشعرية في الأردن؛ لأنّها شهدتْ ولادةَ جيلٍ شعريٍّ متعلمٍ ومثقّفٍ من جهة، وبات لديه وعي سياسيٌّ وحصانة ضدّ أنواع الوهم التي سقط فيها الشعراء السابقون، فلم يعد ينخدعُ بالأملِ الكاذب، وبات أقربَ إلى فهم الواقعِ على سوداويَّته وكآبته، ومن هؤلاء مثلًا: زهير أبو شايب، وعبدالله رضوان، وطاهر رياض، ويوسف عبدالعزيز، وحبيب الزيودي، وعمر شبانة، وجريس سماوي، وراشد عيسى، وأحمد الخطيب، وعمر أبو الهيجاء، ومحمد سلام جميعان.
وفي التسعينيات بزغ نجمُ جيلٍ جديدٍ من الشعراءِ الشبابِ أُطلق عليهم «شعراء التسعينيات» مالوا إلى تشكيلِ جماعاتٍ أدبية تحملُ طابعًا شلليًّا؛ كجماعة النوارس، وجماعة «سين» الأدبية وغيرهما، كما جنحوا في طابعٍ لافتٍ إلى «الصعلكة والتسكُّع»، فكان لهذا أثرٌ في شعرِهم الذي مال إلى الحزن والعبثية واللوذِ بالمرأة، والشكوى والتذمر.
أفخاخ الثنائيات

خلدون امنيعم
ووفقًا لما يراه الشاعر والأكاديمي خلدون إمنيعِم، فإنّ ثمة مسارات ورؤى ومشارب متنوعة تحكم ذهنية منتج النص الشعري، لم تنجُ من «أفخاخ الثنائيات» التي حكمت الشعر العربي الحديث، بين مسرب التقليد والاتباع مثلما هو في نصوص زهير أبو شايب ومحمد سمحان وحيدر محمود – مع اختلاف الرؤى- وغيرهم من جهة، والتجريب والإبداع مثلما هو في نصوص زياد العناني ومحمد العامري وراشد عيسى من جهة أخرى. غير أن ما رسخه منتج النص الشعري في الأردن دار في «فلك الاتباعية»، فنأى الشعرُ كما يقول إمنيعِم، عن كونه نصًّا إبداعيًّا تجاوزيًّا في الرؤى، «وإن كانت مشاربه متنوعة بين التقاليد الموروثة وفق معجميات الأمكنة والأزمنة للنص المنتَج على مقاس السلطة الأدبية والنقدية، وتوجيه الذائقة القرائية الملهمة والمثقّفة لتطور تقاليد القصيدة الغربية». ويتوقف إمنيعِم عند تجارب انماز أصحابُها في تقديم مشاريع متفردة، «مخضعةً الموروثَ لسلطة التساؤل والتجاوز والمغايرة»؛ لتكون بعض المجموعات الشعرية مشاريع رؤيوية لأصحابها، من مثل «شمس قليلة» لزياد العناني، و«ممحاة العطر» لمحمد العامري، و«ما أقل حبيبتي» لراشد عيسى.
وهو يرى أن الشعر في الأردن استطاع أن يحظى بمكانة لائقة -على قلّة جمهوره- ذلك أن الرواية تحديدًا «تحتل المساحة الأوفر حضورًا ومقروئية»، إضافة إلى دور الحراك المسرحي في تراجع حالة التلقي الشعري، خلافًا لما كان عليه الأمر في عقود سابقة، غير أن الشعر ما زال يشكل مرجعية الذائقة الأدبية، وثمة جمهور للشعر «قادر على تمييز ما يُطرح بعيدًا من شكلانية التواصل وأدواته».
وبشأن الأسئلة والتساؤلات الـــجـــــــذريــــــة الـمـلـقــــاة عـلـــــــى عــــــــاتـــــق الشـــاعر، التي يَجْهَد ويُجْهَد في تقصّيها وتتبّعها، فمن أبرزها بحـــــــســــــــــب إمنيعِم، مـا يتعلـــــــق بالراهن الثقافيّ والشعريّ العربيّ ومآلاته، وانعكاسات «الربيع العـــربــــي» الدمــــوي عــلـــــى الإنســـان والأرض من جهـــة، وأسئلة الحرية والهوية والذات والكينونة من جهـــــة أخرى، غيـــــر أن أكثر هذه الأسئلة إلحـــــاحًــــا -مــــــــــا يـــشكـــل حالــــــــةً تعــــالقية- سؤال المدنية والمواطنة، ومحاولات تأسيس جذر ديمقراطي ناهض يطمح إلى النجوز من خلال حوارات فكرية رصينة مع الموروث العربي وراهنه من تحديات معاصرة من دون إغفال حالة الاشتباك مع الثقافات الوافدة. ويؤكد إمنيعِم أن تبوّؤ الشعر في الأردن مكانة لائقة لا ينفي كونه عالقًا في مآزق تتعلق ببنية النص وآليات تشكيله وتشكّله؛ لهيمنة التقليد وافتقاد الخبرة الشعرية لدى الأجيال الشعرية المتأخرة، إضافة إلى افتقار كثير من المجموعات الشعرية الصادرة حديثًا للمحمولات الثقافية والفكرية والفلسفية؛ إذ «يتوهم كثيرون أن النص الشعري رهن المفردة والصورة المبتورتين عن سياقاتهما، لتقرأ نصًّا يفتقد لأدنى مقومات شعريته».

رنا أبو خالد
وتقول الشاعرة الشابة رنا أبو خالد: إن الأردن خرّج جيلًا من الشعراء المميزين، «ما زلنا نذكرهم حتى يومنا هذا، وتربّينا على قصائدهم ودرسناها في المناهج؛ أمثال الشاعر مصطفى وهبي التل (عرار). أما الآن، فيعيش الشعر واقعًا وتحديات صعبة، فعلى الرغم من بروز كثير من الشعراء الشباب الذين يمتازون بروحهم الثقافية العالية، وسلاسة اللغة وجمالية المعنى، فإن هناك كثيرًا من التحديات التي تقف عائقًا في طريقهم، وأهمها غياب الفعاليات الثقافية، وعدم تشجيعهم أو الاهتمام بهم؛ بسبب قلة الموارد المالية المخصصة لدعم الساحة الثقافية».
وتلخّص أبو خالد الأسئلة التي تواجه الشاعر الأردني بقولها: إنها «تنبع من منطلقات قصائده، وأهم المحاور التي تتحدث عنها، وطبيعة ونوعية الكتب التي يفضّلها، والشعراء الذين يتأثر بهم». وتقرّ أن غياب الاهتمام قاد بعض الشعراء إلى اتباع طرق «تحقق لهم انتشارًا أوسع وتمكّنهم من إيصال كتاباتهم بطرق حديثة؛ إذ أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ملاذًا لهم، لتفيض أقلامهم بمواهب مدفونة نتعرف عليها من خلال شاشة صغيرة».
إصرار على تبخيس الشعر وتحطيمه

موسى حوامدة
أوضح الشاعرُ موسى حوامدة أن الشعر في الأردن «لا يمكن عزله عن محيطه العربي»، وأن حاله في الأردن كحاله في بقية أقطار الوطن العربي، فـ«ما زالت الثقافة العربية رغم محاولات التفتيت والتقسيم والتجزئة متماسكة جدًّا، وما زالت كذلك تعاني الأمراض والمشاكل نفسها».
ويضيف حوامدة أن هناك تجارب متعددة وأصواتًا متفاوتة، «سواء في قصيدة النثر أو التفعيلة أو العمودي، وحتى في الشعر النبطي، وبالرغم من ذلك تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده ووضعه في مخزن اللامبالاة، حتى إن النقاد لا يتورعون عن تكرار مقولة جابر عصفور: «هذا زمن الرواية»، فتشعر كأن هناك «سياسة عربية» لمسح الشعر من الاهتمام، محاصِرةً القصيدة لتحويلها إلى نثر وسرد، والتخلّي حتى عن ضرورة الشعر وأهميته وقيمته التي لا ترتقي لها بقية الفنون».
ونتيجة لذلك، بحسب حوامدة، بدأ عدد كبير من الشعراء «يستجيبون للضغوط، فيكتبون السرد، وصار عدد من النقاد يتنصلون من مهام النقد، ويقولون: إنهم «نقاد رواية فقط»، وباتت دور النشر لا تطبع الشعر، حتى القراء صاروا يعزفون عنه لذرائع مختلفة، فصار الشاعر أشبه بـ«اليتيم على موائد اللئام»، ومَن يكتب الشعر اليوم كمن يحب بلا أمل»! ويعتقد حوامدة أن هناك إصرارًا على «تبخيس الشعر وتحطيمه، وإقامة مسابقات تافهة تجعل الشاعر يلهث خلف جوائز وبرامج تهين الشعر أكثر مما تخدمه. وعلى الرغم من ذلك ما زلنا نكتب كأننا غرقى، نتشبث بالحياة ولا نريد موت القصيدة».
راهِن الشعر في الخليج العربي
جعفر حسن
ناقد بحريني

جعفر حسن
قبل أن ندخل في النظر إلى راهن الشعر العربي في الخليج، تُرى هل لنا أن نعرج على تساؤل يعبر عن ظاهرة ربما تشمل المشهديات الأدبية في دول الخليج من دون استثناء، وذلك من خلال ما نشهده من تحول بعض الشعراء إلى كتابة نصوص سردية من القصة القصيرة إلى الرواية، ولعل بعض المتابعين يمكن له أن يشاركنا التوجس من تضاؤل دور الشاعر واختزاله في الشاعر النجم، الذي يهيمن حضوره على معظم الاحتفاليات داخل وخارج هذه الدول، ومن ثم بقاء الشعراء في الهامش المتاح.
ولعل من الصعوبات التي تواجه الشاعر في الصحافة الثقافية مثلًا، عدم تخصيص نقاد للنظر إلى النصوص، والاكتفاء بنشر نقد انطباعي، إضافة إلى تلك المشكلات التي تطرأ من ناحية صعوبة طباعة دواوين الشعر؛ فالناشرون عادة ما يفضلون الرواية؛ ذلك لأن لها قابلية للتسلع، فعلى الرغم من كل الضغوط التي تمارس على الشعر فإنه يظل يأبى التحول إلى سلعة، عبر انتشار ما بات يعرف بظاهرة الشعرية الطارئة في الدعاية والإعلام. فهل نحن أمام ظاهرة يمكن ان تهمش الشعر والشعراء؟
الشعرية العربية في الخليج
إن أكثر المقاربات للشعر في الخليج في شكل عام تتعلق باللغة من جهة، وتلك الأشكال التي تظهر فيها الشعرية العربية في الخليج من جهة أخرى. فمن حيث اللغة نجد الشعرية تعاني الانقسام نفسه بين العامية والفصحى، ولعل كثيرًا من النقاد يبعدون العامية من النقد الأدبي، ويمكن تلمس أهميتها في ظهورها من خلال الأشكال الفنية المتعددة، ومنها الشعر تراثًا ومعاصرة، فمعظم أغانينا تكتب بالعاميات السائدة، ولعل التعدد الكامن في اللهجات العامية ميزة خاصة كانت قديمًا مقصورة على القبائل العربية… ويتمظهر الشعر الفصيح في ثلاثة أشكال، وتخضع إلى ذلك التمايز بين الشكل والمضمون، فيغلب المضمونُ الشكلَ في معظم قصائد العمود سوى حالات يمكن لمسها؛ لأن فيها ما يفرضه الإيقاع على ليّ الكلمات؛ لتناسب بنيته، وهو ما ورثته الشعرية العربية من الأصول الغابرة للشعر العربي، وبذلك يظل العمود في معظمه مربوطًا بخيط الأغراض الشعرية. وأقل القليل منه ما حاول الإفلات من محاكاة القديم من ناحية بناء الجملة الشعرية والصور والتشبيهات، والخروج إلى تقنيات جديدة.
وتظهر لنا قصيدة التفعيلة بشكل جليّ في اندفاعة الشعر العربي نحو تفجير بنية العمود، وتلقف مكوناته التي استُخدم بعضها بطريقة تكرار تفعيلة واحدة وعدم الالتزام بالتشطير العمودي، ثم اندفع شعراء التفعيلة إلى تلك الحال التي قامت باستخدام التفاعيل ضمن قوانين الانتقال من تفعيلة إلى أخرى.
ويبدو أن شعر التفعيلة لقي مقاومة في كل البلاد العربية، وقاومه المؤيدون لعمود الشعر في وجه الهبة الجديدة التي كانت بداياتها مع نهاية الستينيات في الخليج العربي، وهي لحظة لاحقة بانبثاق قصيدة التفعيلة في الدول العربية، وقد لا يعتدّ كثيرًا بالآباء المؤسسين لها؛ مثل: (السياب ونازك… وغيرهما) على الرغم من تقديمهم للنماذج الأولى التي صارت تحتذى، وكثيرًا ما اتهمت قصيدة التفعيلة في الخليج كما في الوطن العربي عامة بالغموض، وقد دارت معارك واسعة في هذا الجانب، وأُهدر فيه حبر كثير. ولعل بعضًا اعتقد بنوع من الرابطة المقدسة بين قداسة لغة القرآن (العربية) وبين قصيدة العمود، وكما يبدو للجميع فبعض قصائد العمود كانت غير مقدسة، بل بعضها كان يعبر عن نزق أرعن في وقته، وقد اتهم شعراء قصيدة التفعيلة بالعجز عن كتابة قصيدة العمود وهو ما لم يكن في أغلبه صحيحًا حتى لدينا في الخليج.
وقصيدة التفعيلة عندنا ما زالت تسمى في بعض المناهج بالقصيدة الحديثة، وهي تسمية خاطئة ما زلنا نقع عليها في بعض الكتابات النقدية. ويمكن بشيء من التفطن إدراك أن قصيدة التفعيلة قد ورثت عن العمود مكونًا جوهريًّا من مكوناته هو القافية، وقد وجد بعض النقاد لدينا أنها تعمل على إقفال قصيدة التفعيلة وعودة بعض منتجها للعمود بحكم تلك القافية التي تقفل الصورة التي تنمو داخل قصيدة التفعيلة وتحدها. ولعل كثيرًا ممن كتب التفعيلة كان بشكل ما يكتب العمود ولو بشكل تجريبي. وقد خلط الشعراء في الخليج بين الشكلين في إنتاجهم للدواوين (العمودي والتفعيلة) حتى إنهم أدخلوا العامية في إنتاج قصيدة التفعيلة. وليس عودة بعض المساهمين في كتابة قصيدة التفعيلة إلى العمود كما فعلت (نازك) وغيرها من النماذج عندنا في الخليج إلا دليل كما يرى بعض النقاد على تلك الدائرية الحاكمة للشعرية العربية كما تظهر في قانونها العامّ «القافية»، التي ظلت تشتغل داخل قصيدة التفعيلة؛ لتحيلها إلى العمود من دون تفطن بعض كتابها لخطورة ذلك القانون على القصيدة.
في اتساع الأفق
كثيرًا ما يعتقد بعض المتابعين أن التفعيلة كانت هي الناتج الوحيد من تفتت عمود الشعر، ولعله يغفل قصيدة النثر التي نشأت إلى جوارها بشكل يكاد يكون محايثًا في الخليج كنماذج مبكرة، ولعلنا نجد تيارًا من الشعراء يتبنى قصيدة النثر ويكتب فيها، بينما جرب بعض كبار الشعراء في الخليج كتابتها. وقد خص بعض الأدباء قصيدة النثر بديوان بأكمله. وواجهت قصيدة النثر ما واجهته قصيدة التفعيلة من صراعات عندنا، وقد وُجِّه لها كثير من النقد، وعاب بعض المتخصصين قصيدة النثر لأنها بلا نموذج ترجع إليه، وتبدو مسألة النموذج ما زالت تحت البحث والتقليب، فيقول أنصار قصيدة النثر بأنهم يكتبون نماذجهم التي تفرضها عليهم حساسيتهم، كما أنهم يقفون أيضًا ضد النموذج المعمم.
وتبدو قصيدة النثر أنها أخذت مجالًا لا بأس به من خطوط الإنتاج في الخليج العربي، وإن لم تثر مسألة الأسبقية فيها بعد بحثًا وتمحيصًا، وهي نزعة فكرية عندنا في البحث عن أصول للنصوص الجديدة وكأنها محاولة لتأصيلها. ويبدو ما هو متأصل في الثقافة اليوم سيغدو بحكم الزمن جزءًا أصيلًا منها. ووجدنا بعض الشعراء يكتبون قصيدة النثر منذ بداياتهم التي كانت متساوقة مع انبثاق قصيدة التفعيلة، ومن المهم الإشارة إلى أن كل تلك الأشكال التي انبثقت في فن الشعر قد أظهرت نقادها في العربية بشكل سريع. من ناحية، يبدو لي أن هناك ميلًا دائمًا للتجديد عند شعرائنا في الخليج العربي؛ ما يجعلنا دائمًا ننتظر الجديد. ونعتقد بأن من لا يرى الجديد وهو ينبثق في لحظته الراهنة سيفوته إدراك كنه التغيير الحاصل، ومن ثم سيصرّ على استخدام مقايسته القديمة التي ستحيله إلى الفشل.
زمن مختلف للشعر السوداني
محمد جميل أحمد
ناقد وشاعر سوداني

مامون التلب
لا يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته، أو أزمته، إلا تصورًا جزئيًّا مستقرًّا على هوية مفترضة، أو منعكسًا من تمثلات خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة. والحال أن تلك الأزمة ربما تتعين، فقط، إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خلال نظم إدراك نخبوية! أما الشعر في الحياة، كحاجة، فهو موجود أكثر منه، بكثير، من كونه حيازة متوهمة لنخبة ما، تحدد هويته بمقاييسها.
الشعر متصل بالحياة. وتجلياته المتلبسة بالفنون الأخرى كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة الأزمة التي يتصورها بعض المهتمين عن مطلق معناه.
اتصال الشعر بحاجة البشر، أكبر من الظن بقبول فكرة أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة المعاصرة. ربما يغيب تفصيل من الشعر يراه بعض المتابعين مقياسًا للشعر وهويته، فيزعم وهم الاختفاء والأفول.

أنس مصطفى
غياب الشعر عربيًّا، كمدونة ثقافية مشغولة، وانكفائها عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط الإبداع الأساسية (كما هي الحال في اللغات العالمية الحية) إنما هو في الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية، أكثر منها إبداعية. فالإبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها، لكن الحالات الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة علاقة للشعر باللغة ترتبط به وجودًا وعدمًا. فالشعر إذ يظل كامنًا بين الكلمات (وليس في الكلمات) يظل في حاجة إلى تسوية لغوية؛ إلى علاقة ما تجعل من امتلاك اللغة امتلاكًا لمادة الشعر ذاتها. إن حالة الاعتلال اللغوي العامة، عربيًا، (ليس بالنسبة لقراء الشعر فحسب، بل للشعراء كذلك) هي التي تساهم بقوة في تلك الإزاحة المستمرة للشعر إلى الهامش.
ثمة اغتراب في اللغة ينزاح على الكتابة الشعرية العربية المعاصرة، فيغيبها عن المشهد الثقافي العام، لكنه بكل تأكيد اغتراب لا يغيّب الشعر. فالشعر، بوصفه حاجة وصيرورة، يتشكل باستمرار في خامات متنوعة؛ من الغناء إلى السرد إلى الأناشيد حتى عبارات الدعاية والإعلان، ففي كل ذلك ثمة وجود قوي للشعر. وفيما يعزو بعض المهتمين انسحاب الشعر من الحياة الحديثة؛ لأنه الأكثر اتساقًا مع رعويات الحياة الإنسانية الأولى وبراءتها ــ احتجاجًا على صخب الحداثة المعاصرة وتذررها وقسوتها المادية ــ مسوغًا بذلك ما ليس مسوغًا في ذاته؛ فإن قوة الشعر تكمن أساسًا في قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها الأكثر شراسة في مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة المجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد إليها الشعر في كل منعطف من منعطفات الدهشة، والبداهة المتجددة مع الحياة.
تجربة الحركة الشعرية

نجلاء عثمان التوم
في الخرطوم، أحدث شعراء شباب حراكًا جماهيريًّا مذهلًا للشعر، اقتربوا به كثيرًا من حياة الناس، وجالوا على الساحات، والأسواق، والشوارع، والميادين، عبر تجربة ملهمة، خلصت الشعر من العزلة والانكفاء اللذين فرضتهما سياسات عزل طاردة أكثر من ربع قرن تقريبًا. يقول الشاعر الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية: «يوم الثلاثاء 28 يوليو 2015م، حَدَث حدثٌ عظيم، بالنسبة لي على الأقل. وتتلخّص العظمة في انعدام التخطيط: رأيتُ حركةً لم أخطِّط لها، كما تفعل الأحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك: تخطط وتخطط وتنسى، تمامًا، أن العالم ليس خُطَّة! لقد نَشَأت هذه الحركة اليوم وحدها، نبتت على الأرض كما تنبتُ الغابة. كنتُ أصرُّ على أنني لن أضع خططًا ولا تنظيمًا لفعالية اليوم ـ وما كنتُ سوى داعٍ للقاءـ مع انطلاقة الحركة الشعريّة، وقد كانت النتيجة مذهلة: لقد تكوّنت الفعاليّة من تلقاء نفسها، تمامًا كما يحدث للنبات منذ قرون. لقد بادر الناس بالقراءة حتى ذُهلت!» لقد لقي الحراك الشعري الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال: (مأمون التلب، وأنس مصطفى، ونجلاء التوم، وحاتم الكناني) في ساحة مشهورة بالخرطوم تدعى «أتنيه» تفاعلًا كبيرًا بلغ المئات من المتابعين، وبدا واضحًا، من خلال التفاعل الكبير مدى أهمية الشعر للناس.

حاتم الكناني
لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها؛ لحظة إدراك مباشر لأثر الشعر على الناس، أدرك بها الشاعر مأمون التلب سرّ الشعر وطاقته الخفية على البشر حين قارن تجربة عام 2014م التي لم يتفاعل معها الناس كثيرًا، مع تجربة عام 2015م التي وجدت صدى وتفاعلًا كبيرين بفضل قوة الشعر وتعبيره عن الإنسان وتأملاته في الكون والحياة.
يقول مأمون: «في الفعاليّة الماضية، كانت النصوص المستثيرة للتأمل قليلة، بينما النصوص المستثيرة للعاطفة والانفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه كثيرة، النصوص ذات الطابع السياسي تستثير الناس بكل تأكيد… وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة، فبتلك الصورة يخدم الشاعر حركة أخرى مكّارة، سلبته قيمته واعتداده بخياله. إننا لا نريد أن نخلق مساحةً للتعبير عن الحريّة السياسيّة، نريد أن نصنع مساحةً لحريّة التأمّل في الحياة والكون». ويعلق على الرواج الذي لقيه النشاط الشعري المكثف في تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية: «لقد أصبحت «أتنيه» ساحة مشهورة عالميًّا، بالمناسبة، ومحليًّا كذلك. بمجرّد أن تقول: أتنيه، فإن الناس يفهمون عما تتحدّث. لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تقام في تلك الساحة مكتوبٌ لها النجاح، وذلك يمثّل جزءًا أصيلًا لنجاح فعاليّة تدشين الحركة الشعريّة».
خارجيًّا، اغترب الشعر السوداني على جغرافيا واسعة لـ«الدياسبورا» السودانية، وشكلت تلك الحالة السودانية الخاصة والاستثنائية لشعراء سودانيين معاصرين (جلهم خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر السوداني؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر على زمن مختلف للشعر السوداني في الخارج.
بين زمنين، لا تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية الخفاء والتجلي التي طبعت الشعر كمدونة تعبيرية في أجناس الإبداع، عربيًّا، فغياب الفعل الشعري لا يعني غياب القوة الكامنة للشعر والموازية لممكنات وجوده في تعبيرات أخرى.
سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه
رنا نجار
بيروت

يوسف بزي
كثر الحديث عن تحوّلات تطال فنّ العرب الأول وهو الشعر، في وقت تتبدّل أحوال العرب وأهواؤهم السياسية والاجتماعية. حُكي عن أزمة لغة وتغريب من جيل يفضّل التعبير بلغة شكسبير، ويهجر لغة ابن الرومي، والمتنبي، وعمر بن أبي ربيعة، ونزار قباني، ومحمود درويش، وسميح القاسم. هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة، كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافي المواطن، ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية، وانحسار القراء وعدم الاهتمام بدواوين مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر اليوم بالأزمة، وهي سيمفونية يجب أن تتوقف، كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي، على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومًا معيارًا للشعر ولا للنقد، وأن الشعر اليوم هو المكان التعبيري الأكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن لا بدّ للشعر الذي يمثّل الإيجابية والحياة والتحريض عليها أن يبقى. فهو حاجة الناس إلى التعبير والكلام، وحاجتنا إلى الفرح والغناء والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع. الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويمرّ بسحابة سوداء، لا بدّ أن يتخطاها ويخترع رسامين لأمنياتنا وأحلامنا وأوهامنا وحبنا للحياة. هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله.
يوسف بزي: شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور
حتى وقت قريب، كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة العربية. كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها. هو الناطق بها، هو لغتها وذاكرتها ومادتها. كان الشعر بئر الثقافة العربية وموردها. ما حدث لاحقًا، هو التحولات العميقة في ثقافة الفرد العربي، وفي مصادر هذه الثقافة. تحولات في القيم والذائقة كما في وسائط نشر المعرفة، ووسائل التبادل والتواصل. حدثت تبدلات جذرية في معنى «القراءة» وأدواتها. باختصار، تلاقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو النثر، مع حاجة مجتمعاتنا المضطربة إلى السرد. جاءت الرواية جوابًا موضوعيًّا، تلبية تلقائية للتغير الذي أصاب الكتابة العربية. لا نتحدث عن «قيمة» الشعر، بل عن قابلية القراءة، وعن القارئ الذي بات في مكان آخر.
أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيين، فهم في معظمهم شعراء الحيرة. يحاولون الفكاك من إرث السابقين. يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة، من ناحية، وزمنًا تأبى فوضاه أن تنتظم في قصيدة، من ناحية ثانية. والأصعب، أنهم أتوا في وقت لا يأبه بالشعر أصلًا؛ لذا هم شعراء بلا مكافأة ولا نجومية ولا جمهور، محرومون من حيوية التداول والسجال والنقد. وحول القضايا المطروحة اليوم في الشعر اللبناني، لست أدري ما المقصود هنا بكلمة «قضايا»، فالكتابة الشعرية مفتوحة على كل ما يتصل بالوضع الإنساني ومأسوية الوجود. لكن في البحث عن خاصية ما في كتابات الجيل الجديد، قد نلحظ هذا النزوع المتجدد نحو الأنا المعزولة، التي تخاصم وقائع العالم وسيرورته.
لكن الشعر اليوم أصبح أكثر يتمًا، فلا جوائز مرموقة تحفز الشعراء، ولا مطبوعة مهمة تهتم به، ولا نقاد مهمومين بنقد الشعر؟ لازم «ازدهار» الشعر العربي الحديث، انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر (الجرائد، والمجلات، والكتب…)، كما لازمه المنبر المسرحي والمهرجاني (الأمسيات، والندوات، والاحتفالات الجماهيرية). هذه الوسائط ذاتها تذهب شيئًا فشيئًا نحو الماضي والانصرام. معنى القراءة وأدواتها، ومعنى النشر والتداول، تعرضا لتحولات عميقة. يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت، سلطة الصحيفة الثقافية، سلطة المجلة النخبوية، سلطة المنابر السياسية، سلطة الشاعر نفسها، سلطة النقد ذاتها… كلها سلطات فقدت صلاحيتها. في رأيي، كل هذا يمنح الشعر عزلة إضافية، نقاء أكثر، غربة أشد، حرية أكبر، ونثرية أرحب. لم يبق للشعر سوى نفسه. وهذا قد يكون مكسبًا عظيمًا.
يحيى جابر: أزمة حريات
إنه مأزق عالمي عمومًا. فالشعر موجود أكثر اليوم في السينما وفي الرواية، وخصوصًا في الصورة والحوار الذكي واللقطة الذكية. الشعر تغيّر مع التحولات السوسيولوجية والسياسية والثقافية، فالشاعر لم يعد وزيرًا للإعلام كما كان في السابق، ولا محرّضًا ولا رسولًا. فدور الشاعر وأنواع الشعر، هي مسائل وهمية وخرافات. فتلك الصفات والمواصفات والأسماء الضخمة مثل شاعر الثورة، أو شاعر الفلسفة، أو شاعر البياض، أو الشاعر الوجودي، كلها انتهت مع الثورة التقنية الرقمية. وأصبح هناك فيسبوك وتويتر وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغيرها، وكلها يكمن فيها الشعر بشكل أو بآخر.
الطموح إلى السلطة

يحيى جابر
كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين والمهرجانات والأمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده. كان بمنزلة رسول، منجّم، متحدث باسم الأمة، أو المتحدث باسم الفرد والأنا المتضخمة… وهؤلاء كلهم مثالهم الأعلى المتنبي، أي يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها المال. وهذه السلطة إما أن تكون ثقافية وأقصى حدّ فيها أن يُعيّن الشاعر مسؤولًا لقسم ثقافي في صحيفة أو وزارة، وإما أن تكون سلطة أيديولوجية؛ إذ يعيّن الشاعر نفسه متحدثًا باسم الفقراء وعذاباتهم، وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح الشاعر الذي يكون لبقًا بهندسة الكلام بترؤس حزب، أو متحدث باسم هذا الحزب، أو متحدث باسم زعيم ما. وأكبر مثال على ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ لأنه يعدّ نفسه المتنبي، ويعيّن نفسه منظّرًا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب والأفراد. وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز.
أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول: إنها بُترت أو جُرحت أو ضُربت في السنوات الأربعين الأخيرة، وزاد انكسارها مع ظهور وسائل تعبيرية حديثة آخرها السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة القاضية. وهنا يبقى فقط 5 أسماء لامعة من أربعين سنة حتى الآن، بعد كل هذه الضربات الموجعة. فالمجلات والملاحق الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء، لكنها لم تُنتج حالة شعرية مهمة باستثناء ما حصل في بيروت ومصر. وفي لبنان على رغم ما أتت به مجلات الشعر المتخصصة التي عُدّت بمنزلة ثورة في القرن الماضي، إلا أن الشاعر في لبنان كان دائمًا تابعًا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة (وصاية سورية، ثورة، يمين، حركة وطنية). وأرى أن هذه الأزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم والأيديولوجيات التي تحكّمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية. وهنا نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية حتى الإسلامية.
لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات وسلوكيات أسلافهم من الشعراء، في لباسهم ونمط عيشهم والمقاهي التي يرتادونها، أما القصيدة فهي غير موجودة. وهؤلاء يكتبون عن الشعر، ولكنهم يعجزون عن كتابة قصائدهم.
باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من النظام إلى السلوك اليومي. مجتمع لا يعرف أن يعبّر، ولا كيف يهاجم سلطة، ولا كيف يثور وينجح في ثورته، ولا كيف يبني نظامًا سياسيًّا. إنها أزمة حريات وشجاعة، فالشاعر ابن الرفض، ولكن الـ «لا» لها ثمن وتحتاج إلى شجاعة، ولكن الشجاعة مفقودة.
فيديل سبيتي: المحل التعبيري الأكثر جدوى

فيديل سبيتي
الشعر العربي ليس في مأزق كما لم يكن في أي وقت، فهو وسيلة العرب الوحيدة للتعبير عن مآزقهم وآرائهم فيها، وتفنيدها، ودفعها، ورفعها، والسير بها، أو مدحها، أو ذمها. فكيف الحال في هذه الآونة من مآزق العرب الكثيرة والمتشعبة التي لن يفهمها إلا شاعر، أي متأمل ومغلّب مشاعره على واقعه بالمعنى التقليدي لتعريف الشعراء. بالتأكيد فإن الشعر العربي هو المحل التعبيري الأكثر جدوى لقول ما لا يمكن قوله في أي نوع من أنواع الفنون الأخرى، إلا إذا كان السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بلا جمهور.
هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض الجمهور عنه يجب أن تتوقف إلى غير رجعة. فالشعر الحديث أو قصيدة النثر، لم تكن منذ بداياتها جماهيرية، بل كانت محارَبة من مُحبّي الإيقاع والقافية وبحور الشعر والتراث الآفل. وقصيدة النثر أو الشعر الحديث لم تتوجه يومًا إلى الجمهور إلا إذا استثنينا بعض الشعراء الذين يكتبون أصلًا لجمهور متخيل حين يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، ومظفر النواب، وغيرهم قلائل. فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو لا يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ لأنه شعر رفض الجماعة، وعاداتها، وتقاليدها، والمرسّخ من كل ذلك، إنه شعر قلب العالم إلى عالم آخر لا يحبذه الجمهور ولا يستسيغه، بل يتهمه بالهرطقة.
لوركا سبيتي: غياب النقد

لوركا سبيتي
أولًا لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر، أو ما قضايا الشعراء الشباب اليوم، سنتحدث عن كل الأفكار التي قد تخطر، وكل الانفعالات التي قد تتجسد، وكل الهموم الإنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛ إذ لا شيء معين يتناوله الشعراء الشباب اليوم، هي موضوعات أزلية أبدية تخص الحياة والموت وما بينهما، لكل منهم طريقة في التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى، بأسلوب يميزه من الكتاب الآخرين. ولكن، لا بد من الإشارة إلى أن الملاحظ أكثر ما يكتب، وليس جميعه، له رائحة الواقع. ينقله بحقيقته من دون مواربة. ولنتخيل ما قد يكتبه هؤلاء الذين يعيشون في عالم دموي إن لم يكن قاتلًا فهو مقتول… منذ الجاهلية وصولًا إلى عصرنا هذا لا تزال الموضوعات ذاتها… الحب… العصبيات المتجسدة بمدح الفرد إلى مدح العشيرة إلى مدح الوطن والزعيم… .
على مستوى الأفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل، فتغير شكل القصيدة من دون أن يتغيّر مضمونها، ولا يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها، مسترجعًا صورة هارون الرشيد في خياله وجواريه، من دون أن ينفتح على بعد إنساني أبعد وأعمق. أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان مجرد كي يقع في أزمة خاصة، هو نتاج الشعراء. وإن ابتعد القرّاء عن الشعر فهذا مرده إلى عدم قدرة الشعراء على ملامسة عصب الجمهور ودغدغة أحلامه عبر معانقة واقعه. وهذا ما لا تسمح به الرواية، فطبيعة الرواية تفرض على الراوي الانطلاق من الواقع ورسمه وتلوينه، ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه في النص بعد أن ملّ من «أنا» الشعراء التي في الأغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غير مباشر، في هذا الزمن الذي انسحق فيه «أنا» الفرد في الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عبر الخيال آملًا في استرجاع بعض إنسانيته، وهذا ما تسمح به الرواية عبر فضائها الأرحب والأوسع والمتحرر من «أنا» الكاتب.
ثم إنني أرى في هذه الأيام أن الأغنية حلّت محل قصيدة العصر القديم في وجدان الناس، بلحنها وأدائها وكلماتها، حفظها الناس أكثر من القصائد بذاتها. والمشكلة الحقيقية للشعر في وطننا، هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب المتخصصين في النقد الشعري، إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو كتّاب أو مسؤولو صفحات ثقافية في الصحف، وهؤلاء في الأغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد، ليحل مكانها أهواؤهم، ومصالحهم الشخصية، ونظرتهم إلى جودة الشعر، وتقييمهم له.
الشعر في السعودية.. أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة
هدى الدغفق
الرياض
حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية، فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء، خصوصًا الجدد، إلى الإحباط ومن ثم الانكفاء على أنفسهم، وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة، فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة جدًّا من الأصدقاء. لعل أول الأسباب طغيان الرواية التي سرقت الاهتمام تقريبًا من الجميع، وانصراف عدد لا بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية، طلبًا للأضواء ومزيد من الاهتمام الذي انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء. ومن الأسباب أنه إذا حدث وجرى الاهتمام بالشعر، فإن النوع الشعري محط الاهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل الأحوال شعر التفعيلة، أما قصيدة النثر فلا أحد يفكر فيها. على أن اللامبالاة وعدم الاهتمام تطال الشعر بأنواعه.
ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة، تصور فيها عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة. سبب آخر يحبط الشعراء، هو المستوى الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجاملات والتحشيد تتفشى، من دون اعتبار لأي أي شيء آخر.
غياب الشاعر الرمز

جاسم الصحيح
يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن الشعر في السعودية مرتبط براهن الشعر العربي؛ إذ يستحيل في رأيه، الفصل بين المشهدين «خصوصًا في ظل انبثاق وسائل التواصل الاجتماعي، وثورة الاتصالات، والتنسيق العام لمعارض الكتب في العالم العربي، فالتجارب الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها على بعض بكل يسر وسهولة».
ويلاحظ الصحيح أن أجيالًا جديدة من الشعراء صعدت إلى مسرح الشعرية العربية في معظم البلدان، «وقد يكون المشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل المشاهد وإن خلا من فكرة الشاعر الرمز؛ لأن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة في عصر ما بعد الحداثة عبر كل المجالات وليس الشعر فقط». ويتطرق الصحيح إلى «مختارات من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت في «كتاب الفيصل» في مارس الماضي، وكانت فكرة اقترحتها «الفيصل» على الشاعر زكي الصدير فقام بتنفيذها، حول هذه المختارات يقول: في هذه المختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب، لكنني أرجو ألّا تكون عبقرية عجولة.. أي لا تنطفئ بسرعة.. كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري عن عبقرية الشاعر رامبو. الجماليات الشعرية لا يمكن أن تستقر على حال؛ لأن الشعر هو حال من القلق والفوران والهذيان. الشعر هو عملية استكشاف مستمرة لجغرافيا الروح، وكلما جاء جيل جديد بمراكبه ومناظيره، وأرسى على شواطئ الروح وحدَّق في التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن يواصل الاستكشافات التي بدأها أسلافه. هذا العمل الإبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء، للخروج من لحظتها الراهنة إلى المستقبل عبر مغامرة جامحة تضيف من خلالها مساحة جديدة من الكشف والابتكار».
الشعر عابر للعصور

محمد عابس
ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر للعصور «وإن خفت ضوء الاهتمام به بين فترة وأخرى لأسباب متعددة منها: منافسة فنون أخرى، واهتمام الناس بأشياء أخرى، وانفتاح العالم على الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطور أدوات الترفيه، ومن ناحية أخرى سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج المختارة في مواد الأدب».
ومن ناحية أخرى، يذكر عابس أن توجه الشعر إلى موضوعات ليست جماهيرية ولا علاقة لها بالقضايا الكبرى للمجتمعات لقيام وسائل أخرى بذلك الدور، دفع الشعر إلى الاتجاه إلى «قضايا ومفردات الإنسان وهمومه البسيطة، وإلى مفردات الهامش والمهمل والبسيط…».
ويلقي عابس باللوم على المؤسسات الثقافية في التراجع الذي يعيشه الشعر: «لم يعد هناك اهتمام بالشعر والشعراء على مستوى الدول والمؤسسات إلا على استحياء أو بشكل محدود، جوائز الشعر محدودة ومهمشة وغير مجزية ولا يمكن تجاوز الاهتمام الأكبر بالعاميات (الزجل) في مختلف الدول على حساب الشعر الفصيح، ولست ضد الاهتمام بالعامّي ولكن بشكل لا يلغي الفصيح»، مشيرًا إلى أن معظم النقد «توجه إلى البعد الثقافي العام وإلى الرواية، وكثير من النقاد لا يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم لا يستطيع قراءته بشكل سليم، ومن ثم تصدر عشرات الدواوين المميزة ولا أحد يعلم شيئًا عنها!!».
عدم تقبل النقد

محمد الجلواح
أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية والمزاجية للمواطن العربي بشكل عام، وكذلك الإفرازات السياسية وانعكاساتها على مشاعر وروح الشعراء. ويعزو الجلواح ذلك إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت -في شكل مؤثر وقوي- في صرف الشاعر والقارئ معًا عن القراءة العميقة. ويعزو الجلواح هروب الشعراء إلى الرواية، إلى تراجع الشعر عند هؤلاء «إضافة إلى استسهال الكتابة النثرية. كما أن انتشار الرواية لا يدل على وجود عافية فيها، فقد أصبح الجميع يكتب رواية»، مضيفًا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري في المملكة، وهو:«أننا لا نقبل النقد، ولا نرضى بالدراسات والملاحظات التي تُنشَر في الصحف، وتأتي من آخرين لهم قـَدَم السّبق وقـَصَبُه في الشعر، بل نطير فرحًا بالمجاملات حتى لو كانت على حساب الجودة، فينجم جراء ذلك التراجع من جهتين: جهة الشاعر الذي لا يريد أحدًا أن ينتقده. ومن جهة أخرى فإن المتلقي الناقد الذي لا يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته، يشعر بالحزن والغضب والإحباط، وهو -في الوقت نفسه- يخشى أن يفقد بذلك صداقته وعلاقاته بالشعراء».
الشعر السعودي بلا تجارب عميقة

مسفر العدواني
ويقول الشاعر مسفر العدواني: إن الشعر السعودي «لم ينتج تجارب نتكئ عليها في حال النقد باستثناء تجربة الثبيتي، وما زلنا أيضًا في صراع كبير بين رفض وقبول قصيدة النثر لدينا ونحن في أمسّ الحاجة لتجارب شعرية نواجه بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولًا، ولن يصل إلى منصات العالم». ويرى العدواني أنّ الأصوات الشعرية المعاصرة «عندما لا تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم، وإذا توقف خيال الشاعر عند حد معين خوفًا من المستقبل فلن نخلق موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم، ولا شك أن ما يحدث فيه يؤثر فينا. أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست مقياسًا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم المؤسسة التابعة لها، ولا تخدم الشاعر، وفي زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر التفاعل معها بنصوص قصيرة مكثفة تسهل على القارئ، وتناسب الواقع، وتظهر الشاعرية. فالزمن الآن زمن التواصل الاجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا».
أدب بلا أدب
وتنتقد الشاعرة هند المطيري شعر اليوم وأدبه بشكل عام قائلة: «يصدر عدد هائل من الأعمال الأدبية سنويًّا، لكن بلا أدب. صرنا نسمع أسماء كثير من الشعراء لكننا لا نسمع شعرًا؛ من أجل ذلك كله، كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد في عصرنا والعصور السابقة». ولا ترى المطيري أن طغيان الرواية تسبب في تراجع الشعر؛ «لأن ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إلى المنافسة، لكن المسألة تتعلق بالوعي الجمالي الجمعي. الشعر يهب نفسه للأمة التي تقدره وتحفظ قيمته، فإذا تخلت عنه تخلى عنها تمامًا».
وتقول المطيري: «في العصور القديمة كانت العرب تقدس الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبين القرآن (كلام الرب جلّ وعلا)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه. أما اليوم وقد انصرفوا إلى صفصفة الكلام فلا أظن الشعر يبقى يانعًا مزدهرًا، أو على الأقل لن يبقى كثير منه. لم نفتقد الدواوين فهي كثيرة، وتصدر عشرات منها كل عام، لكننا نفتقد الشعر». وفي ظن المطيري أن وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحين التفاتة من مؤسسات الثقافة، تُعلي شأنه وترفع أركانه. حين ذاك يعود، ويزدهر، ويطرح ثماره اليانعة».
مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات الأكاديمية

أحمد التيهاني
لا يثق الشاعر أحمد التيهاني كثيرًا في الأقوال المعمّمة التي تميل إلى تفضيل جنسٍ أدبي على حساب جنسٍ آخر، ويرى ذلك «كلامًا» إعلاميًّا استهلاكيًّا؛ «ذلك أنه –في الأغلب– يصدر عن المبدعين أنفسهم انتصارًا للأجناس الأدبية التي يكتبونها». وينتقد التيهاني المبدعين قائلًا: «يُفترض لعقل المبدع أن يكون تفكيره متجهًا نحو النص بوصفه نصًّا، لا نحو النص بوصفه جنسًا أدبيًّا، وهي نظرة متقدمة بمراحل على رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إلى التصنيف اليوناني السابق لما آل إليه الإبداع اللغوي في اللغات كلّها».
ويؤكد التيهاني على المكانة التي يحتلها الشعر قائلًا: «سيبقى الشعر المختلف والمميز بذاته، لا بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غيره من الأجناس الأدبية، فيما نجد الأجناس الأخرى تتداخل رغم صرامة القواعد»، مشيرًا إلى أن القول بانحسار الشعر، «قولٌ عاطفي يُقصد به التهوين لا غير؛ ذلك أنه لا يستند على معطيات واضحة، ولا يقوم على حججٍ بينة، إضافة إلى أن يُبنى على إحصاءات دقيقة؛ لأن القول بذلك يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمالي الذي لا يسده إلا الشعر». ويلمح التيهاني إلى أن كل ما يقال عن انحسار الشعر، وتمدد أجناس أخرى، سيذوب حتمًا، «فالشعر يبقى حاضرًا، ويستمر متجددًا، وليس أدلّ على ذلك ممّا آلت إليه الشعرية العربية الحديثة، في القصيدتين: الإيقاعية، والنثرية، على السواء، من تطور سريع جدًّا، مداه الزمني لا يتجاوز نصف قرن». وفي تصور التيهاني أنه: «ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة، إلى كتابيتها، سببًا في خلق وهم انحسار الشعر». ويلفت إلى أن القول بغياب العمل النقدي المتعلق بالشعر، تدحضه الدراسات الأكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر، «ولو أننا أجرينا عملًا إحصائيًّا عن الأجناس الأدبية التي اهتمت بها هذه الدراسات، لوجدنا الغلبة للدراسات المتعلقة بالشعر».
رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث

زكي الصدير
يوضح الشاعر زكي الصدير أنه في ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقافي بعموميته، وقدرتها على تحويل نفسها للدراما التلفزيونية، أو لفلم سينمائي، «لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية المحضة الوصول إلى القارئ غير النخبوي. الأمر الذي يجعله قابعًا في إطار لا يستطيع من خلاله الاتّساع ومعانقة القارئ البسيط. ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء على ذواتهم، ولعدم قدرتهم على تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحياتي اليومي. ومن بين هذه التجارب خرجت تجارب سعودية، هنا وهناك، استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغالات شعرية مهمة، لكنها قليلة، ولا يمكن اعتبارها ظاهرة من الممكن القياس عليها».
ويقول: «إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرافي متسع مثل السعودية، فإنه من الصعب الحديث عن هوية الشعر أو ملامحه بشكل دقيق، حيث لكل منطقة من مناطقها المترامية الأطراف أسئلة شعرائها وقلقهم ورؤاهم الكونية الخاصة، والتي تنعكس على واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا. هذا الاتّساع الجغرافي يجعلنا أمام مشهديات شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة، يجمعها الاسم، ويفرقها الاشتغال. والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس هندسته المعمارية فحسب». ويلفت إلى أن الجغرافيا المكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج «تمتلك سمات على مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة في الشمال والوسط. نجد شعراء الشرقية -على سبيل المثال- متماهين إلى حد كبير في نصوصهم مع التجارب الشعرية المنجزة في العراق ودول الخليج، على حين يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية في بقية المناطق، الأمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء الجنوب، حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة، وتخفت في بقية المناطق».
عن الشعر في اللحظة الراهنة

مسفر الغامدي
إذا استعرنا لغة الحروب التي نعيش على وقعها الآن، فإنه يمكننا القول: إن الشعر تضخم كثيرًا، وبشكل مبالغ فيه، في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم… إنه تحول إلى قنبلة انفجرت لتنتشر شظاياها في كل مكان. نحن في هذه اللحظة نعيش في زمن الشظايا. لم يعد للشعر رموزه وتكتلاته وملاحقه ونقاده، بل أصبح متناثرًا في كل مكان. شعراء لا يحصون، ودواوين لا تعد، وسيل جارف من الحروف التي لا تكفّ عن التناسل من بعضها البعض، ثم لا أثر مهم يذكر بعد ذلك، حتى مع تعدد المهرجانات الشعرية، أو تكاثر الجوائز وتنوعها. مع كل ذلك هناك ورود حقيقية ومدهشة، تنبت في كثير من الزوايا القصية، لكن الأغصان الكثيفة للغابة تحجبها. هناك أسماء تستحق القراءة والاحتفاء، ولكن ليس هناك بستاني ماهر، يحول الغابة إلى حديقة. هذه مهمة نقدية بامتياز، لكن النقد تعوّد في العقود السابقة على التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)، وليس في وسعه، حتى الآن على الأقل، أن يتعامل مع النتف المتناثرة هنا وهناك…
قد نعزو السبب للانفجار المعلوماتي، للطبيعة السائلة للأفكار وللعالم، لعزلة الفرد، لموت الأيديولوجيات الكبرى، لوسائل التواصل الاجتماعي، للحظات الترقب والخوف التي نعيشها، لعجز الخيال عن مجاراة الواقع، لتسرب الشعر من قبضة اللغة وهروبه إلى فنون بصرية أكثر إقناعًا… لكل ذلك ولأكثر من ذلك. في كل الأحوال وبالعودة إلى لغة الحروب: أصبح الشعر ملجأ أكثر منه سلاحًا. الشعراء الذين ما زالوا يظنونه سلاحًا يبدون هزليين ومضحكين بشكل كبير. لم يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة للأفكار والعنتريات البالية، بل أصبح درعًا واقيًا لاتقاء التلوث في أحسن الأحوال… كمامًا واقيًا لكي لا نلتقط المزيد من الجراثيم والأوبئة اللغوية والحياتية الضارة.
الشاعر هنا أصبح حارسًا ولم يعد محاربًا.
راهن الشعر الموريتاني الحديث
الشيخ ولد سيدي عبدالله
أكاديمي موريتاني
يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث مع الشعريات العربية المماثلة. فقد مارست القصيدة الكلاسيكية التقليدية سلطتها على التلقي والإبداع في موريتانيا ردحًا طويلًا من الزمن، فغطت بذلك غابة الإبداع الشعري، بحيث لم تترك أي مجال للأجناس الأدبية الأخرى، وكذا الأشكال الشعرية اللاحقة للظهور، فقد ظل الشعر العمودي مستحوذًا على الذائقة الأدبية الموريتانية، وربما لا يزال حاضرًا بمستوى لا يستهان به من القوة والتأثير.
ويعود السبب في ذلك إلى البنية التكوينية للثقافة الموريتانية، التي ظلت إلى وقت قريب، ثقافة شفهية، في بعض مناحيها، «محظرية» في مناحي أخرى، وقد اهتمت في تأسيسها على الثقافة التراثية، سواء منها الدينية أو الأدبية، فكانت «المحظرة» بشكلها المحافظ أكبر فاعل في تحديد العلاقة بين المبدع والمتلقي، وهذا ما نلحظه في قراءة سريعة لحياة الشعراء الموريتانيين الكبار ومشاربهم الثقافية، ومعاصريهم من متلقي الشعر ومتذوقيه.
حين أنشئت جامعة نواكشوط في ثمانينيات القرن العشرين، وعاد أبناء البلد من رحلتهم العلمية التي قادتهم إلى جامعات مشرقية ومغربية وأوربية، بدأ التفكير النقدي يتبلور حول كثير من القضايا الشعرية، وفي مقدمتها قضية الأصالة والمعاصرة. وفي مقابل هذه المواقف، قامت معركة الشعر الجديد بمحاولة خلق ذائقة غير تقليدية، قادرة على فهم حركة الزمن والإبداع، متدثرة بثقافة جديدة، تمكنها من التعامل مع الرموز الشعرية وما تحيل إليه من دلالات. وهي محاولة جسورة في ميدان يسيطر عليه المحافظون بشعرهم وبخلفيتهم التراثية، التي سيجت الإبداع بمتاريس من التقديس، تجعل تجاوزه مسألة في غاية الصعوبة. والحقيقة أن اعتماد وسيط أو رقيب تقليدي بين الشاعر والمتلقي، هو السبب في إحداث الهوة بين الواقع والإبداع؛ ذلك أن الرقيب التقليدي المحافظ يسعى إلى فرض قوالب نصية، ومعجم لغوي خاص، بحيث يرى أي خروج عليه كفرًا إبداعيًّا وعقوقًا ظاهرًا, وهذه الوصاية هي السبب في انفجار الثورة، من طرف بعض الشعراء الذين عرفوا بالولاء للقالب التقليدي نفسه. فهؤلاء الشعراء لا يرون المشكلة بين دعاة التجديد والمحافظين مشكلة شكلية، إنما هي لغوية، تعبيرية.
يقول الشاعر فاضل أمين: «إن سجن الأديب وراء جدار سميك من اللغة حكاية قديمة مجها الأدب المعاصر؛ ذلك أن الناس هم الذين يملكون حق إعدام الكلمة أو خلقها، والشاعر ليس بوابًا في المجمع اللغوي، وليس موظفًا عند الخليل والأصمعي، إنه هو الذي يخلق لغته، وعليه أن يترصد لغة الجمهور الذي يكتب له»(1). وهذا ما عبرت عنه النقاشات التي فجرتها قصيدة «السفين» للشاعر أحمدو ولد عبدالقادر عام 1984م، التي كانت «مؤطرة بالبحث عن الشعر الجديد، وما يطرحه من قضايا، وكانت الاختلافات بين المتخالفين أو المتكاتبين، اختلافات في التصور النقدي، الذي ينطلق منه كل فريق، والخلفية الفكرية التي تحكم هذا التصور»(2).
ويرى الدكتور محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم أن أهم نقاش عرفته قضية «الشعر الجديد» في موريتانيا هو ذلك الذي حدث عام 1986م والذي لم يكن «وليد نص إبداعي، كما هو الشأن بالنسبة لحوار 1984م، إنما وليد طرح نقدي، يصطدم مع طرح آخر مخالف له في التصور، ومعزز بخرق جمهور لم يتعود بعد على أساليب الشعر الحديث، وجماليات تقبله»(3).
الوعي بالحداثة
والحق أنه على رغم سيطرة الذائقة التقليدية على العملية الإبداعية الموريتانية، وعلى رغم سلطتها القاسية التي تفرضها على الشاعر، فإن اتساعًا صامتًا لدائرة الشعر الحديث والمهتمين به، كان يحدث من دون علم المحافظين. فقد مكنت المناهج الأدبية الحديثة في الجامعة، وانفتاح جيل الشعراء الشباب على نتاج نظرائهم العرب، وتعرف المبتعثين من الطلاب الموريتانيين إلى الجامعات العربية على النظريات النقدية الجديدة، وعلى الشعر الجديد، من إماطة اللثام عن الشعر الجديد، ودفعه إلى المزاحمة العلنية للشعر التقليدي وحرّاسه.
لقد صاحب هذه الثورة، فهم جديد لكثير من القضايا الشعرية، التي أصبحت هي الأخرى بحاجة إلى نوع من التغيير والإدراك، حتى تؤسس الدعامة الكبرى لاستمرار الإبداع الشعري الجديد، ولهذا جاء فهم الأصالة والمعاصرة من طرف جيل الحداثة، فهمًا مغايرًا للجيل المحافظ؛ بل إن وعيًا ثوريًّا بالحداثة بدأ يكشف عن نفسه، في التعامل مع الشعر ومع الثابت والمقدس في الثقافة الوطنية. يقول الدكتور سيد الأمين ولد سيد أحمد بناصر: «يشهد الشعر الموريتاني قطيعة حاسمة وجذرية بين تيارين شعريين؛ الأول تيار التقليد، وينحو منحى كلاسيكيًّا تقريريًّا، بشكل يجعله معزولًا تمامًا عن الإبداع العالمي والعربي، وأما التيار الثاني فهو تيار الحداثة الذي ما فتئ يبحث عن متنفس للقصيدة، ينقلها من واقعها التقليدي إلى آلياتها المعاصرة (…) وأظنني من الجيل الذي يحاولفك العزلة وغلق باب التجمد، هذا التيار في نظري هو القادر على مسايرة ركب الحداثة العربية، وعلى عاتقه تلقى مهمة النهوض بالشعر في هذه البلاد»(4).
إن آراء المؤيدين للحداثة من هذا الجيل، تنبثق أساسًا من الفهم الفني للنص الشعري الحديث، في مسايرة للظرف الزمني للإنسان الموريتاني وعلاقته بالآخر، شكلًا ومضمونًا، إبداعًا وتنظيرًا، لهذا فليست الحداثة لهم انبتاتًا مطلقًا من التراث، إنما هي محاولة لفتح حصون ذلك التراث، وفك متاريسه المنغلقة أمام الحداثة؛ ليكون هناك تكامل بين الأصالة والمعاصرة، وهذا ما جعل بعض الحداثيين الموريتانيين يستخدم الشكل التقليدي للقصيدة؛ ليبدع من خلاله نصًّا حداثيًّا، موغلًا في التكثيف والتفجير الدلالي.
أما الشاعر ببهاء ولد بديوه فيرفض الرأي القائل بأن الحداثة نبذ للتقاليد، وأنها ثورة شاملة على التراث، وينطلق من أسس فنية تربط الشعر الحداثي بالشعر التقليدي؛ إذ يقول: «إذا كان هذا هو مفهوم الحداثة فليس ثمة من شعر حداثي، لا في الشعر الموريتاني، ولا في الكثير مما يسمى شعرًا عربيًّا حداثيًّا؛ إذ إن هذا الشعر سواء كان في موريتانيا أو غيرها من البلدان العربية، لا يخرج عن تقليد أخذ يتأسس ابتداء من الخمسينيات، وله جذوره الممتدة، مثل شعر «البند» الذي عرف انتشارًا واسعًا في العراق منذ القرن العاشر الهجري، ومن ثم فإن هذا الشعر الحداثي، لم ينبذ تقاليد الشعر العربي القديم، وإنما حاول تكييفها لتتلاءم مع التحولات الجذرية، التي يعرفها العالم»(5).
ونتيجة لهذا تأكد ارتباط النص الحداثي بأصله القديم، ولكن هذا الارتباط لم يكن عائقًا في سبيل تغيير بعض الأشكال والمفاهيم التي تحققت على يد شعراء الحداثة، وهي تغييرات لا يستبعد أن تكون لها جذور في التراث، يقول ببهاء: «الحداثة العربية الشعرية، ثورة في الشكل والمضمون، لها امتدادها المترسخ الجذور في التراث، وخاصة في جوانبه الثورية، فمن ناحية الإيقاع فإن هذا الشعر بدأ يؤسس منذ السياب تشكيلًا إيقاعيًّا، يحاول التحرر من البيت باتجاه الدائرة؛ فالقصائد الأولى التي ظهرت من هذا الشعر غير ملتزمة بعدد من الأجزاء (المفاعيل)، ولا بقافية موحدة أو غير موحدة، ولكن مرور الزمن أظهر أن هناك تطورًا مستمرًّا في الإيقاع، حيث صار لبعض القصائد التي هي أكثر جدة، وحدة إيقاعية من بدايتها حتى نهايتها، كما حاول هذا الشعر أن يجعل القصيدة تتحرك بحرية، بدل أن تظل محصورة في أغراض محدودة، وهو ما نتج عنه تطور كبير في معجم هذا الشعر.. »(6).
والحداثة من هذا المنظور مرحلة تطورية للشعر التقليدي، من حيث الإيقاع واللغة، وعلاقتها بشعر التقليد هي علاقة (محاورة)، فهي تنطلق من القديم، لتتجاوزه، مع بقاء صلاتها به وثيقة. وغير بعيد من هذا الرأي يتبنى الشاعر الدكتور إدي ولد آدب مقولة للشاعر الإنجليزي إليوت؛ إذ يقول: «إن الجديد كل الجدة رديء كل الرداءة» وهو بذلك يريد أن يقول: إن الحداثة لا يمكن أن تكون انقطاعًا ولا انفصالًا عن الجذور، وذلك لأن الانقطاع عن التقاليد الأدبية، لا ينتج عنه إلا غياب القيم، التي بها ننظر إلى ما نبدعه من قيم جديدة، فهل يمكن لغياب القيم أن يكون قيمة في حد ذاته؟»(7). ويرى أن دعاة الانقطاع عن الجذور مصابون «بنوع من التطرف الحداثي» سواء في ذلك الشعراء والنقاد.
التطرف الحداثي
أما الشاعر الدكتور بدي ولد ابنو فكأنه في رأيه حول الفهم الخاطئ للحداثة، يرد على رأي إسلم ولد بيه المذكور آنفًا، وذلك في معرض حديثه عن العلاقة بين الشكل التقليدي والشكل الحداثي للنص الشعري المعاصر. يقول الدكتور بدي: الحداثة نظر إليها طويلًا في المشرق على أنها طريقة جديدة في إعادة توزيع الكلمات هندسيًّا على الورقة، والأمر أحيانًا يصل إلى درجة بالغة السطحية، يكفي عند البعض أن يحذف من القصيدة رويها، وأن يعاد توزيعها لتصبح قصيدة حديثة؛ فعند نقاد معاصرين يعني مصطلح «القصيدة الحديثة» كل قصيدة لا عمودية، حتى لو كانت عمودية فعلًا، ولكن توزيعها على الأسطر لا يوحي بذلك لأول نظرة، وبهذا المعنى لا يصبح الإبداع إلا لعبة شد وتمطيط»(8).
ويتفق الشاعر بدي مع الشاعر سيد الأمين حول الحداثة الشكلية؛ فالقالب ليس معيارًا للجدة أو التقليد. يقول: «ما يهمني هو الشعر». الشعر أولًا. للقصيدة أن تكون عمودية أو شعر تفعيلة أو خارج الإطارين، ولكن أن تكون قصيدة «إبداعًا»، ثمة قصائد تفعيلة وقصائد تسمي نفسها (نثرية) بالغة التقليدية، وثمة قصائد عمودية بالغة الحداثة، القصيدة كل متكامل والحكم عليها لا يمكن أن يكون جزئيًّا، تكون القصيدة في نظري حديثة حين تكون إبداعًا، وأول ما يجعلها كذلك أن لا تفرض عليها أفكار خارجة قبلية، لمجرد أن الرأي السائد يفضل إطارًا معينًا(9). ويرفض أن ينتمي لتيار الحداثة، الذي سيطر عليه كثير من الأدعياء، فاستولوا على اللفظ «حداثة» لا على المعنى؛ لذلك فهو ينتمي إلى ما سماه الحداثة الأخرى: «أنتمي إلى ما بعد الحداثة، أنتمي إليها زمنيًّا؛ لأن ما بعد الحداثة راجت في سنوات الثمانينيات التي بدأت أنشر فيها».
وفي محاولة منه للتنظير لمفهوم «الحداثة الأخرى» يقول: الحداثة الشعرية العربية، أي تجلي الإبداع الشعري زمنيًّا، تم خنقها منذ ما يسمى بعصر النهضة، ولذلك أعتقد أن حداثة ستبدأ اليوم نسميها الحداثة الأخرى»(10). أما الشاعر أحمدو ولد عبدالقادر، فها هو بعد مرور سبعة عشر عامًا على كتابته قصيدة «السفين» والنقاش الذي أثارته، يرى أن فهم الحداثة الشعرية رهين بشموليتها لكل مناحي الحياة، وهو رأي في نظرية التلقي؛ ذلك أن «الحداثة عندنا تكاد تكون قاصرة على الإنتاج الشعري، مما جعل الشعر في وادٍ والحياة في واد، ولكي يكون الشعر الحداثي مفهومًا، متقبلًا، لا بد أن تكون الحداثة شاملة لجميع مجالات الحياة، وأن تكون الفنون مواكبة للشعر في اتجاهه الحداثي، حتى يكون لهذه الحداثة إطارها وسياقها الذي لا يمكن أن يكون لها إلا به»(11).
وفي محاضرته عن «الخطاب الشعري الحداثي في موريتانيا»(12) التي ألقاها في «بيت الشعر»(13) يوم الثلاثاء 8 إبريل 2001م يدرس الدكتور المختار ولد الجيلاني، التحول الإبداعي للشعر الموريتاني، من خلال سبعة دواوين شعرية لخمسة شعراء من جيل الشباب، وهي في نظرنا أهم دراسة أكاديمية(14) آنذاك، تجاسرت على تحليل الجماليات النصية للقصيدة الحداثية في موريتانيا، وهذا سر تركيزنا عليها. ففيها يمايز مفهوم الخطاب «الذي يتلاءم أكثر مع الشعر الحداثي، حيث يتخلق النص الشعري مجراه كما النهر، دون أن يكون للتقاليد الشعرية السابقة أثر في توجيه هذا المجرى، من مفهوم القصيدة «الذي يتلاءم مع النص الشعري التقليدي لاشتقاقه من القصد». ومن هذا التحديد يحاول إبراز مدى مطابقة هذه المفاهيم -ولو جزئيًّا- مع الشعر الحديث في موريتانيا انطلاقًا من خمسة نصوص وردت في الدواوين السبعة المذكورة آنفًا وهي:
دموع غيلان لسيد الأمين بن سيد أحمد بناصر(15)
رحيل لمباركة بنت البراء(16)
الكشف لبدي ولد ابنو(17)
الشريد لببهاء ولد بديوه(18)
رسائل سرية إلى شخصيات سرية لمحمد ولد عبدي(19)
وبعد «أن تناولت الدراسة هذه النصوص من حيث سبكها الموسيقي والمعجمي والنحوي، ومن حيث حبكها الدلالي والبراغماتي أمكننا أن نخرج ببعض التصورات» ويرى المحاضر أن هذه التصورات لا يمكن تعميمها على المشهد الشعري الحداثي في موريتانيا، ولكنها قد تكون مستوعبة على الأقل لجزء غير يسير منه. وملاك القول أن الخطاب الشعري الحداثي في موريتانيا، على رغم محاولة إنتاج نص معبر عن عصره وعن العقلية الجديدة، فإنه ما زال مرتبطًا بخيط رفيع مع التراث والأصالة. بيد أن ميزته المهمة هي أن أغلبية رواده والمدافعين عنه، مارسوا إلى جانب الكتابة الشعرية، عملية تنظير وتحليل ومسايرة للتطورات الحاصلة في حقول الإبداع الإنساني.
ويمكننا أن نتفهم ذلك البعد النقدي عند شعرائنا، فهم مطالبون بتفسير الثورة على قوالب وأشكال فنية عمرها مئات السنين، ثم عليهم بعد ذلك أن يقنعوا المتلقي بتلك التفسيرات، ولنا أن نتصور صعوبة المهمة في مجتمع كالمجتمع الموريتاني، الذي يمتح جهاز قراءته من منهاج (المحظرة) حيث يتربع الشعر العربي القديم على قمة الدرس الأدبي، وحيث منتهى الفتوة يكمن في تقمص الصورة الإبداعية للشاعر العربي القديم.
———————————————-
هوامش:
1 – فاضل أمين – على باب المناجزة الأدبية – جريدة الشعب – بتاريخ 14 سبتمبر 1976م.
2 – د. محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم – ظهور الرواية الموريتانية، – مصدر سابق.
3 – نفسه.
4 – نسخة جريدة الشعب من (كتاب في جريدة) الخاص بالشاعر السياب- وما بين ص30-31 مقابلة مع الشاعر سيد الأمين ولد سيد أحمد بن ناصر.
5 – (بيت الشعر يواصل نشاطاته) جريدة الشعب – العدد 7153 بتاريخ 24 – 26 مايو 2001م.
6 – نفسه.
7 – نفسه.
8 – بدي ولد ابنو – صلوات المنفى الباريسي – ط1 – باريس 1998م – ص: 179.
9 – نفسه ص:185-186 .
10 – نفسه – ص 190.
11 – الشعب، العدد 7153 (بيت الشعر يواصل نشاطاته) – مصدر سابق.
12 – منشورة في جريدة الشعب، المصدر أعلاه.
13 – هو منتدى أقامه بعض الشعراء والنقاد من بينهم د. محمد ولد بوعليبة والشعراء ببهاء ولد بديوه و إدي ولد آدب وغيرهم وقد بدأ نشاطه عام 2000م.
14 – هي عرض لرسالة الباحث لنيل شهادة الماجستير من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة عام 2000م، وقد صدرت في كتاب يحمل العنوان نفسه عن دار يوسف بن تاشفين والإمام مالك عام 2006م.
15 – من ديوانه تيه المراكب – ص: 5.
16 – انظر الوسيط في الأدب الموريتاني الحديث (مجموعة باحثين) – ط 1 – نواكشوط 1997م – ص:61.
17 – من ديوانه مدائن الإشراقات الكبرى ، ط1، دار القلم، باريس1996م، ص:17.
18 – من ديوانه أنشودة الدم والسنا – ط1 – مكتبة الآداب – القاهرة 1995م – ص:36.
19 – من ديوانه الأرض السائبة – ط1 – أبو ظبي 1995م – ص:49.
الشعر في حال انحسار وضيق

عباس بيضون
شاعر وصحافي لبناني
كلمة مأزق ليست الكلمة المُثلى والأصحّ في توصيف حالة الشعر العربي الحديث اليوم، أظن أن الكلمة الأصح هي الانحسار، أو الضيق، أو التراجع. فالشعر عالميًّا هو في هذا الوضع المناسب، وأظنّ أن الشعر العربي يلحق بهذا الوضع الذي بدأ في الغرب، وهو يكمل مسيرته هكذا. بدأ الشعر يتراجع ويفقد قرّاءه من سبعينيات القرن العشرين، هذا بالقياس إلى الرواية التي لا تزال تجد قرّاءً. ولا ننسى أن التطورات التقنية (الإنترنت وسواه) لم تُفقد الرواية حضورها وقراءها، على رغم أننا لا نعرف الآن ماذا سيكون تأثير التقنية الحديثة في الرواية على المدى البعيد.
أظنّ أن مشكلة الشعر ليست فقط مشكلة عامة تلحق بكل الأنواع الأدبية، إنها مشكلة خاصة؛ إذ إن الشعر بدأ مُغنّيًا للعالم ومادحًا للحياة ومُحرّضًا عليها، أي أنه بدأ إيجابيًّا. وحين نقرأ الشعر القديم نجد أنه في الدرجة الأولى محرض على الحياة، ومادح للحب والجمال وللحياة عامة. أي أن الشعر بدأ إيجابيًّا، وهذه الإيجابية لم تبقَ للشعر في الأزمنة الحديثة؛ إذ إن الأدب والفن عامة استحالا سلبيّين بالتدريج. ويكفي أن ننظر إلى الرواية الحديثة منذ بلزاك إلى كونديرا لنجد أن الرواية فنّ سلبيّ، إنها رواية التهافت الاجتماعي والوجودي. لا نجد الرواية إيجابية إلا في القليل، والروايات الإيجابية أي الإنسانوية هي أقل الروايات انتشارا. والسلبية هنا نقدية وفيها تشاؤم.
حدث أن الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته. بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه الرواية. بدأ يصبح هو الآخر سلبيًّا وعدميًّا، أي أنه فقد وظيفته الأولى. ثم إن الشعر فنّ مكبوت، فنّ شبه صامت، فن مضمر، لا يظهر منه سوى رأسه، ويبقى جلّه مكتومًا. يحتاج الشعر من صانعه وقارئه إلى معاناة فعلية، إلى تركيز شديد يصل إلى حدّ الاختناق. كما يحتاج الشعر إلى قدرة كبيرة على التأويل لا يتمتّع بها كثير من القرّاء. العلامة بين الشعر وقارئه علامة صراع ولا بدّ أن يكون في القارئ شاعرٌ أو شبه شاعر؛ ليستطيع أن يتكيّف مع النص؛ لأن بين القارئ والشاعر تواطؤًا وشبه تعاقد على الطريقة والشكل، حيث إن هذا التعاقد إذا لم يوجد لا يمكن للقارئ أن يقبل الشعر.
الشعر الآن هو فنّ بين أشباه شعراء، وهذا لا يمنع أن الشعراء يتكاثرون؛ لأن الشعر يبقى حاجة. يكفي أن نفكّر بالغناء مثلًا لنفهم أن الشعر حاجة. دائمًا كان هناك شعراء قلّة أو قلّة من الشعراء القادرين على أن يجترحوا اللغة. وفي الكتابة لا يزال الوضع هكذا. لا أفقد الأمل في أن الأجيال الحالية والقادمة ستأتي بشعراء جيّدين.
الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته. بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه الرواية. بدأ يصبح هو الآخر سلبيًّا وعدميًّا؛ أي أنه فقد وظيفته الأولى. ثم إن الشعر فنّ مكبوت، فنّ شبه صامت، فن مضمر، لا يظهر منه سوى رأسه، ويبقى جلّه مكتومًا
0 تعليق
Trackbacks/Pingbacks