كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
فتنة المغاربة بالشرق
ما يجمع أبناء بلدان المغرب العربي الثلاثة؛ أي المغرب والجزائر وتونس، أكثر ممّا يمكن أن يفرق بينهم. وفتنتهم بالشرق هي من بين ما يشتركون فيه وجدانيًّا ودينيًّا ومعرفيًّا وتاريخيًّا منذ أن انتشر الإسلام في ربوعهم. والمقدّس هو الفاعل الأساسيّ في هذه الفتنة. فقد أصبحت مكة المكرمة وجهتهم؛ منها جاء الإسلام، والقرآن الكريم، واللغة العربيّة التي فرضت وجودها في البلدان الثلاثة ابتداء من القرن التاسع، ماحية وجود اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في العصور الرومانية، ومُقلّصة من نفوذ اللغة الأمازيغية: لغة البربر. وكان الحجّ إلى بيت الله الحرام الوسيلة المثلى لتعرف الشرق. فقد كان الحجاج المغاربة ملزمين بعبور ليبيا، ومصر، وجزء من بلاد الشام، والبحر الأحمر؛ لبلوغ الأماكن المقدسة. وكانت هذه الرحلة الشاقّة والطويلة، تسمح لهم باكتساب معرفة واسعة بعادات وتقاليد وتاريخ البلدان والمناطق التي يمرّون بها في غدوّهم ورواحهم. كما كانت تسمح لهم بالالتقاء برجال دين، وشخصيّات سياسيّة وأدبيّة، وتجار، ومغامرين.
وشيئًا فشيئًا لم يعد الحجّ وحده الباعث الوحيد للرحلة إلى الشرق. حدث ذلك عندما أصبح المغاربة يتطلعون إلى توسيع معارفهم في الفقه، وفي الأدب، وفي مجالات معرفيّة أخرى سواء في دمشق، أم في بغداد، أم في البصرة، أم في القاهرة، أم في حواضر أخرى. وكان طالب العلم المغربي يعود إلى القيروان، أو إلى تلمسان، أو إلى فاس، أو إلى مراكش؛ ليحظى بتقدير واحترام أهل السياسة، والدين، والأدب. فالشرق هو منبع المعارف الكبرى. ومن ينهل منه يصبح من المكرّمين المبجّلين. وكثيرون هم المغاربة الذين فتنهم الشرق ففضلوا أن يمضوا فيه ما تبقى لهم من العمر. ومحيي الدين بن عربي واحد من هؤلاء. فبعد أن ساح طويلًا في بلاد الأندلس، والمغرب، وتونس، رأى في منامه وهو في مراكش عرش الله، وملاكًا ينصحه بالتوجه إلى الشرق، فأخذ بالنصيحة من دون تردّد ليمضي الجزء الأكبر من حياته متنقلًا بين بلدان كثيرة.
وفي النهاية، استقر به المقام في دمشق ليموت ويدفن هناك. وكذا كان الأمر لعبد الرحمن بن خلدون الذي أمضى السنوات العشرين الأولى من حياته في تونس، مسقط رأسه، فلمّا هلك أهله بسبب الطاعون الجارف الذي ضرب البلاد، ذهب إلى فاس ليختلط فيها بأهل الفقه والأدب والسياسة. بل إنه تورط في مؤامرة سياسية، سجن بسببها لمدة عامين، اكتسب خلالهما تجربة مهمة سوف تفيده عندما يشرع في كتابة مقدمته الشهيرة. كما أنه عاش في بلاد الأندلس، في حماية وضيافة صديقه لسان الدين بن الخطيب، السياسي والشاعر اللامع. فلمّا كثرت السعايات الخبيثة بينهما، عاد من جديد إلى المغرب ليواجه تجارب ومحنًا أخرى، نجد ملامحها وعِبَرها في مقدمته.
وكان ابن خلدون في سنّ الأربعين عندما عاد إلى تونس آملًا أن يجد فيها ما يرضي طموحاته، إلا أن غريمه الإمام ابن عرفة شدّد عليه الحصار والمراقبة ليجبره أخيرًا على الرحيل إلى الشرق ليمضي ما تَبقّى له من العمر مُتنقّلًا بين الأماكن المقدسة، وبلاد الشام، ومصر حيث مات ودفن. ورحلة ابن بطوطة، وابن طنجة، دليل آخر على فتنة المغاربة بالشرق. من خلالها نتعرف حقبة مهمة من تاريخ بلدان كثيرة، فيها تكاثرت واشتدت الأزمات، والكوارث، والزلازل السياسيّة التي مَهّدت لسقوط العرب الحضاري.
سير مثقفين ومصلحين وسياسيين
وفي العصور الحديثة، ظلّت فتنة المغاربة بالشرق مشعّة وملتهبة. وهذا ما تعكسه سير مثقفين ومصلحين وسياسيين. والتونسيّ الشيخ محمد بيرم (مولود عام 1840م) الذي كان من أنصار المصلح الكبير خير الدين باشا التونسي واحدًا من هؤلاء. فبعد أن طاف طويلًا في بلدان أوربيّة مختلفة للتداوي من مرض عضال أصيب به في طفولته، عاد إلى تونس ليناصر الأفكار الإصلاحيّة، المنوّرة للعقول، لكن الوزير الفاسد مصطفى بن إسماعيل الذي تآمر مع الفرنسيين لاحتلال تونس، شدّد عليه الخناق ليجبره في النهاية على الهجرة إلى إسطنبول، ثم إلى مصر التي وجد فيها خَيْرَ الملاذ؛ لذا فضّل الاستقرار فيها حتى وفاته في الثامن عشر من شهر ديسمبر عام 1889م.
والفتنة بالمشرق هي التي حرّضت الشيخ التونسي المصلح والزعيم السياسي الكبير عبدالعزيز الثعالبي على ترك تونس في مطلع العشرينيات من القرن الماضي ليمضي ما يزيد على 15 سنة متنقلًا بين بلاد الشرق، مدرّسًا في بغداد، وداعية إصلاحيًّا في مصر، وفي بلاد الشام، وفي اليمن، وفي الكويت، وأيضًا في الهند، وفي إندونيسيا. وكان حلمه خدمة العالم الإسلامي، ومساعدة العرب على النهوض من جديد، حتى الزعيم الحبيب بورقيبة العاشق لعدوّته فرنسا، ولشعرائها وفلاسفتها التنويريّين والعقلانيّين، لم يسلم من غواية فتنة الشرق. فبعد الحرب العالميّة الثانية، فرّ إلى مصر عبر ليبيا بعد أن بات متأكدًا من أن السلطات الفرنسيّة تسعى لاعتقاله. وفي القاهرة، التقى الزعماء المغاربة الذين كانوا قد بعثوا هناك مكتبًا للدفاع عن قضايا المغرب العربي من أمثال علالة الفاسي، وعبدالكريم الخطابي، والدكتور الحبيب ثامر، وغيرهم. ومن رحلته المشرقيّة تلك، استخلص بورقيبة أن جلّ زعماء تلك المنطقة يكثرون من الكلام، ولا يعيرون الفعل اهتمامًا كبيرًا. وكان الملك عبدالعزيز هو الزعيم الوحيد الذي لفت انتباهه؛ لذلك أشاد بخصاله البراغماتيّة.
وبسبب شعوره المبكر بالغربة في وطنه، شرع الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي في التطلع إلى الشرق ليتعرّف تجارب شعراء المهجر. وبهم سيتأثر، مُنْجذبًا إلى جبران خليل جبران خاصة. كما سيتأثر بأفكار طه حسين وبخاصة الواردة في كتابه: «في الشعر الجاهلي». وكان يلتهم كلّ ما يأتي من القاهرة، أو من بيروت ، من كتب ومجلات، مبديًا آراءه فيما ينشر من أفكار وأشعار ودراسات نقديّة. وهذا ما نتبيّنه من خلال رسائله إلى صديقه القيرواني محمد الحليوي الذي ساعده على الاطلاع على روح الحركة الرومنطيقية في أوربا. فلمّا ضاقت به الأحوال، وصدّت كلّ الأبواب أمامه، بعث الشابي بقصائده إلى مجلة «أبولو» ليتمّ الاحتفاء بها من جانب أسرة تحريرها.
لم أسلم من فتنة الشرق
وبالرغم من أنني أنتسب إلى جيل متشبّع بالثقافة الفرنسيّة، وبلغة موليير دَرَسْتُ التاريخ، والجغرافيا، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والفلسفة، وغيرها من المواد فإنني لم أسلم من فتنة الشرق. وكم كان يروق لي أن أجلس إلى صديقي الشاعر خالد النجار الذي سافر إلى القاهرة وبيروت ودمشق في سنّ العشرين ليحدثني عن الشعراء والكتاب والفنانين والمفكرين الذين التقاهم هناك. وبلهفة بالغة كنت أقتني المجلات القادمة من عواصم الشرق؛ مثل: «الآداب»، و«شعر»، و«مجلة المجلة»، وغيرها.
وقد سمح لي مؤتمر اتحاد الكتاب العرب الذي انعقد في تونس في ربيع عام 1973م، بتعرف شعراء وكتاب كنت أحلم برؤيتهم من أمثال: الطيب صالح، ومحمود درويش، ويوسف الصائغ، وعبدالوهاب البياتي، ويوسف السباعي، وغيرهم؛ لذلك انطلقت في خريف العام المذكور إلى الشرق عازمًا على العيش فيه سنوات طويلة. وبعد أن زرت طرابلس الغرب، ودمشق، وبغداد، وبيروت التي كانت ملامح الحرب الأهليّة بادية عليها، عدت إلى وطني وفي قلبي مرارة الخيبة. وهذا ما عبّرت عنه في روايتي «الآخرون»؛ إذ رويت تفصيلات رحلتي من بدايتها إلى نهايتها، التي كانت سلسلة من الخيبات والإحباطات.
واليوم، وقد انتفت الفتنة، أنظر إلى الشرق وهو يحترق، بقلب مفعم بالأسى والألم. ويزداد أساي وألمي اتساعًا حين أعاين حرائق الشرق الأيديولوجية والدينيّة التي بدأت تهدّد بلدان المغرب أيضًا.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق