كان الفلاسفة في الماضي يتكلمون عن اللوغوس والكينونة والأيس والليس والجوهر والظواهرية والكائن الأسمى... ولكن الفلسفة في القرن العشرين نزلت إلى أرض البشر وزنقاتهم وزواريبهم، وراحت تتدخّل في حياتهم اليومية، إلى جانب اهتمامها بالأنطولوجيا والماورائيات والتاريخانية...
المقالات الأخيرة
الإشكال المشرقي المغاربي بين النهضة والحداثة
لا يكاد يخفت السجال حول العلاقة بين المشرق والمغرب حتى يستعر مرة تلو أخرى، فيُعاد طرح قضايا هذه العلاقة الثقافية الشائكة التي لم تتخلص من طابعها الإشكالي، وهذا يدل على أن السجال لم يلق خاتمته المفترضة، وأن الأسئلة التي طالما طرحها منذ عقود لا تزال من دون أجوبة شافية. وواضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا مشكلة تاريخية ما زالت تحفر في لا وعيهم الجماعي، وهي تتمثل في غيابهم عن الحركتين الرئيستين اللتين شغلتا القرن العشرين: وهما حركة النهضة، وثورة الحداثة. وفي المقابل ما برح المثقفون المشرقيون يرون أن هاتين الحركتين اللتين وسمتا القرن المنصرم هما إرث مشرقي ترسخ في جغرافيا «المركز» بين القاهرة وبغداد وبيروت، وظل المغرب العربي وقفًا على جغرافية «الأطراف» مثله مثل الخليج وسواه.
معروف أن حركة النهضة الفكرية والأدبية انطلقت من القاهرة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ونشأت فيها وترسخت خلال العقود الأولى من القرن العشرين. وكانت القاهرة حينذاك بمنزلة البوصلة التي جذبت أعلام بلاد الشام الذين وجدوا فيها ملاذًا يقيهم الطغيان العثماني، ومساحة للإبداع الفكري والشعري خاصة، وفيها أسسوا صحفًا، وكتبوا وأبدعوا وناضلوا. أما حركة الحداثة، والمقصود هنا الحداثة الشعرية، فانطلقت في مرحلتها الأولى في بغداد من خلال الثورة التي أعلنها بين نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين، شعراء مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وسواهم.
لكن حركة الحداثة ما برحت أن انتقلت إلى بيروت مع انطلاق مجلة «شعر» عام 1957م، وهي المجلة التي جسدت المشروع الحداثي، ليس في الشعر فحسب؛ إنما فكريًّا وفنيًّا أيضًا، نظريًّا وإبداعيًّا، وقد جمعت في بداياتها شعراء ونقادًا من لبنان وسوريا والعراق. وبرزت هنا أيضًا مجلة «الآداب» التي أسسها ورأس تحريرها الروائي سهيل إدريس عام 1956م، وكانت تمثل مرجعًا للتيار العربي القومي، والأدب الملتزم.
اضطراب المعادلة الثقافية
لا شك في أن غياب المغرب العربي عن هاتين الحركتين جعل المعادلة الثقافية المشرقية المغربية في حال من الاضطراب وعدم الانصهار، لا سيما أن هذا المغرب سرعان ما شهد حركة فكرية استطاعت خلال ما يقارب العقدين أن توازي الحركة الفكرية المشرقية، وبخاصة المصرية، وأن تتخطاها لاحقًا. ولعل مفكرين في حجم عبدالله العروي، ومحمد أركون، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وفاطمة المرنيسي، وعبدالكبير الخطيبي، وعبدالفتاح كيليطو، وجمال الدين بن شيخ، وسواهم، كانوا في مقدّم الموجة الفكرية الحديثة، وساهموا في تأسيس تيار فكري جديد وطليعي في طروحاته وتطلعاته ومناهجه.
أما الإبداع الأدبي والشعري، فكان عليه أن ينتظر قليلًا حتى يبرز على الصعيد العربي، وقد بدا أثر بعض الشعراء والروائيين المشارقة فاعلًا في نشوء الحداثة المغاربية، إن أمكن القول، لا سيما عبر أدونيس وشعراء مجلة «شعر»، وكتّاب مجلة «الآداب»، لكنّ الجيل اللاحق والأجيال التي أعقبته ما لبثت أن تفردت بإبداعها ورؤيتها الحداثية، ومقاربتها الجمالية للغة، متمردة على الإرث المغاربي الذي غالبًا ما عرف بأصالته التقليدية، ولغته التقعيرية «أركاييك». وأغلب الظن الآن أن المبدعين المغاربة والمشارقة، ومبدعي جميع «الأطراف» (أو ما كان يسمى «الأطراف» سابقًا) باتوا في حال من التساوي والانصهار بعدما زالت التخوم الجغرافية، وغابت «المركزية»، ولم يعد هناك من عواصم تقصر الإبداع على نفسها.
لم تعد بيروت عاصمة الشعر الجديد، ولا القاهرة عاصمة الرواية الجديدة، وإن كانت هي الأغزر على الصعيد العددي، ولا بغداد وسواها. لقد تحررت الحركة الإبداعية العربية الراهنة من وطأة الجغرافية، وباتت تدور في أفق عربي واسع يضم كل الدول، إضافة إلى المنفى أو المغترب. وقد ساهمت حتمًا مساحة الإنترنت في السنوات الأخيرة في صهر التجارب العربية، ولا سيما بعضها ببعض، حتى بات المبدعون العرب ينتمون إلى أجيال وتيارات شاملة أكثر مما ينتمون إلى عواصم وبلدان.
العقدة المشرقية
وعلى الرغم من صعود نجم الحضور المغاربي، لا سيما في حقول مهمة مثل الفلسفة الحديثة والفكر والترجمة والنقد الأكاديمي، وقد تجلى هذا الحضور كل التجلي في هذه الحقول، وبات سباقًا، وكذلك في حقلي الرواية والشعر بدءًا من السبعينيات، فما زال بعض المثقفين يعانون ما يمكن تسميته «العقدة» المشرقية، وبخاصة فيما يتعلق بحركتي النهضة والحداثة. وليست المواقف السلبية أو المتوترة التي تُعلن حينًا تلو آخر في مضمار هذه العلاقة، إلا تعبيرًا عن الإشكال الذي لم ينته حتى الآن. وما يزيد من استعاره مواقف بعض المشارقة التي لا تخلو من الغلو في مدح الريادة المشرقية. لكن ذنب تغيّب المغرب العربي أو غيابه عن النهضة والحداثة لا يقع على عاتق المشارقة. والمسألة أبعد من أن تحد في إطار الجغرافيا أو الجهات. وليس من المستغرب أن يغيب المغرب العربي مثلًا عن كل الأبحاث النقدية والتاريخية التي تتناول النهضة والحداثة، ما خلا بضع ملامح أو أسماء قليلة جدًّا. الناقد والباحث في تاريخ الأدب العربي، قديمه وحديثه الأب حنا الفاخوري الذي وضع واحدًا من أهم الكتب المرجعية عن الأدب المغاربي وعنوانه «تاريخ الأدب العربي في المغرب» لم يذكر في كتابه الموسوعي «الجامع في تاريخ الأدب العربي» (الأدب الحديث) سوى اسم الشاعر التونسي النهضوي أبي القاسم الشابي. حتى أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول» في أجزائه الأربعة لم يركز على أي شاعر من المغرب العربي.
شعراء بنيس غير المعروفين
ولعل هذا «التغييب» الذي يخضع لمقياس موضوعي حدا الشاعر والناقد محمد بنيس على إبراز شعراء مغاربة في كتابه الضخم «الشعر العربي الحديث» في أجزائه الأربعة، سواء في مرحلة النهضة أم الحداثة. ففي الجزء الذي خصه بما يسمى النزعة التقليدية أورد اسم الشاعر المغربي محمد ابن إبراهيم (1897-1955م) المكنى بـ«شاعر الحمراء»، إلى جانب أسماء شعراء نهضويين كبار من أمثال: أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، ومحمد مهدي الجواهري. أما في الجزء الخاص بالنزعة الرومانطيقية فأدرج اسم الشاعر المغربي عبدالكريم ابن ثابت (1917-1961م) مع أسماء كبيرة مثل: خليل مطران، وجبران خليل جبران، وأبي القاسم الشابي. وفي الجزء الخاص بالشعر المعاصر أورد اسم الشاعر المغربي محمد الخمار الكنوني (1941-1991م) إلى جانب أسماء رائدة من أمثال: بدر شاكر السياب، وأدونيس، ومحمود درويش.
لم يركز بنيس على أسماء هؤلاء الشعراء المغاربة غير المعروفين عربيًّا، ويمعن في دراستهم مثلهم مثل نظرائهم المشارقة، إلا ليعيد إلى الشعر المغاربي حضوره ودوره المنتقص في مرحلتي النهضة والحداثة. وبدا واضحًا أن من المستغرب أن يدرج اسم الشاعر محمد الخمار الكنوني إلى جانب أسماء الرواد الثلاثة، مع أنه لم يصدر سوى ديوان واحد هو «رماد هسبريس» الذي صدر متأخرًا عن دار توبقال عام 1987م.
أما كتاب الشاعر محمد بنيس الأكاديمي «الشعر العربي الحديث» في أجزائه الأربعة، وسائر أعماله النقدية النظرية والتطبيقية، فبدت خطوة مهمة نحو ترسيخ الشعرية المغربية تاريخيًّا وحداثيًّا، وقد آزرته مجموعة من النقاد الجدد في إيضاح خصائص هذه الشعرية وهويتها الأنطولوجية ودلالاتها، ومن هؤلاء النقاد: محمد مفتاح، والشاعر صلاح بوسريف، وعبدالرحيم جبران، ومصطفى الغرافي، وعبدالفتاح الحجمري، وسواهم.
وبات من الممكن الكلام عن شعرية مغاربية انطلاقًا من الجهود التي بذلها أيضًا نقاد في تونس والجزائر، ومنهم محمد لطفي اليوسفي، والمنصف الوهايبي. وكان صدور مجلة «انفاس» (سوفل) المغربية عام 1973م بالفرنسية أولًا، ثم بالعربية، حدثًا شعريًّا مهمًّا على مستوى الشعر المغاربي الفرانكفوني والمكتوب بالعربية. هذه المجلة أرست ما يمكن تسميته الحداثة الشعرية المغاربية التي تضاهي الحداثة المشرقية الموازية لها زمنيًّا، وقد شارك في تأسيسها الطاهر بن جلون، ومصطفى النيسابوري، وعبداللطيف اللعبي، ومحمد خير الدين. ثم صدرت مجلة «الثقافة الحديثة» عام 1974م التي أسسها محمد بنيس مع الكاتب مصطفى المسناوي، وأعقبتها مجلة «البيت» الصادرة عن «بيت الشعر المغربي». وعلى الرغم من انفتاح هذه المجلات على الأدب العربي الراهن والأدب العالمي، فإنها بدت كأنها تتبنى مشروعًا أساسيًّا، هو بلورة الهوية المغربية ثقافيًّا وأدبيًّا وشعريًّا، وجعلها هوية عربية، ولكن منفتحة على آفاق فرانكفونية وعالمية، وهذا يسبغ عليها سمات التفرد والخصوصية.
المنشورات ذات الصلة
تلوين الترجمة… الخلفية العرقية للمترجم، وسياسات الترجمة الأدبية
في يناير 2021م، وقفت الشاعرة الأميركية «أماندا جورمان» لتلقي قصيدتها «التل الذي نصعده» في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو...
النسوية والترجمة.. أبعد من مجرد لغة شاملة
في 30 سبتمبر 2019م، شاركت في مؤتمر (Voiced: الترجمة من أجل المساواة) الذي ناقش نقص منظور النوع في دراسات الترجمة...
ألمانيا الشرقية: ماذا كسبت وماذا خسرت بعد ثلث قرن من الوحدة؟
تقترن نهاية جمهورية ألمانيا الشرقية في أذهان الأوربيين بصورة حشد من الناس الذين يهدمون جدار برلين بابتهاج، وتُعَدّ...
0 تعليق